ترجمة وتحرير: نون بوست
بدأت المجزرة الإسرائيلية في مخيم النصيرات لتحرير أربعة أسرى إسرائيليين لدى فصائل المقاومة في قطاع غزة في الساعة 11:00 صباح يوم 8 حزيران/ يونيو الجاري. وعلى الرغم من أن مشاهد الفلسطينيين وهم يركضون بحثًا عن الأمان بدت مألوفة للأسف، إلا أن هذا الاجتياح كان مختلفًا عن الاجتياحات الأخرى التي شهدها قطاع غزة.
هذه المرة، ارتدى الجيش الإسرائيلي ملابس مدنية، وركبوا سيارات فلسطينية وتنقلوا بين الناس متنكرين. لم تكن هناك تحذيرات بالإخلاء أو أوامر من الجيش بالانتقال إلى مكان آخر، وفوجئ الناس بالقوات الخاصة والدبابات الإسرائيلية. ولم يكشف عدد كبير من القوات الخاصة المختبئة بين الناس عن أنفسهم إلا بعد أن بدأت العملية القاتلة؛ حيث اقتحمت قوات خاصة أخرى المنطقة متنقلين في سيارات محملة بالأمتعة، وهي نفس الأمتعة التي يحملها النازحون معهم مثل الفرش والوسائد والبطانيات والحقائب. وعندما اكتشفهم الفلسطينيون، سارع الجنود إلى طلب الدعم، وهبطت المروحيات والطائرات المقاتلة والمدفعية والدبابات. ثم بدأت طائرات الاستطلاع والجنود المشاة بارتكاب المجازر ضد السكان المدنيين.
وسرعان ما أنذرت كثافة القصف وإطلاق النار السكان بأن مذبحة على وشك الحدوث. فغادروا منازلهم وخرجوا إلى الشوارع راكضين بحثًا عن الأمان الذي لم يجدوه.
وقد أسفرت العملية الإسرائيلية عن مقتل 274 فلسطينياً، من بينهم 64 طفلاً، وإصابة 689 فلسطينيًا في المجمل. “بعض الجثث التي وصلت إلى المستشفى كانت عبارة عن أشلاء وجثث مقطعة الأوصال”، هذا ما ذكرته وزارة الصحة في غزة عند الإعلان عن أعداد الضحايا.
وبينما يحتفل العالم بتحرير أربعة رهائن إسرائيليين من قطاع غزة، وتركز وسائل الإعلام على حياتهم وحريتهم وسعادة عائلاتهم، لا يكاد يذكر عدد الضحايا الفلسطينيين أو النظر إلى أن كل واحد من القتلى يترك وراءه عائلة مفجوعة.
نجا عصام حجاج، 27 سنة، من المذبحة وتحدث إلى موندويس، قائلًا: “كنا نهرب من القصف والقتل. في كل الاتجاهات، كان هناك إما قصف أو دبابة إسرائيلية أو مسلحون إسرائيليون يطلقون النار على كل من يعترض طريقهم. وبينما كنا نهرب من الموت، رأيت جثثًا مقطعة الأشلاء على الطريق نتيجة القصف، ورأيت من تركوا أحباءهم تحت الأنقاض وهربوا لإنقاذ من تبقى من العائلة”.
وأضاف: “لم نكن نعرف من أي اتجاه سيأتينا الموت”.
تشريح المجزرة
بعد الهجوم، أعلن الجيش الإسرائيلي أن عنصر المفاجأة كان حاسمًا. ولهذا السبب تمت العملية العسكرية خلال ساعات النهار وفي منطقة مكتظة بالسكان. وهذا أيضًا هو السبب في وقوع هذا العدد الكبير من الضحايا الفلسطينيين.
ويقول حجاج إنه في غضون دقائق من بدء الاجتياح حاصرت القوات الإسرائيلية الموقع المستهدف من جميع الجهات ولم تترك أي طريق لهروب الناس إلا طريقًا واحدًا هو طريق الزهور الواصل بين النصيرات ودير البلح. لكن في نفس الوقت الذي وقعت فيه مجزرة النصيرات، كان الناس يفرون إلى النصيرات بالقرب من مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، وكان الناس يستخدمون هذا الشارع للوصول إلى هناك. إن الازدحام الشديد في الشارع أثناء القصف المتواصل تسبب في نشر الذعر، وسرعان ما بدأت الجثث تتطاير نتيجة الاستهداف المباشر لكل شيء في تلك المنطقة.
ويروي حجاج ما حدث قائلًا: “أثناء هروبنا، رأينا الجثث تُحمل في سيارات متجهة إلى مستشفى شهداء الأقصى. وكانت النساء يصرخن في الشوارع، وكان الأطفال يبكون ويصرخون. رأيت عائلة كانت تهرب معًا، وسقطت قذيفة على الأب وقتلته أمام زوجته وابنته الصغيرة. وبعد أن نهضت الأم وحملت ابنتها، اكتشفت أن زوجها قد قُتل، فتركته على الأرض وهربت لتنقذ ابنتها ونفسها”.
