ظهر زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني في اجتماع مع وجهاء المناطق المحررة مساء يوم الخميس 16 مايو/ أيار المنصرم، بعد أشهر من الاحتجاجات الشعبية ضده في محافظة إدلب وريف حلب الغربي، طالب خلالها المتظاهرون بالإفراج عن المعتقلين في سجون الهيئة، وحرية التعبير، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، قبل أن تتطور تلك المطالب إلى المطالبة بإسقاط الجولاني نفسه.
مجموعة من الاتهامات والتهديدات انهال بها رجل القاعدة السابق في سوريا خلال الاجتماع، محاولًا -مرة أخرى- تقديم نفسه كقائد شعبي، وحاكم فعلي في إدلب، ولعب دور أشبه ما يكون بـ”رئيس دولة”، محذرًا من أن “المساس بالمصالح والقواعد العامة وتجاوز الخطوط الحمراء سيدفع السلطة للتحرك ومواجهة الأمر”.
لم يتأخر الرد كثيرًا، فبعد يومَين بدأت الهيئة حملة أمنية ضد الحراك المدني، شملت ضرب واعتقال المتظاهرين، ومطاردتهم بالعربات المصفحة ودهس بعضهم، ونشر الحواجز العسكرية وتقطيع أوصال المدن والبلدات، وسط أزمة داخلية غير مسبوقة تعصف بالهيئة، وحالة من عدم الثقة بين أجنحتها العسكرية والأمنية، لتغدو أقسى وأصعب تحدٍّ يواجه مشروع الجولاني في الشمال السوري.
مشروع بناه الجولاني بعد سنوات طويلة قضاها في التلوّن والتقلب وتغيير ملامحه وتبديل شخصيته، بدأها بالانضواء تحت راية تنظيم دولة العراق الإسلامية، وهو تنظيم “داعش” قبل تمدده، ثم إعلانه عن جبهة النصرة كفرع سرّي لتنظيم دولة العراق الإسلامية، ثم الانقلاب على البغدادي ومبايعته تنظيم القاعدة، مرورًا على انقلابه مجددًا على المشروع القاعدي وتحوله من جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام، وصولًا إلى الإعلان عن هيئة تحرير الشام وتصفية القيادات الجهادية “المتشددة” ورفقاء دربه طيلة سنوات، بعد أن استعملهم في تثبيت أركان نفوذه وسلطته في الشمال، ثم تفكيك عدة فصائل تابعة للجيش الحر، وقمع واغتيال ناشطين ثوريين مدنيين أمثال رائد الفارس وحمود جنيد.
في هذا التقرير المعمق نفتح صفحة الجولاني، مسلطين الضوء على تفاصيل حياته الجهادية المتقلبة، بدءًا بعودته من العراق على رأس مجموعة تضم عراقيين وسوريين، لتحقيق حلمه في الهيمنة والسلطة وتوسيع النفوذ، وصولًا إلى الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإسقاطه، وما بين الحدثَين من سنوات طويلة قضاها في التلون بحسب ما اقتضته المرحلة.
الجولاني مقاتل في العراق
عاش أحمد حسين الشرع (الجولاني) وترعرع في حي المزة في العاصمة السورية دمشق، وانحدر من أسرة نازحة من قرية جبين التابعة لمدينة القنيطرة في الجولان المحتل، لا تعكس أبدًا الخط الجهادي الذي سار عليه فيما بعد، إذ لا نشاط سياسي له أول نشأته، فوالده حسين الشرع قومي عربي، وخبير في اقتصاديات النفط وألّف فيها، وعمل مستشارًا في وزارة النفط في عهد رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي أواخر الثمانينيات.
