ترك عمار ذو الـ 13 ربيعًا مدرسته في العام الفائت، باحثًا عن مهنة يتعلمها ويعيل من خلالها أسرته التي تعيش ظروفًا معيشية صعبة في مدينة عفرين.
إلى دكان عمه لبيع الخضار، توجّه عمار بعد أن عجزت أمه عن إيجاد ميكانيكي ضمن منطقة إقامتهم يعلّمه أصول المهنة، التي كان يتقنها والده قبل وفاته.
تقول والدة عمار: “آخر ما توقعته في يوم من الأيام أن أقبل بترك عمار للمدرسة، فقد كان والده يرسم له مستقبًلا، وكان صارمًا في طلب العلم، لكن بعد وفاته وتدهور وضعنا المعيشي أكثر فأكثر، خاصة بعد زلزال فبراير/ شباط الذي دمّر بيتنا، صار لا بدَّ لنا من معيل يقوم بباقي الأسرة”.
تعيش أسرة عمار سعد الدين في بيت صغير وسط مدينة عفرين، بعد أن دمّر الزلزال منزلها في جنديرس، وبالكاد يكفي مردودهم المالي دفع أجرة بيتهم الجديد وتغطية نفقات معيشتهم، ولا يقتصر الاعتماد على عمار فقط في تغطية نفقات الأسرة المكونة من 6 أفراد، بل تعمل أم عمار في صناعة الكونسروة وتجهيز مؤنة المنازل لبيعها حسب الطلب.
“كبر عمار قبل أوانه وتحمل مسؤولية كبيرة لكن ما زلت أرى شغف الدراسة في عينَيه، فهو دائمًا ما يقلّب بكتب أخوته ويراجع السور القرآنية التي كان يحفظها قبل أن يترك المسجد أيضًا”، تختم حديثها لـ”نون بوست”.
واقع معيشي لا يحتمل المجازفة
تشبه قصة عمار قصص آلاف الأطفال المتسرّبين من المدارس والباحثين عن عمل لإعالة ذويهم بسبب الفقر المدقع وصعوبة الحياة المعيشية.
ولا يحتاج الأمر إلى النظر في حالة الأطفال عمومًا في منطقة يعتمد غالبية سكانها على المساعدات المقدمة من برنامج الأغذية العالمي، والتي خُفّضت في يونيو/ حزيران الفائت لحوالي 2.5 مليون شخص بسبب أزمة نقص التمويل، قبل أن تتوقف مؤقتًا في يناير/ كانون الثاني الفائت بسبب أزمة التمويل ذاتها، ومن ثم معاودة تقديم دعم قليل جدًّا وفق خطة توزيع ما زالت مجهولة حتى الآن.
تشير آخر إحصائية لفريق منسقو استجابة سوريا، أن حدّ الفقر المدقع ارتفع إلى 91.90%، وسط عجز واضح في القوة الشرائية لدى المدنيين وبقائهم في حالة فشل عن مسايرة التغيرات الدائمة في الأسعار، والذي يتجاوز قدرة المدنيين على تأمين الاحتياجات اليومية.
أوائل شهر يونيو/ حزيران الجاري، كشف المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا، أن أكثر من مليون طفل وطفلة لا يذهبون إلى المدارس في مناطق شمال غربي سوريا، وذلك بزيادة قدرها 200 ألف طفل عن الفترة التي سبقت وقوع الزلازل المدمّر في 6 فبراير/ شباط 2023.
وأوضح التقرير أن محافظة إدلب سجّلت أعلى معدل للأطفال خارج المدرسة بين جميع المحافظات السورية عام 2024، إذ لا يحصل نحو 69% من الأطفال فيها على حقهم الطبيعي في التعليم، وكلما طال أمد بقاء الأطفال خارج المدرسة قلّت احتمالات عودتهم إليها.