ويوضح حجاج أن الموقع المستهدف كان بنايتين بالقرب من مستشفى العودة في مخيم النصيرات، ولكن للوصول إلى هاتين البنايتين؛ قام الجيش الإسرائيلي بتدمير مربع سكني كامل. ويقول إن الجيش الإسرائيلي تمكن من تحرير أكثر من أربعة أسرى، إلا أن كثافة نيران المقاومة الفلسطينية منعتهم من إخراج المزيد من الأسرى.
وأكدت كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس في قطاع غزة، هذه الرواية في شريط فيديو نشرته أعلنت فيه مقتل ثلاثة أسرى إسرائيليين في القصف الإسرائيلي لمخيم النصيرات.
وقالت القسام في الفيديو: “نبلغكم بأن جيشكم قتل ثلاثة أسرى في نفس المعسكر أحدهم يحمل الجنسية الأمريكية”، وشددت مجموعة المقاومة على أن الأسرى الإسرائيليين المتبقين لن يتم تحريرهم حتى يتم الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية أيضا.
ونشر العديد من الفلسطينيين صورًا وفيديوهات من المشهد في النصيرات تؤكد الروايات المباشرة التي جمعها “موندويس”، والتي تظهر دخول مركبة للقوات الخاصة الإسرائيلية إلى المخيم في بداية الاجتياح والذي تلاه قصف عشوائي كغطاء داعم. وتُظهر مقاطع فيديو أخرى سيارة محملة بالأمتعة تدخل منطقة بلوك 5 في مخيم النصيرات وتقتل شخصًا عند باب أحد المباني. وبعد ذلك استخدمت القوات الإسرائيلية سلالم حديدية للوصول إلى الطوابق العليا، كما ظهر في إحدى الصور التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولا تزال تفاصيل أخرى عن الاجتياح قيد التحقق. وتداول الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا يبدو أنها تشير إلى أن الرصيف العائم الذي أنشأته الولايات المتحدة على ساحل غزة استخدم كنقطة انطلاق للعملية، وهو ما نفته القيادة المركزية الأميركية.
واستمرت الاشتباكات لأكثر من ثلاث ساعات. وخلال هذه الفترة، استخدم الجيش الإسرائيلي القوة المفرطة في هدم المنازل وقتل المئات من السكان في محيط العملية.
“لم أكن أعتقد للحظة أنني قد أنجو”
يجلس الطفل توفيق أبو يوسف، 11 سنة، في مستشفى ناصر في خان يونس حيث يتم علاجه، وجهه ملطخ بالدماء وعيناه متورمتان باللون الأزرق بعد أن تم انتشاله من تحت أنقاض منزلهم في النصيرات، ويقول إنه لا يعرف كيف نجا من الموت.
وقال الطفل لموقع “موندويس”: “فجأة تغير الوضع في المنطقة وبدأ الناس يركضون في خوف قائلين إن القوات الخاصة اقتحمت المنطقة. كل هذا كان يحدث أمام بيتنا وكنا عالقين بالداخل تحت النيران والقصف حاولنا الخروج ولكن الطائرات المسيرة أطلقت النار علينا حتى تم قصف البيت وانهار فوق رؤوسنا”.
وأضاف: “قبل أن يتم قصف منزلنا، رأينا الناس في الشارع المقابل لمنزلنا على الأرض مقطعين. ورأينا الصواريخ تصيب الناس الهاربين في الشوارع، وكيف حولتهم إلى أشلاء وكيف كانت الطائرات تقصف كل شيء يتحرك في الشوارع – السيارات والناس. كان الشارع ممتلئًا بالناس، وفجأةً، جميعهم… أصبحوا على الأرض، والدخان والدماء يملآن المكان. كان هناك قصف وشظايا تطير في كل مكان نظرنا إليه”.
وبينما كان توفيق يسند ظهره إلى حائط المستشفى ويجلس على الأرض لتلقي العلاج، قال إنه لم يتوقع أن ينجو من هذه المجزرة. لقد كانت المشاهد التي رآها صعبة لدرجة لا تُصدق.
وقال: “لقد بقيت تحت الأنقاض لساعات، ولم أعتقد للحظة أنني قد أنجو وأرى الحياة مرة أخرى. لقد عشت الموت بما فيه الكفاية عندما كنت تحت الأنقاض. وكان ذلك هو الموت، ولا أعتقد أنني سأنسى أو أتجاوز هذه اللحظات”.
نُفّذت العملية بالقرب من سوق مركزي، حيث كان أمجد أبو لبن، 43 سنة، يبيع بعض المواد الغذائية على الطريق. لقد نجا من الموت لكنه أصيب بجروح مختلفة في يده وقدمه.
يقول إن كل شيء بدأ دفعة واحدة: طائرات ودبابات وإطلاق نار، وكان الناس وسط القصف والموت ولم يعرفوا كيف يتصرفون أو إلى أين يتجهون.