كحال كثير من الشباب المحافظ في تلك الحقبة، فقد تأثر الشرع بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وانعكس ذلك على شخصيته وسلوكياته، حيث أطلق لحيته وصار يرتدي الجلابية، مواظبًا على الصلاة في جامع الشافعي في حي المزة، كما بات يتردد على حلقات نقاش دينية كانت تُعقد بسرّية بعيدًا عن أعين النظام في ضواحي دمشق، في بلدات حجيرة وسبينة ودروشا، وأخذ يقلّد أسامة بن لادن في لباسه وأسلوبه الخطابي.
وتعددت الروايات حول حضوره خطب الجمعة التي كان يلقيها محمود قول آغاسي المعروف بأبي القعقاع في جامع العلاء بن الحضرمي في حي الصاخور في حلب، والمعروف عنه بنبرته الخطابية الأخّاذة، وخطبه ذات المضمون السلفي الجهادي التي ألهبت مشاعر الشباب المتحمس حينذاك، والتي تُجمع الروايات على أن نظام الأسد وظّفه لاختراق الشباب المتحمس واستغلالهم وظيفيًا، والذي بدا واضحًا مع بداية الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
فمع الأيام الأولى للغزو، فتح النظام الحدود أمام “المجاهدين” والمتطوعين الشباب السوريين والعرب القادمين عبر لبنان إلى سوريا، وسهّل مرورهم للقتال في العراق عبر نقلهم إلى المحافظات الشرقية، وكان من ضمن هؤلاء الشباب أحمد الشرع الذي انتقل إلى العراق متطوعًا للحرب فيها، ووصل إلى بغداد قبل سقوطها بأسابيع، ليعود بعدها إلى سوريا ويرتبط بتنظيم سلفي جهادي ناشئ، أدى إلى اعتقاله من قبل مخابرات النظام أواخر العام 2005.
عاد الشرع مجددًا إلى العراق، وانضم إلى مجموعة جهادية صغيرة في مدينة الموصل هي “سرايا المجاهدين” التي بايعت أمير القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي، ليُعتقل على أيدي القوات الأمريكية عام 2006 وهو يحاول زرع عبوة ناسفة، وسُجن على أنه عراقي متنكرًا بأسماء مختلفة داخل السجون.
لم يشغل الجولاني، أو “أبو أشرف” كما كان يعرَف داخل السجون، مناصب قيادية، أو يتقلد مناصب عالية خلال فترة تواجده في العراق، حيث قضى قرابة 5 سنوات معتقلًا لدى الأمريكيين متنقلًا بين سجون أبو غريب وبوكا وكروبر والتاجي، لكنه في الوقت ذاته أقام علاقات وطيدة مع عناصر وقيادات جهادية عراقية، ممّن سيصبحون من أبرز قادة دولة العراق الإسلامية التي أسّسها أبو بكر البغدادي، الأمر الذي ساعده لاحقًا على الاستفادة من تلك العلاقات في توسيع دائرة نفوذه بعد عودته إلى سوريا غداة اندلاع الثورة فيها عام 2011.
مشروع الحلم
اندلعت الثورة السورية، وتحولت سريعًا إلى السلاح بعد الردّ العنيف والدموي الذي انتهجه نظام الأسد ضد المتظاهرين السلميين، فأخذت تتشكل فصائل ثورية تحت قيادة الجيش السوري الحر مع تنامي حركة الانشقاقات من صفوف قوات النظام.
في تلك الأثناء، كان أبو أشرف قد خرج قبل أشهر قليلة من سجن بوكا، واضعًا لبنات مقترح للعمل في سوريا، وهو مشروع لطالما حلم به قبل ذهابه إلى العراق، وضمّنه في ورقة بحثية عنونها بـ”جبهة النصرة لأهل الشام”، تحدث فيها عن تاريخ سوريا وجغرافيتها والتنوع الطائفي فيها وآلية الحكم، وضرورة الاستفادة من تجربة العراق والانطلاق منها، ومراعاة الخلافات الجوهرية بين البلدَين.