وينذر التقرير بكارثة خطيرة تضرب واقع التعليم في شمال غرب سوريا مقارنة بعدد الأطفال الكلّي في المنطقة هناك، فوفقًا لآخر إحصائية لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، بلغ عدد الأطفال 2.31 مليون، منهم 1.10 مليون طفل.
المخيمات السورية الأولى بالتسرُّب
وفق نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية للأزمة السورية، ديفيد كاردن، فإن 800 ألف نازح سوري من أصل 3.5 ملايين يعيشون في خيام، وحوالي مليون شخص في ملاجئ غير رسمية وهم بحاجة إلى مساعدات إنسانية وغذائية، وإلى الأساسيات لضمان قدرتهم على البقاء.
كما بيّن أن 60% من المخيمات ومواقع النازحين لا تحتوي على مدارس أو مراكز تعليمية، مشيرًا إلى أن 54 منشأة تعليمية تمّ تعليقها أو إغلاقها في الربع الأخير من العام الماضي بسبب نقص التمويل.
ويقدَّر عدد المخيمات شمال غرب سوريا بأكثر من 1900 مخيم يقطنها أكثر من مليوني مدني يشكّل الأطفال منهم 54%، وهم بحاجة ماسّة للمساعدات لا سيما بعد كارثة زلزال فبراير/ شباط التي زادت المخيمات ودمّرت المدارس والمنازل، ما دفع أطفالهم إلى التسرّب والتوجه إلى سوق العمل الذي يعاني بالأصل من ضعف نشاطه.
عدا عن عجز واضح في تأمين الأسر لمستلزمات أطفالها المدرسية، وعدم توفر وسائل النقل للوصول إلى المدارس وتكلفتها العالية إن وُجدت، إضافة إلى العامل الأمني وافتقار المراكز التعليمية لمقومات العملية التعليمية من كهرباء وماء وتدفئة وتهوية، والأهم من ذلك عزوف المعلمين عن التدريس بسبب توجّههم للعمل الحر أو التدريس الخاص نتيجة عدم استقرارهم المادي الذي يلبّي احتياجات أسرهم.
تواصل “نون بوست” مع أحمد عرابي، وهو مدرّس ضمن تجمع مخيمات الكمونة بريف إدلب، إذ أشار إلى أن من حقّ أي مدرس البحث عن عمل آخر يوفر من خلاله قوت يومه، وهذا سبب في عزوف كثير من المدرسين عن العملية التعليمية، ما أثّر بشكل مباشر على الأطفال الذين يتركون مدارسهم تلقائيًا.
مضيفًا أن حركات النزوح المستمرة من مخيم إلى مخيم، وحالة الأسر الاجتماعية في المخيمات والواقع المعيشي المتردي، تدفعان هذه الأسر إلى تشغيل أولادها لتأمين احتياجاتها، وحتى الفتيات قد يتوجهن إلى الأعمال الشاقة في القطاف والزراعة أو الزواج ولو بعمر الـ 15.
وحمّل عرابي مسؤولية تسرُّب الأطفال إلى المنظمات الإنسانية التي تبذخ برواتب عالية على موظفيها، في حين أنها تقطّر أموالها على المنظومة التعليمية ودعم المدرسين، الذين يتوجهون للعمل في مهن مريرة كبيع المحروقات وعمّال مياومين في الأراضي الزراعية وغير ذلك.
في غضون ذلك، تواصل “نون بوست” مع وزير التربية في الحكومة السورية المؤقتة، جهاد حجازي، للحصول على أجوبة تتعلق بتساؤلات عن قضية تسرّب الأطفال، إلا أننا لم نتلقَّ منه أي ردّ حتى تاريخ نشر هذا التقرير.
