الزمن في الشدائد لغز ما له تفسير، في الشدائد يشعر الإنسان أن عقارب الساعة تتوقف عن الدوران وأن الحزن والألم لا يغادرانه، ولكنه في الوقت نفسه يشعر أن الزمن يمر بسرعة. هذا ما يشعر به المسلمون الكنديون في هذه الأيام، ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي عطرت جدران مسجد كيبيك الكبير دماء طاهرة لأخوة لنا حصدهم رصاص الحقد والكراهية، عام مضى وكأن المأساة وقعت ليلة أمس؛ فالجراح لم تندمل بعد ولا أتصور أنها ستندمل يومًا، ولكن في نفس الوقت توالت الأحداث وكأنَّ سنوات عديدة مرت على هذه المجزرة.
لقد أحيا المجتمع المدني والسياسي الكندي عامة والكيبيكي خاصة الذكرى السنوية الأولى لهذه المجزرة على مدار أربعة أيّام متتالية، وكانت هذه الذكرى موضوع اهتمام الإعلام بكل أشكاله من إعلام مكتوب ومرئي ومسموع، ولكن بعد كل هذا الاهتمام المدني والسياسي وبعد كل هذا الضجيج الإعلامي لا بد من التساؤل عن أحوال المسلمين في هذا البلد وإلى أين يسيرون، وسنحاول الإجابة عن هذا السؤال قدر المستطاع وإن كان يصعب إعطاؤه حقه من التفصيل والتحليل، فما لا يدرك كله لا يترك جله:
1- لقد كانت حصيلة المجزرة مقتل ستة أخوة نحسبهم عند الله شهداء، وست أرامل، وسبعة عشر يتيمًا، وأخًا معاقًا يرى الأطباء أنه سيبقى معاقًا مدى الحياة، بالإضافة إلى العديد من الأخوة الذين سيقضون حياتهم يعانون من الآثار النفسية لما عاشوه ورأوه في المسجد في تلك الليلة العصيبة.
2- شهدت كندا في الأيام والأسابيع التي تلت المجزرة موجة لا مثيل لها من التعاطف والتضامن مع المسلمين وكان ذلك على الصعيد الرسمي والشعبي.
3- مع مرور الوقت، بدأت موجة التعاطف والتضامن تضعف لتعود أجواء التخويف من الإسلام والمسلمين، أو ما يسمى بالإسلاموفوبيا، تخيم شيئًا فشيئًا على المجتمع وكأن شيئًا لم يحدث، وهكذا تكررت على مدار السنة حوادث المضايقات للمسلمين والاعتداء بالتخريب على المراكز الإسلامية، هذه الاعتداءات تتوجت بإشعال النار في سيارة رئيس مجلس إدارة مسجد كيبيك الكبير، هذا المسجد هو ذاته الذي تعرض للاعتداء الإرهابي في 29 من يناير/كانون الثاني 2017.
تقدمت بعض الجمعيات الإسلامية بطلب إلى رئيس وزراء كندا بإعلان يوم 29 من يناير/كانون الثاني يومًا وطنيًا لمكافحة الإسلاموفوبيا
4- تشهد الساحة الكندية صعودًا للتيار القومي اليميني المتطرف المعادي للمهاجرين بشكل عام وللمسلمين بشكل خاص، هذا التيار المتطرف ينشط بشكل خاص على صفحات التواصل الاجتماعي وفي بعض الأحيان في المظاهرات، وستجري في العام الحاليّ الانتخابات البرلمانية العامة في مقاطعة كيبيك وستجري في العام القادم الانتخابات البرلمانية العامة في كندا؛ ويتخوف الكثير من المسلمين من أن يستغل هذا اليمين المتطرف الانتخابات ليفرض أفكاره العنصرية على برامج الأحزاب السياسية المتنافسة التي لا مناص لها من محاولة كسب الأصوات ولو كان ذلك في بعض الأحيان على حساب بعض شرائح المجتمع التي يسهل تهميشها والتضحية بحقوقها على مذبح المهاترات الانتخابية.
5- أظهرت الإحصاءات تضاعف جرائم الكراهية ضد المسلمين.
6- تقدمت حكومة كيبيك بقانون أطلق عليه اسم “قانون حيادية الدولة” وكان من بين بنود هذا القانون منع المنتقبات من إعطاء أو تلقي الخدمات العامة، وأنشأت هذه الحكومة أيضًا لجنة لدراسة العنصرية الممنهجة، نتج عن إصدار هذا القانون وإنشاء هذه اللجنة شرخ عميق في المجتمع الكيبيكي، كان مناسبة ذهبية لتجييش العواطف وإفساح المجال لأصحاب الميول العنصرية لنفث سموم عنصريتهم على الإسلام والمسلمين؛ مما أجبر الحكومة على التراجع وتغيير اسم اللجنة ومهمتها، فبهذه الطريقة حاولت الحكومة امتصاص النقمة التي قد لا تحمد عقباها في مرحلة الاستعداد للانتخابات النيابية العامة.