وبمساعدة صديق له كان قد شغل منصب “والي نينوى”، عرض أبو أشرف المقترح على أميره البغدادي الذي وافق على الفور على المشروع، فأرسله على رأس 6 أشخاص سوريين وعراقيين في أغسطس/ آب 2011، أي بعد نحو 5 أشهر من اندلاع الثورة، مع مال وسلاح، بهدف إيجاد موطئ قدم لتنظيم دولة العراق الإسلامية في سوريا، ليشرع في تأسيس خلايا مسلحة منتشرة في جميع المحافظات السورية، مستفيدًا من الخبرات العسكرية والجهادية، والفوضى العارمة التي كانت تشهدها الساحة السورية.
بدأت تلك الشبكات والمجموعات الصغيرة بعمليات عسكرية نوعية بشكل سرّي، لتعلن في يناير/ كانون الثاني 2012 تأسيس جبهة النصرة، في بيان مرئي قدّم فيه أبو أشرف نفسه باسم جديد هو “الفاتح أبو محمد الجولاني”، معلنة لاحقًا عن أهم عملياتها المتمثلة بالتفجير الانتحاري المزدوج الذي استهدف مقر الفرع 227 (فرع المنطقة) في منطقة البرامكة، وإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) في منطقة كفرسوسة في ديسمبر/ كانون الأول 2011، والذي أسفر عن مقتل وإصابة نحو 200 شخص بينهم عناصر من قوات النظام ومدنيون.
براغماتية وانتهازية
لم تكن مجمل التغييرات التي رافقت مسيرة الجولاني الجهادية محصورة في هويته الشخصية وأسمائه الكثيرة وكناه فقط، بل تعدّت ذلك إلى تحولات وحتى تقلبات فكرية وأيديولوجية وتغييرات في الخطاب والهوية، وكل ذلك وفقًا لمتغيرات محلية وإقليمية ودولية فرضت على الجولاني التلون بشخصية معيّنة، تم استهلاكها بحسب ما تقتضيه طبيعة المرحلة ومتطلباتها.
فطيلة السنوات التي أعقبت تشكيل جبهة النصرة، تدرّج الجولاني بسلسلة تحولات براغماتية تنمّ عن هوسه في السلطة، وانتهازية شخصيته، وحرصه الشديد على الحفاظ على قيادته، حتى لو كان ذلك على حساب قضايا جوهرية أقام عليها تنظيمه، واستطاع من خلالها تغيير قناعاته بسرعة وبشكل متكرر كلما اقتضت مصلحته ذلك.
رفع راية القاعدة
بقيت هوية الجولاني طيّ الكتمان، وأحاط نفسه بهالة من السرية، إذ لم يكن يعرفه حتى القادة الميدانيون وجنود الجبهة، وحافظ على تبعيته سرًّا لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق تحت إمرة البغدادي، متمسكًا بخطاب القاعدة الجهادي المعولم والشعارات العابرة للحدود، الذي ميّز كامل حقبة النصرة، والذي كان حاضرًا في جميع خطابات الجولاني وبيانات الجبهة.
ورغم ذلك، حرص الجولاني على بناء طموحه الخاص في سوريا الأكثر ليونة وبراغماتية وتقلبًا، وعدم الوقوع في العزلة العسكرية مع باقي الفصائل بخلاف نهج البغدادي، حيث استغل اسم القاعدة لتأسيس فصيل قوي يغري مموّلين سلفيين طامعين بإنشاء إمارة إسلامية في سوريا، فاستطاعت “النصرة” التغلغل سريعًا والانتشار في سوريا، لا سيما في الشمال، وحصرت عملياتها ضد قوات النظام وفروعه الأمنية بالتنسيق مع الجيش الحر، واكتسبت شعبية وقبولًا لدى الفصائل الأخرى، نظرًا إلى قدرة عناصرها القتالية وخبراتهم العسكرية في مقارعة النظام.