وقال أبو لبن لموندويس: “بدأ القصف المكثف في عدة مناطق أمامنا وحولنا وخلفنا، وبدأ الناس يتساقطون على الأرض بالعشرات بالقرب من مستشفى العودة في مخيم النصيرات. لقد رأينا أمام أعيننا جثثًا ممزقة ومتناثرة على الطرقات، ورأينا جنودًا متخفين في ثياب مدنية وفي سيارات مدنية يركضون ويقتلون كل من يقابلهم في طريقهم دون تمييز بين طفل أو امرأة أو شاب أو شيخ. لقد رأينا جثث إخواننا مقطعة، بدون رؤوس وملقاة على الأرض”.
وأضاف: “لا يمكن وصف هذه المجازر التي وقعت أمام عيني”.
وفي المستشفى نفسه، يرقد محمود الحوّار، 27 سنة، على ظهره نتيجة إصابة في ساقه. وقد شهد الحوّار المجزرة بينما كان يحاول بشجاعة إنقاذ عائلته وجيرانه من القصف.
ويقول لموندويس: “قامت الطائرات بقصف منزل جيراننا، وكانت هناك فتاة تحت الأنقاض تصرخ لإنقاذها. ذهبت مع أصدقائي لمحاولة إنقاذها، لكن الأنقاض كانت ثقيلة، ولم نستطع إزالة الحطام أو حتى رفعه للوصول إلى تلك الفتاة، فانتظرنا حتى وصل فريق الدفاع المدني. وتجمع عدد كبير من الشباب لمحاولة إنقاذها. لكن الطائرات قصفتنا”.
وروى الحوّار أنه شعر بالصاروخ يصيبه هو ومجموعة من أصدقائه فوقعوا على الأرض. وبعد دقائق، استعاد محمود وعيه ووجد نفسه مغطى بالدماء ورأى أصدقائه بجواره على حافة الموت.
وأضاف: “لو قلت لك أنني رأيت أكثر من 10 طائرات مسيرة فوق رؤوسنا قبل أن يتم قصفنا لما كنت ستصدق ذلك. كنا ننظر إلى السماء ولم نكن نعرف ما الذي يحدث.”
وبعد القصف، حاول الحوار الوقوف لينقذ نفسه وأصدقاءه. وقال: “حاولت الوقوف، لكنني لم أستطع. لقد كنت مغطى بالدماء. ونظرت إلى ساقي فوجدتها مقطوعة. ونظرت إلى أعز أصدقائي بجانبي فوجدته يلفظ أنفاسه الأخيرة.”
كانت إصاباتهم جميعًا خطيرة، وعندما وصل من يستطيع نقلهم إلى المستشفى، وُضع الأصدقاء الخمسة فوق بعضهم البعض في شاحنة نقل صغيرة، وكان الحوار تحتهم جميعًا.
وقال: “كنت أتألم من إصابتي، ولكنني كنت أشعر بألم أكبر لأنني كنت أسمع أصدقائي ينطقون الشهادة ويلفظون أنفاسهم الأخيرة. وكان جميع أصدقائي يموتون فوقي، وكنت أسمع وأشعر بكل شيء. لقد قُتلوا جميعًا. بعضهم استشهدوا في الطريق أمام عينيّ، وبعضهم استشهدوا في وقت لاحق”.
اتفق الحوّار على أن المشاهد التي رآها للقتلى في الشوارع لن تنسى أبدًا. وأضاف: “لم أنم منذ الحادثة. لا أستطيع النوم. لا أستطيع نسيان أي شيء شاهدته ورأيته. ولا يمكنني أن أنسى الناس الذين كانوا يركضون مذعورين وخائفين يبحثون عن أقاربهم وعائلاتهم وسط الدمار والجثث الممزقة”.
استمرار عمليات الإنقاذ
لا تزال فرق الإنقاذ تعمل في النصيرات بإمكانيات محدودة في محاولة لانتشال الجثث التي بقيت تحت الأنقاض. ولا يزال العديد من السكان في عداد المفقودين بسبب القصف الهائل في المنطقة، والعديد من المنازل التي هُدمت بعضها فوق رؤوس ساكنيها. بينما قُتل الكثيرون في السوق وهم يحاولون تلبية احتياجات أسرهم.
لخص أنيس غنيمة، وهو ناشط في مخيم النصيرات، عملية القتل العبثي على وسائل التواصل الاجتماعي قائلًا: “هذا ما يحدث عندما نقول أننا معرضون للقتل في أي لحظة. تخيلوا أن معظم الذين رحلوا للتو كانوا في السوق فقط، يحاولون تلبية احتياجات أسرهم. ضع نفسك مكان الطفل الذي قضى الليل كله يلح على أمه لتشتري له بعض الحاجيات، لكنها قُتلت اليوم أثناء الغارات. كيف يمكننا أن نحدثه عن السلام في هذا العالم”.
المصدر: موندويس