7- تقدمت بعض الجمعيات الإسلامية بطلب إلى رئيس وزراء كندا بإعلان يوم 29 من يناير/كانون الثاني يومًا وطنيًا لمكافحة الإسلاموفوبيا، هذا الطلب الذي يقول رئيس الوزراء الكندي إنه لا يزال قيد الدراسة، تم رفضه من أكثرية الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان الكيبيكي، علمًا بأن المجزرة حدثت في مدينة كيبيك التي هي عاصمة مقاطعة كيبيك.
هذه هي التطورات السلبية التي يعيشها المسلمون في كيبيك وكندا بعد مرور عام على مجزرة مسجد كيبيك الكبير العام الماضي، ولكن هل الأمور كلها قاتمة وتدعو إلى التشاؤم؟ طبعا الجواب “لا” لأن هنالك الكثير من الأمور التي تدعو للتفاؤل، ومنها، تصويت البرلمان الكندي على اقتراح، اقتراح رقم 103، لتشكيل لجنة لدراسة ظاهرة الإسلاموفوبيا وإيجاد آليات لمكافحتها.
كان المواطن المسلم متهمًا ومدانًا دون أن يفسح له المجال لشرح وجهة نظره وإبراز الحقيقة، فقلما كان يطلب رأيه في هذه الأمور، وإذا ما دعي أحد ما للإدلاء برأيه
أيضًا، وسائل الإعلام الرئيسيّة من صحف وراديو وتليفزيون بدأت تتوخى الحذر والحيادية عند معالجتها لأمور تهم المسلمين، ففي الماضي كانت هذه الوسائل تتعامل مع الشأن الإسلامي بطريقة متحيزة وإلى حد ما معادية للإسلام والمسلمين، فكانت أصابع الاتهام توجه إلى المسلمين قاطبة في كل مرة يقع فيها اعتداء من طرف مسلم ما في مكان ما من العالم وكأن المسلمين في كل أنحاء العالم مسؤولون عن تصرفات أي مسلم في أي مكان من العالم، وكان الإسلام، من وجهة نظر وسائل الإعلام هذه، دائمًا متهمًا بالإرهاب لأن شرذمة من المسلمين أو ممن يدعون الإسلام، تقوم بأعمال إرهابية.
كان المواطن المسلم متهمًا ومدانًا دون أن يفسح له المجال لشرح وجهة نظره وإبراز الحقيقة، فقلما كان يطلب رأيه في هذه الأمور، وإذا ما دعي أحد ما للإدلاء برأيه، غالبًا ما كان يدعى أشخاص معادون للإسلام، وإن كانوا في بعض الأحيان يحملون أسماءً إسلامية، ويطلق على هؤلاء الأشخاص ألقاب “خبير بالشؤون الإسلامية” أو “خبير بشؤون الاٍرهاب” أو “خبير بشؤون الأمن القومي” وما شابه من ألقاب ما أنزل الله بها من سلطان.
أما الآن فإننا نلاحظ بعض الحرفية والحيادية في التعامل مع الشأن الإسلامي، وبدأنا نرى ظهورًا إعلاميًا لكثير من المطلعين فعلاً على الشؤون الإسلامية والمدافعين عن حقوق المسلمين، ولقد كان لكاتب هذه السطور كما يعرف الكثير من القرّاء حظ وافر من الظهور الإعلامي للدفاع عن صورة الإسلام وحقوق المسلمين في هذا البلد، بكلمة مختصرة، فبعد أن تعوَّد الإعلام في الماضي على الكلام عن المسلمين، أصبح الآن يتكلم مع المسلمين وهذا تغيير جذري على طريق إظهار الحقيقة وإحقاق الحق.
– لقد أصبحت القيادات السياسية بمجمل أطيافها تشعر أنه من غير الممكن الاستمرار بتهميش المسلمين كما كان يحصل في الماضي، فالمسلمون جزء لا يتجزأ من المجتمع ويجب أن يتمتعوا بحقوقهم وأن يقوموا بواجباتهم كأي مواطن آخر، لقد أصبح السياسيون كالإعلاميين، ولو بدرجات تختلف من شخص لآخر ومن تيار سياسي لآخر، يشعرون أن الكلمة مسؤولية وأن هنالك مخاطر للاستمرار على ما اعتادوا عليه من الاستخفاف بمشاعر شريحة معينة من المواطنين (المسلمين)، فلقد أصبح للمسلمين حلفاء لا يمكن الاستهانة بوجودهم، فمنظمات المجتمع المدني لم تعد تسمح بالاستفراد بمكونات المجتمع كل واحدة على حدة.
نأمل أن يكون المسلمون قد تعلموا من تجربتهم وأنهم في هذا المجال قد خسروا معركة ولكنهم لم يخسروا الحرب، نتمنى أن يكون النجاح حليفهم في المستقبل لتطهير المجتمع من الإسلاموفوبيا وبناء المجتمع الآمن الذي ينعم فيه كل أبنائه بالأمن والأمان
– بدأت كلمة إسلاموفوبيا تشق طريقها ولو ببطء نحو القبول وبدأت القيادات الفكرية والسياسية، ولو بدرجات تختلف من شخص لآخر ومن تيار سياسي لآخر، تعترف بوجود هذه الآفة في المجتمع، ولكن الناس يختلفون على تحديد المسار الذي يجب اتباعه للقضاء عليها.