بحلول منتصف عام 2013، وقع الشقاق بين الجولاني والبغدادي، الذي بدأ مع إرسال الأخير عددًا من القادة المقربين منه أمثال الناطق الرسمي باسم التنظيم طه فلاحة المعروف بـ”أبو محمد العدناني، ورئيس مجلس شورى التنظيم أبو علي الأنباري، لمراقبة عمل الجولاني والتحقق من نية انشقاقه وفرض بعض القواعد الجديدة.
بدأت أولى بوادر تحولات الجولاني وتقلباته السريعة، حيث سارع بالاحتماء بتنظيم القاعدة لأخذ الشرعية من الحاضنة الداعمة للتنظيم ضد “داعش”، معلنًا البيعة لأيمن الظواهري زعيم القاعدة، ردًّا على إعلان البغدادي الوصاية على النصرة وتأسيس ما سمّاه “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المعروف بـ”داعش”، لتبدأ سلسلة من المعارك العسكرية والإعلامية الطاحنة بين التنظيمَين في سوريا، فقدت خلالها النصرة مناطق واسعة من نفوذها ومعاقلها، وتصدعت بنيتها الداخلية بانشقاق آلاف المقاتلين والانضمام إلى “داعش”.
على خلفية تمدد “داعش” ضمن مناطق واسعة في العراق وسوريا، وتصدره المشهد العالمي عقب قيامه بعمليات انتحارية في عدة دول في العالم، أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن تأسيس تحالف عسكري ضده، بدأت أولى ضرباته في سوريا باستهداف مواقع التنظيم وجماعة خراسان بقيادة الكويتي محسن الفضلي بالطيران الحربي وصواريخ توماهوك.
توسعت الغارات لتستهدف قيادات ومواقع لجبهة النصرة، كونها ذراع القاعدة في سوريا، العدو اللدود للولايات المتحدة، الأمر الذي تسبّب في استنزاف الجبهة وخسارتها عددًا من قادة الصف الأول، أمثال أبو فراس السوري مسؤول المعاهد الشرعية في النصرة ومرافق ابن لادن الشخصي.
رمي راية القاعدة.. التقرب من الفصائل ثم تفكيكها
فشلت محاولات الجولاني في التقرب من باقي الفصائل الثورية أو الاندماج معها، بسبب خوف تلك الفصائل من مسألة بقاء النصرة مصنّفة على قائمة الإرهاب العالمي، وكذلك قائدها الجولاني الذي صنفته الولايات المتحدة كـ”إرهابي عالمي” في مايو/ أيار 2013، إلى جانب شروعه بمسلسل تفكيك وضرب فصائل الجيش الحر في إدلب وحلب وحماة، في محاولته الهيمنة وتوسيع دائرة سيطرته ونفوذه، وهو ما بدأ مع تفكيك جبهة ثوار سوريا وحركة حزم أواخر عام 2014.
وعلى وقع تلك العوامل، وضمن محاولات رفع اسم تنظيمَيه عن قائمة الإرهاب الدولي عبر الاندماج مع الفصائل، خطى الجولاني الخطوة الثانية في مسار تحولاته عندما أعلن في يوليو/ تموز 2016 الانفصال الكامل عن القاعدة، وحلّ النصرة وتأسيس جبهة فتح الشام في أول ظهور له كاشفًا عن وجهه، حيث جاء في البيان المصوّر الذي تلاه الجولاني أن “فكّ الارتباط جاء لدفع ذرائع المجتمع الدولي، خاصة روسيا والولايات المتحدة وتجنب ضرباتها”.
لم ينجح الجولاني في إبعاد شبح التصنيف الذي سيلاحقه إلى وقتنا الحاضر، حيث واصلت الولايات المتحدة استهدافها التنظيم باسمه الجديد، ولم يغيّر الجولاني من صورته كـ”جهادي عالمي”، لا سيما أن الخطاب الجهادي المعولم بقيَ حاضرًا في جميع بيانات وتصريحات الجبهة، ما جعل من الانفصال شكليًا لا وزن له، فضلًا عن استمرار مسلسل ابتلاع الفصائل مع هجوم فتح الشام على عدة فصائل كبرى، بحجّة مشاركتها في اجتماعات أستانا عام 2017.