جيل أمي ومُعسكَر
لعلّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، أين هؤلاء الأطفال المتسرّبين بعد عدة سنوات؟ وكيف يمكن توصيف الحالة الاجتماعية غير المستقرة لهؤلاء الأطفال؟ خاصة أننا لم نضمن توجّههم منذ الصغر إلى مهن تليق بإمكاناتهم بسبب واقع الشمال السوري الاقتصادي وتدهور بيئة المهن أصلًا، ما يعني أننا أمام معضلة كبيرة تكمن في كيفية اندماجهم مع محيطهم وعدم تأهيلهم للعمل والإنتاجية والتقدم التكنولوجي في المهن، عدا عن تهميشهم وتحولهم لفئة مستهلكة ليس أمامها إلا العمل في التنظيمات العسكرية المسلحة هروبًا من تلك الظروف.
في حديثه لـ”نون بوست”، قال علاء الشيخ حسن، مشرف حماية الطفل في “منظمة سيما”، إن مستقبل الأطفال المتسربين بشكل عامّ من المدارس متعلق باستمرار هذه الأسباب أو انتفائها مع الزمن، فتسرُّب الأطفال يعني انخراطهم بمهن يمكن أن يكون لها مستقبل، كما هي المهن الحرفية أو الصناعية الأقل خطورة على مستقبل الطفل مع ما تحمله من مخاطر أثناء العمل.
أما الاحتمال الثاني، حسب حسن، فهو توجُّه الأطفال لأعمال تدرّ أرباحًا من دون تعلم مهارة متطورة مع الزمن يمكن أن يستندوا عليها، كالتسول أو جمع النفايات وبأحسن الأحوال عمال دائمين في الزراعة أو العتالة في الأسواق وغيرها، وهذا أفضل بكثير من الطامة الكبرى وهي العمل في بيع الممنوعات وتهريبها أو تهريب البشر عبر الحدود.
ويضيف حسن أن تسرُّب البنات يمكن أن يسرّع في عملية تزويجهن للتخلُّص من العبء المادي الذي تتكفله الأسرة أو الحصول على مقابل من الزواج، وفي حال تزويجها زواجًا تقليديًا من شخص مشابه لحالتها المادية، فإن ذلك سيدفعها للعمل لسدّ حاجات بيت الزوجية مع زوجها، كعاملة في بعض المهن من المنزل أو في بعض الأعمال المرتبطة بالفصول الزراعية، بينما تزيد فرص الأطفال غير المتسرّبين لتطوير مهارات شخصية ومعرفية تساعدهم على البحث عن فرص يمكن أن تكون أفضل في المستقبل.
وتزداد فرصة توجه الأطفال إلى الالتحاق بالعمل العسكري، خاصة عندما يكون الحال كما هو في الشمال السوري حيث فرص العمل قليلة، فيجدون فرصة للمشاركة أولًا في عمليات التنظيف والترتيب للمقرات العسكرية أو المساعدة في تقديم الشراب والطعام، وتدريجيًا يمكن لهم أن يلتحقوا معهم كعناصر.
وفق قول حسن، فإن غياب التأهيل المعرفي أو العلمي السابق يبعد تلك الشخصية، التي تدرّجت بالتسرّب ثم الشارع ثم الانتماء إلى فصيل، عن المعايير المجتمعية، ما يزيد انتماء هؤلاء الأطفال إلى الفصيل والتماهي في مصالحه والسير معه في أي قرار يمكن أن يتخذه، من دون التفكير في صوابه من عدمه أو حتى التفكير في المخاطر الممكنة، فكل هذا لو تمّ يزيد من احتمال التطرف الممكن أن ينتشر في المجتمع، أو زيادة فرص الصراع الممكن مع الزمن بين الفصائل العسكرية والأطراف المسيطرة على الأرض.
أمام هذا الواقع وتفاقم المشكلة أكثر فأكثر وتدهور المنظومة التعليمية، تبقى النتيجة واحدة وهي تصميم مصير الأطفال وبناء مستقبلهم بالشكل الذي يخلفه ذلك الواقع، ما يعني أننا أما سنوات قادمة مليئة بآثار سلبية اجتماعية لا تقتصر فقط على الحزن وضعف الثقة وغياب المهارات المتنوعة والاندماج في الأنشطة الاجتماعية، بل تتجاوز أبعد من ذلك بكثير.