عودتنا سينما القرن الجديد على عدو رئيسي اسمه الإرهاب، ولا تخلو سنة من دستة أفلام بعضها رخيص وبعضها متميز واستثنائيٌ يواجه فيها الأبطال شيطان الإرهاب الذي لا يرحم، يتخذ العدو أسلحة متنوعة وطرقًا يتوالد بعضها من بعضٍ، لكنه لا يملك إلا ثوبًا واحدًا، ولا يخرج إلا من رحم واحد، القاعدة أو داعش أو غيرها من التنظيمات، فالإرهاب في السينما المعاصرة، ملتحٍ أسمر الوجه تعلوه طاقية أو عمامة أو ربما كوفية أحيانًا.
هل ساهمت السينما في إثارة الهلع الأوروبي من الخطر القادم من الشرق الأوسط، أم أنها عكست هذا الخوف المتعاظم مع موجات اللاجئين الهاربين من جحيم الحروب؟ لا شك أن العلاقة جدلية، ولا شك أنها باتت مزاجًا عامًا في بلدٍ مثل ألمانيا، وربما كان ذلك دافعًا رئيسيًا للمخرج فتيح أكينFatih Akin لإنجاز عمله الأخير: من العدم Aus dem Nichts.
لمن لا يعرف أكين، فهو مخرجٌ ألمانيٌ من أصول تركية، وقد مثل هذا الوافد الحضاري نبعًا خلاقًا لفنه، ولم يشذ عمله الأخير عن القاعدة، فهو يحدثنا عن نوري الألماني ذي الأصول التركية/الكردية الذي كان يعمل في تجارة المخدرات، لا يعود بنا الفيلم إلى ماضيه، ولكننا نعرف أنه يعشق فتاة ألمانية شقراء، عشقًا توجه بزواجهما وهو لا يزال سجينًا، نعرف أنه أقلع عن تجارة السوء، وفتح لنفسه محلاً لصيانة المعدات الإلكترونية في حي كردي، واستقبل حياة عائلية هادئة.
لكن عدسة الكاميرا لا تهتم بنوري بقدر اهتمامها بكاتيا زوجته، وسرعان ما نفهم الأسباب حين نرى معها الركام المتبقي من محل زوجها، ومنه ومن ابنهما، نرصد انفعالاتها، مشاعرها، انزلاقها المستمر نحو الاكتئاب، نفعل ذلك دون أن نغفل تطور الأبحاث بخصوص التفجير.
يأتي فيلم “من العدم” في سياق سياسي مضطرب في ألمانيا، إذ تتصاعد شعبية الأحزاب اليمينية مع تهافت الإعلام الألماني على كل الحوادث الاجتماعية التي يكون أبطالها لاجئين سوريين أو مهاجرين أتراك
كانت الشرطة تبحث في خط المألوف: بما أنه كرديٌ تركي أي شرق أوسطي، فله حتمًا أعداء إرهابيون، ولو كان ملحدًا كما تصر على ذلك زوجته المنهارة، فقد عاد حتمًا إلى تجارة المخدرات، أو على الأقل، تعرض إلى عملية انتقام من عملائه القدامى، لا يبدو أن أحدًا منهم يعبأ بشهادتها عن الفتاة الشقراء التي أوقفت دراجتها الجديدة أمام المحل، وكان فيها صندوق صغير، دون أن تسعى إلى حمايتها بقفل ما.
لم يحصل ذلك إلا وهي على مشارف الهلاك، قاب قوسين أو أدنى من الضياع الأبدي، لقد وجدوا الفتاة إياها، والواضح أنها تنتمي إلى تنظيم نازي معادٍ للمهاجرين!
ينقلب الفيلم إلى سينما المحاكم، Court Movie، إذ رغم الأدلة البديهية ضد الفتاة وصديقها النازي، كان التشكيك في كل شيء ممكنًا، وبدا كما لو أن المحكمة ستشكك في أي تسجيل مرئي يثبت وقائع الجريمة، تتصاعد وتيرة الإثارة بين محامي الدفاع ومحامي الادعاء، بين ما يراه الجمهور بديهيًا وما يراه القانون معادلة رياضية، ودون حرق أحداث الفيلم، تنتقل الأحداث من المحكمة إلى فضاء ثالث، أكثر التباسًا، وبعد جزءٍ أول غلبت عليه العاطفة والمشاعر، وجزءٍ ثانٍ غلبت عليه العقلانية، كان الجزء الأخير عمليًا، غلبت عليه الأفعال، ومع ذلك، أثار هذا الجزء الجدل الأكبرعن الفيلم، وانتقاد المنتقدين، وربما سخطهم.