البحث عن رضا الغرب
“أكرر وأكرر، إن حقبة انخراطنا مع القاعدة في الماضي انتهت، وحتى في ذلك الوقت عندما كنا مع القاعدة، كنا ضد الهجمات الخارجية، خروج عمليات خارجية من سوريا لاستهداف الأوروبيين أو الأمريكيين، لم يكن هذا جزءًا من حساباتنا على الإطلاق، ولم نقم به على الإطلاق”.
بهذه الكلمات تحدث الجولاني في مقابلة مع الصحفي الأمريكي مارتن سميث عام 2021 في إدلب، نشرها موقع “فرونت لاين” الأمريكي، حيث ظهر فيها الجولاني ببدلة رسمية بدلًا من الزي العسكري المعتاد الذي لطالما ظهر به في مقابلات سابقة، حيث سرد فيها سيرة حياته ونشأته وكيفية انتقاله إلى القاعدة، معلنًا بداية مرحلة جديدة بدأت فعليًا مع تشكيله هيئة تحرير الشام مطلع العام 2017، بالاندماج مع عدد من الفصائل على رأسها جيش الأحرار وحركة نور الدين زنكي.
ببراغماتية شديدة، فهم الجولاني أن لعب دور أساسي في التسوية النهائي لمستقبل سوريا يتطلب رضا القوى الدولية والإقليمية، وتحديدًا الغرب، لذا سلك منعطفًا آخر في مسيرته، عُدَّ تحولًا جوهريًا عن الأدبيات والأفكار التي بنى عليها تنظيمه الأول النصرة، فجاء تشكيل الهيئة كإعلان رسمي عن الانفصال التام والعملي مع القاعدة، والتحلل من كثير من أدبيات ومفردات الجهادي العالمي وخطاب السلفية الجهادية، عبر تقديم الهيئة نفسها على أنها تنظيم منتمٍ إلى الثورة السورية، وتبني أدبيات الثورة والخطاب القُطري.
إلى جانب ذلك، سعى الجولاني أيضًا إلى تلميع صورته وصورة تنظيمه أمام القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الملف السوري وعلى رأسها الولايات المتحدة، عبر إرسال رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى مختلف الجهات الخارجية في سياق البحث عن الشرعية الدولية، وإعادة التموضع داخل المعادلة السورية، وطرح الهيئة نفسها بوصفها لاعبًا محليًا معتدلًا، وإبعادها بأقل تقدير عن دائرة الاستهدافات والاغتيالات.
وتحدثت روايات عديدة عن أن الحملة الخارجية المكثّفة لتلميع صورة الجولاني أمام المجتمع الدولي، والخروج من تهمة “الإرهاب العالمي”، كان يقودها شخص مقرّب منه يُدعى زياد العطار، رئيس إدارة الشؤون السياسية في الهيئة المعنية بالتقاء ممثلي الدول والتنسيق مع الصحفيين والباحثين الأجانب، وزياد العطار هو اسم مستعار لشخصية مجهولة بدأت باسم “أبو عائشة” كأحد المسؤولين في جبهة النصرة سابقًا، ثم بعدها “حسام الشافعي” المتحدث باسم جبهة فتح الشام، وصولًا إلى العطار.
إلى جانب ذلك، يتهم كثيرون، بينهم بعض التيارات الجهادية، الجولاني باحتكار “ملف التخابر” عبر التنسيق مع قوات التحالف الدولي لرفع التصنيف الإرهاب عنه، لا سيما أن الهيئة ظلت بعيدة عن الضربات الأمريكية طيلة السنوات الماضية، في الوقت الذي كانت تستهدف به شخصيات وقيادات تتبع للقاعدة و”داعش” في مناطق سيطرة الهيئة، والتي كان من أبرزها استهداف زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي في إدلب.