لقد حاول العديدون في الماضي الاختباء وراء منفذ الاعتداء على مسجد كيبيك الكبير مدعين أن العمل فردي ويجب عدم استعمال هذا الاعتداء كدليل على وجود الإسلاموفوبيا في البلد، لكن الأحداث قبل الاعتداء وبعده أثبتت أن مرض الإسلاموفوبيا موجود ولا لا يمكن التغاضي عنه ولا يجوز الاختباء وراء شخص واحد للتهرب من المسؤولية، فحملة الدعاية العنصرية وحوادث الاعتداء على المسلمين والمراكز الإسلامية التي شهدتها كندا طيلة العام الماضي لم تكن من فعل هذا الشخص الذي كان منذ اقتراف جريمته ولا يزال قابعًا خلف جدران السجن.
لا شك أنه من المبالغة اعتبار عدم قبول الطلب الذي قدمته بعض الجمعيات الإسلامية لإعلان يوم 29 من يناير/كانون الثاني يومًا وطنيًا لمكافحة الإسلاموفوبيا رفضًا للاعتراف بوجود الإسلاموفوبيا وضرورة مكافحتها، فكما ذكرنا آنفًا، معظم القيادات السياسية والفكرية في البلد تعترف الآن بوجود هذه الآفة وضرورة مكافحتها وإن كانت هذه القيادات تختلف على المسار الذي يجب اتخاذه لتحقيق هذا الهدف.
الحملة الشعواء ضد مطلب إعلان يوم وطني لمكافحة الإسلاموفوبيا والشرخ الذي أحدثته هذه الحملة في المجتمع وضَعَ السياسيين في موقع لا يحسدون عليه وهم على أبواب معركة انتخابية
لا بد من الاعتراف، من باب النقد الذاتي، فالاعتراف بالخطأ فضيلة، أن الطريقة التي استعملها مقدمو طلب إعلان يوم 29 من يناير/كانون الثاني يومًا وطنيًا لمكافحة الإسلاموفوبيا لم تكن الطريقة المثلى، لقد أرسلت الرسالة لرئيس الحكومة المعروف بتعاطفه مع القضايا العادلة بما فيها قضايا المسلمين ونشرت هذه الرسالة في الصحف قبل أن تحدد الحكومة موقفها، ولهذا لا بد من القول “ما هكذا يا سعد تورد الإبل”.
مجرد نشر الرسالة في الصحف قبل أن تحدد الحكومة موقفها من المسألة كان دعوة لكل المتخوفين من الإسلام والمعادين للمسلمين ليرصوا صفوفهم ويشحذوا أسلحتهم للوقوف ضد هذا المطلب الذي لا نشك بعدالته، وهكذا شهد البلد حملة شعواء ضد هذا المطلب وحاول المعارضون تصويره على أنه اتهام لكل المجتمع بأنه إسلاموفوبي وهذا بالتأكيد غير صحيح، فالمجتمع ليس كله إسلاموفوبي والمطلب لا يلصق هذه التهمة بالمجتمع ككل، ولكن مرض الإسلاموفوبيا موجود في المجتمع ولا بد من علاجه لحماية أبناء المجتمع كافة، وليس فقط المسلمين، من أخطار هذا المرض الخطير.
الحملة الشعواء ضد مطلب إعلان يوم وطني لمكافحة الإسلاموفوبيا والشرخ الذي أحدثته هذه الحملة في المجتمع وضَعَ السياسيين في موقع لا يحسدون عليه وهم على أبواب معركة انتخابية، فقد كان على الجمعيات الإسلامية التي قدمت الطلب وأخرجته للعلن أن تتفهم حساسية المجتمع الكيبيكي خاصة في عام انتخابي وأن تتصرف بغير هذه الطريقة، للمسلمين أصدقاء وحلفاء في البرلمان والحكومة، كان من الواجب التنسيق مع هؤلاء الحلفاء وعدم تسريب الرسالة للإعلام قبل الآوان، فكما يعرف كل مفاوض ذي خبرة في مجال المفاوضات، لا يمكن التفاوض على صفحات الجرائد، كان من الواجب التفاوض مع الحكومة والاتفاق معها على الخطوات التالية بما فيها الإعلان حتى لا تعطى الفرصة لأعداء المسلمين في المجتمع للانقضاض على الفكرة ووأدها في المهد كما فعلوا.
ولكننا نأمل أن يكون المسلمون قد تعلموا من تجربتهم وأنهم في هذا المجال قد خسروا معركة ولكنهم لم يخسروا الحرب، نتمنى أن يكون النجاح حليفهم في المستقبل لتطهير المجتمع من الإسلاموفوبيا وبناء المجتمع الآمن الذي ينعم فيه كل أبنائه بالأمن والأمان.