يأتي فيلم “من العدم”، في سياق سياسي مضطرب في ألمانيا، إذ تتصاعد شعبية الأحزاب اليمينية مع تهافت الإعلام الألماني على كل الحوادث الاجتماعية التي يكون أبطالها لاجئين سوريين أو مهاجرين أتراكًا، ويسجل رصيد الكراهية والعداء تجاه ذوي الأصول المشرقية الإسلامية نسبًا قياسية، لذلك، ذهب البعض إلى اعتباره ردة فعلٍ من أكين تجاه ما يحدث، فأشاحوا بوجوههم عنه، واعتبروه انفعاليًا وصبيانيًا خصوصًا مع نهايته التي لم يتقبلها الجمهور الأوروبي، ففي مثل هذه المواقف يتحول هؤلاء إلى طاهرين أكثر وداعة من غاندي، “لا لمحاربة الإرهاب بإرهاب مماثل”، ولكن هذا ما يقوله الفيلم أيضًا!
إن غرض الفيلم ليس معاداة العدالة، ولا الدعوة إلى الانتقام الشخصي، بل تحذير قوي من تصاعد لهجة العداء، هو تذكير لألمانيا المتطرفة بأن عنفها ولو كان مبررًا فلا شرعية له!
ولكن هذا ليس كل شيء، فقد استطاع أكين أن يحجب عن المشهد الدرامي العنصر المهاجر ليجعل الصراع أشقر ـ أشقر، صراع بين كاتيا زوجة الكردي، والحبيبين النازيين، لم نر ما فعلا بضحيتيهما، بل رأينا ما فعلا بكاتيا الألمانية مثلهما، رأينا كيف اغتالا أحلامها وابتسامتها، كيف أدخلا حياتها إلى حجرة التعذيب، إن هذا الخيار المتمعن وحده، كفيل بالإجابة عن المنتقدين، فنحن لسنا أمام فيلم انفعالي، ولسنا أمام ردة فعلٍ بل أمام إجابة متينة.
لا أحد ينكر الإرهاب القادم من الشرق، لكن لا أحد يتحدث عن الإرهاب المقابل، لا أحد يتحدث عن تصاعد الكراهية تجاه كل ما هو شرقي، كأن هؤلاء ليسوا ضحايا الإرهاب الأسبقين، يحذر أكين، من أدلجة الإرهاب، وإكسابه هوية لا يملكها، فيستعمل عائلة هجينة لهذا الغرض، فسواء ذهب نوري أو كاتيا ضحية الإرهاب، وسواء كان الإرهاب أشقر أو أسمر، فالنتيجة واحدةٌ، والباقي خاسرٌ لا محالة.
كما كانت الإحالة على اليونان كامتدادٍ للفكرة الإرهابية أكثر التباسًا وإحراجًا، فهي من ناحية إحالة على عالمية التطرف كظاهرة فوق إديولوجية، ومن ناحية أخرى، إشارة إلى الدور الألماني في المسألة اليونانية، لكننا أيضًا لا نقدر على تناسي أصول أكين التركية وهو يتحدث عن اليونان.
“من العدم” فيلم ذو نفسٍ واقعيٍ، يتخلى عن موسيقى الخلفية، ويحبذ القمرة المتحركة المتابعة للبطلة، كأنها تروي الأحداث كما تراها، غرضها ليس تقريبنا من البطلة، بل إشراكنا في الأمر، وإحلالنا محلها، لقد كانت كتابة الفيلم صارمة في هذا الاتجاه، فوفقت فيه توفيقًا كبيرًا، وزاد عمل ديانه كروغر Diane Kruger على شخصية كاتيا في دعمه، لم يكن حصولها على سعفة كان Cannes السنة الماضية محاباةً أو مجانيًا، فقد قدمت أداءً عظيمًا بالفعل، أقنع الفرنسيين رغم التقييم الهزيل الذي حصل عليه الفيلم هناك، في المقابل احتفت به الولايات المتحدة بشكل كبير، فمنح جائزة الغولدن غلوب لأفضل فيلم أجنبي، رغم عدم ترشيحه للأوسكار في الفئة نفسها