ولعلّ إبداء الجولاني رغبته في الانفتاح على الأديان والطوائف الأخرى في سوريا يدخل ضمن هذا السياق: كسب رضا المجتمع الدولي، حيث أعاد فتح كنيسة بلدة اليعقوبية في منطقة جسر الشغور في محافظة إدلب في أغسطس/ آب 2022، وعُقد فيها أول قداس منذ قيام الثورة السورية، إضافة إلى جملة زيارات قام بها لقرى ذات غالبية مسيحية في ريف جسر الشغور، ودرزية في جبل السماق.
إقصاء المنافسين والتفرُّد في الساحة
وفي سبيل المحافظة على نفوذه كقوة أمر واقع معترَف بها خارجيًا لا يمكن استبعادها، سعى الجولاني إلى ركوب موجة الشرعية الوطنية والثورية المحلية، عبر بناء تحالف مع الفصائل الإسلامية المحلية الأخرى من خلال هيئة تحرير الشام، ثم فرض وجودها ونفوذها في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة نظام الأسد، والتغلغل في المشهدَين الأمني والعسكري للمنطقة على حساب باقي الفصائل الثورية.
وذلك بعد حملة شيطنة وتفكيك لفصائل الجيش الحر وإزاحتها من الميدان، بعد أن شنَّ حربًا مفتوحة عليها، والاستيلاء على أسلحتها وممتلكاتها بذرائع ومزاعم مختلفة، والتي جاءت على لسان الجولاني نفسه بأنها “مشاريع صحوات وردّة” ثم “عمالة لدول إقليمية وغربية”، لتكون آخر تلك الحملات على حركة أحرار الشام ونور الدين زنكي عام 2018.
ولا ينفصل هجوم هيئة تحرير الشام الأخير على فصائل الجيش السوري الوطني في عفرين العام الماضي 2023، ومحاولتها المتكررة لمدّ نفوذها في مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، عن هدف الجولاني ومسيرة تقلباته في سبيل توسيع دائرة نفوذه إلى مناطق جديدة تضمن لتنظيمه امتيازات اقتصادية وأمنية وسياسية، وإن اختلفت الوسائل والطرق المؤدية إلى هذا الهدف.
وعلى نهج الأنظمة القمعية الاستبدادية، شيّد الجولاني قبضة أمنية محكمة في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيميه، عبر مؤسسات وأجهزة قامت بتشديد القبضة الأمنية على مفاصل الحياة في الشمال السوري، وتنفيذ ملاحقات بحق ناشطين ومخالفين لنهج الهيئة.
ولعلّ أهم هذه المؤسسات جهاز الأمن العام، الذي يضم عددًا كبيرًا من العناصر والمعدّات التقنية، ويدير عددًا من السجون، والذي يقوده أبرز رجال الجولاني وأكثرهم غموضًا أبو أحمد حدود “أنس خطاب”، أحد المتطوعين للقتال في العراق والرجل الثاني في الهيئة بعد الجولاني، والذي تصدر حملة الاعتقالات التي نفّذتها الهيئة خلال ما يعرَف بـ”أزمة العملاء”.
انقلاب على رفاق الأمس
في الوقت ذاته، ونتيجة لسياسة الجولاني الجديدة القائمة على قطع حباله بالتنظيمات المنتمية للسلفية الجهادية، وتحجيم واعتقال قيادات جهادية أجنبية، تصاعد الخلاف مع القيادات الرافضة لهذا المنهج الجولاني الجديد، لا سيما بعد اتخاذه خطوات عملية بإزاحة القيادات المتشددة والأجنبية عن المراكز القيادية داخل صفوف الهيئة، أمثال أبو مالك التلي وأبو العبد أشداء وأبو اليقظان المصري.
وتعدى ذلك إلى اعتقال بعضهم ومحاولة تفكيك وتحجيم واقتلاع باقي التنظيمات الجهادية الأكثر تشددًا، كتنظيم حرّاس الدين وريث القاعدة الحالي في سوريا، والذي جمع تحت ظله مجموعة من المقاتلين الأجانب وقيادات وعناصر سابقين في القاعدة، إضافة إلى تفكيك مجموعات جهادية أخرى، مثل فرقة غرباء التي تزعّمها الفرنسي عمر أومسن، وجند الشام بقيادة الشيشاني مراد مارغوشفيلي.
ذراع مدنية
بخلاف التغييرات التكتيكية السريعة التي كان يجريها الجولاني من حين إلى آخر، بدت تحركاته بعد تحوله الأخير إلى الهيئة متماهية مع رغبته في إنشاء دولة تحكم مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرته الأمنية والاجتماعية.
فبعد هيمنته على المشهد العسكري كاملًا، تجاوز ذلك إلى الشقّ المدني عبر ذراعه المدنية والسياسية الناعمة حكومة الإنقاذ التي أسّسها عام 2017، بعد أن استطاعت بسط نفوذها الإداري على محافظة إدلب وريف حلب الغربي بعد عام ونصف من تأسيسها، لتصبح موردًا أساسيًا لتمويل الهيئة من خلال احتكارها الموارد الخدمية والاقتصادية أو عبر الضرائب المتنوعة.
ومنذ ذلك الحين والجولاني يحاول تسويق نفسه من خلال الظهور بمظهر القائد الشعبي، والحاكم الفعلي في إدلب، والتشبُّه بزعماء الدول والحركات، متخليًا عن لباسه التقليدي ذي السمة الجهادية، وهو ما ظهر جليًا من خلال لقاءاته ومقابلاته المتكررة، وافتتاحه مشاريع خدمية عديدة في المحافظة، والتنقل في أسواق ومحال إدلب بين “الحاضنة الشعبية”، ويلتقط أحيانًا “السيلفي” معهم خلال “لقاءات عفوية”، في مشاهد شبيهة لما يفعله رؤساء الدول والقيادات الشعبية، بهدف تعزيز أركان شرعيته الداخلية والخارجية.
تماهٍ مع الاتفاقيات الدولية
نهم عقلية الجولاني في الاستئثار بالسلطة واحتكار الحكم ورفض الاعتراف بالآخر، والامتناع عن الشراكة مع الفاعلين المحليين الآخرين، وضرب الفصائل الثورية، وتقليم أظافر المجموعات الجهادية الخارجة عن إرادته، مثل حراس الدين وبعدها غرفة عمليات “فاثبتوا”، لم تكن كافية وحدها لتدلّ على حجم التغيرات والتبدلات التي يمكن أن يقدم عليها الجولاني في سبيل بقائه في موضع السلطة.
وتعدى ذلك إلى امتثاله التامّ بالتفاهمات الدولية والإقليمية في إدلب، تأكيدًا منه على رغبته في التموضع بصفة الشريك الأمثل القادر على ضبط الأوضاع الأمنية، وضمن تنفيذ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الموقّعة الخاصة بسوريا، كأستانا وسوتشي، وضمان المصالح الإقليمية في إدلب، رغم معارضته المسبقة لها وتفكيك عدة فصائل تحت حجة “الركون لتفاهمات خارجية”.
ليتحول لاحقًا إلى تقديم تنازلات، والقبول بالانتشار العسكري التركي في إدلب، وحماية نقاط المراقبة في الشمال السوري، وبالتزامن مع شن الهيئة عمليات عسكرية وحملات تمشيط أمني على الطرق الدولية، تنفيذًا لاتفاق موسكو الذي تم توقيعه بين الطرفَين الروسي والتركي في 5 مارس/ آذار 2020، حيث وافقت الهيئة على دخول القوات الروسية إلى جانب التركية إلى الطريق الدولي M4، بعد تصريح واضح من الجولاني برفض دخول أي جندي روسي إلى الطريق الدولي.
خاتمة
لأول مرة في مسيرته، واجه الجولاني أكبر تحدٍّ داخلي لسلطته وزعامته في المنطقة، مع تفجّر الاحتجاجات الشعبية بعد أزمة ما بات يعرَف بـ”العملاء”، التي اعتقلت على إثرها الهيئة المئات من قيادتها وعناصرها، على رأسهم رفيق درب الجولاني في رحلته الأولى من العراق أبو مارية القحطاني، الذي قُتل بتفجير انتحاري بعد إطلاق سراحه، وذهبت تحليلات عديدة حينها إلى القول إنها من صنع الجولاني الذي راح يبكي فوق جثته ويتوعّد بالثأر.
ازداد الاحتقان داخل التنظيم، خاصة بعد ظهور حجم التعذيب والتنكيل الذي تعرض له المعتقلون داخل سجون جهاز الأمن العام، ليتوسع الغضب الشعبي تدريجيًا إلى حد المطالبة بإسقاط الجولاني وتنحّيه عن قيادة الهيئة والمناطق الخاضعة لسيطرتها.
أهمل الجولاني المطلب الأساسي للمتظاهرين، معلنًا عن حزمة إصلاحات لعلّ أهمها تشكيل مجلس استشاري أعلى يتألف من “أهل الرأي والاختصاص”، وإعادة تشكيل جهاز الأمن العام ضمن وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، عقب اجتماع مع ما أُطلق عليهم إعلامه “القوى الثورية والفعاليات المدنية والمؤسسات العامة” في 12 مارس/ آذار الماضي، لمّح فيه الجولاني أنه وصل إلى أقصى ما يمكن قبوله بما وصفه بـ”المطالب المحقة”.
هذا التلميح اعتبره كثيرون إعلانًا من الجولاني بأنه لن يتخلى عن سلطته التي بناها طيلة السنوات الماضية، وهو ما يعود في جزء منه إلى ما ذكرناه سابقًا بهوس السلطة العارمة لديه، المبنيّ على منطق مصلحي ضيّق بعيد كل البُعد عن ثوابت وروح الثورة السورية، حيث ما زال يجيّش إعلامه ضمن سعيه الدؤوب لحصر الثورة ومكتسباتها بمشروعه وحده.
ورغم الهدوء الذي بات يكتنف المشهد الحالي في إدلب، إلا أنه يمكن القول إن المشهد لا يزال مفتوحًا أمام تصعيد في المستقبل، لا سيما مع وجود أزمة داخلية غير مسبوقة تكاد تنهي مشروع الجولاني برمّته، مع حالة عدم الثقة بينه وبين المكونات الشعبية والثورية، وقطع أواصر الثقة مع هذه الفئات، بعد فشله في تقديم رؤية تتوافق مع هوية الشعب السوري وتطلعاته، خاصة أن كثيرين باتوا ينظرون إلى تلك التحولات التي ما زال يقدمها الجولاني كونها لا تعدو أن تكون موجهة كرسائل للخارج، لا إلى الداخل السوري.
في الوقت الذي لم يبدِ فيه الجولاني أي رغبة حقيقية في بناء مؤسسة إدارية تشاركية مع المؤسسات والقوى الثورية والمدنية الأخرى، والتعنُّت في الاستئثار بالسلطة واحتكار الحكم ورفض الاعتراف بالآخر، وفي ظل عدم اهتمامه بالتراجع عن سلسلة الانتهاكات والاعتداءات التي مارسها على القوى الثورية والمدنية، الأمر الذي شكّل اعتقادًا بأن هذه التغييرات قد يتراجع عنها الجولاني بسهولة في حال اقتضت مصلحته الشخصية ذلك، والعودة مجددًا إلى ما كان عليه سابقًا في بداية رحلته المثيرة للجدل.