ترجمة وتحرير: نون بوست
كان السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 لحظة فاصلة ليس فقط بالنسبة لإسرائيل بل وللعالم العربي؛ فقد وقع هجوم حماس المروع في الوقت الذي بدا فيه أن نظامًا جديدًا ينشأ في المنطقة. فقبل ثلاث سنوات؛ أطلقت أربع دول من أعضاء جامعة الدول العربية ــ وهي البحرين والمغرب والسودان والإمارات ــ عمليات لتطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. ومع اقتراب صيف سنة 2023 من نهايته؛ بدا أن الدولة العربية الأكثر أهمية التي لم تعترف بإسرائيل بعد، السعودية، على استعداد للقيام بذلك أيضًا.
لقد أدى هجوم حماس والعملية العسكرية المدمرة التي شنتها إسرائيل في غزة بعد ذلك إلى انكماش مسيرة التطبيع هذه؛ فقد صرحت السعودية بأنها لن تمضي قدُمًا في اتفاق التطبيع حتى تتخذ إسرائيل خطوات واضحة لتسهيل إقامة دولة فلسطينية.
كما استدعت الأردن سفيرها لدى إسرائيل في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ولم يستطع أبدًا بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي تحقيق الزيارة التي كان من المقرر أن يقوم بها إلى المغرب في أواخر سنة 2023. وبالمقابل؛ راقب الزعماء العرب بحذر كيف أصبح مواطنوهم يعارضون الحرب في غزة، فقد خرج الآلاف في العديد من البلدان العربية للاحتجاج على حرب إسرائيل والأزمة الإنسانية التي أحدثتها، ودعا المتظاهرون في الأردن والمغرب إلى إنهاء معاهدات السلام التي أبرمتها بلدانهم مع إسرائيل، معربين عن إحباطهم من عدم استماع حكوماتهم إلى شعوبهم.
وقد يتبين أن السابع من تشرين الأول/أكتوبر يشكل لحظة فاصلة بالنسبة للولايات المتحدة أيضًا؛ فبسبب الحرب في غزة، تحول الرأي العام العربي بشكل حاد ضد أقوى حلفاء إسرائيل؛ الولايات المتحدة، وهو تطور قد يربك الجهود الأمريكية ليس فقط في المساعدة في حل الأزمة في غزة، بل وأيضًا جهودها لاحتواء إيران ومواجهة النفوذ الصيني المتزايد في الشرق الأوسط.
منذ سنة 2006، أجرت منظمة البارومتر العربي – وهي المنظمة البحثية غير الحزبية التي نديرها – استطلاعات رأي نصف سنوية تمثل المواطنين على المستوى الوطني في ست عشرة دولة عربية؛ حيث رصدت آراء المواطنين العاديين في منطقة لا تشهد استطلاعات رأي تذكر. فبعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003؛ وجدت استطلاعات رأي أخرى باستمرار أن قِلة من المواطنين العرب العاديين لديهم آراء إيجابية عن الولايات المتحدة. ومع ذلك، وبحلول سنة 2022؛ تحسنت مواقف العرب إلى حد ما، حيث أكد ما لا يقل عن ثلث المستجيبين في جميع البلدان التي شملها استطلاع الرأي العربي أن لديهم رأيًا “إيجابيًا للغاية” أو “إيجابيًا إلى حد ما” عن الولايات المتحدة.
غير أن الاستطلاعات التي أجريناها في خمس دول في أواخر سنة 2023 وأوائل سنة 2024 تظهر أن مكانة الولايات المتحدة بين المواطنين العرب تراجعت بشكل كبير. فقد أشار استطلاع رأي في تونس – أُجْرِيَ جزء منه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول وجزء آخر بعده – بقوة إلى أن هذا التحول حدث استجابة للأحداث في غزة.
والأكثر إثارة للدهشة هو أن الاستطلاعات أوضحت أيضًا أن خسارة الولايات المتحدة لتأييد العرب كانت مكسبًا للصين؛ حيث تحسنت آراء المواطنين العرب تجاه الصين في استطلاعاتنا الأخيرة، مما كان عكسًا لاتجاه دام نصف عقد من ضعف الدعم للصين في العالم العربي. ومع ذلك؛ عندما سئل المستجيبون عما إذا كانت الصين قد بذلت جهودًا جادة لحماية الحقوق الفلسطينية؛ وافق عدد قليل منهمف فقط، وتشير هذه النتيجة إلى أن وجهات النظر العربية تعكس استياءً عميقًا من الولايات المتحدة وليس دعمًا محددًا للسياسات الصينية تجاه غزة.
وفي الأشهر والسنوات المقبلة؛ سيسعى القادة الأمريكيون إلى إنهاء الصراع في غزة وبدء مفاوضات نحو تسوية دائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ حيث تأمل الولايات المتحدة أيضًا من ذلك أن تحمي الاقتصاد الدولي من خلال حماية البحر الأحمر من الهجمات التي يشنها وكلاء إيران، وتعزيز تحالف إقليمي يحتوي العدوان الإيراني ويحد من المشاركة الصينية في المنطقة.
ولكن لتحقيق أيٍّ من هذه الأهداف؛ تحتاج واشنطن إلى شراكة الدول العربية، وهو الأمر الذي سيكون من الصعب تحقيقه إذا ظلت الشعوب العربية متشككة إلى هذا الحد في أهداف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
كثيرًا ما يشير المحللون والسياسيون الأمريكيون إلى أن ما يطلقون عليه أحيانًا “الشارع العربي” لا ينبغي أن يكون موضع اهتمام كبير للسياسة الخارجية الأمريكية، وذلك لأن معظم القادة العرب استبداديون، ولهذا فإن الحجة تقول إنهم لا يهتمون كثيراً بالرأي العام، وبالتالي ينبغي لصناع السياسات الأمريكيين إعطاء الأولوية لعقد الصفقات مع أصحاب النفوذ على كسب قلوب وعقول المواطنين العرب.
ولكن بشكل عام؛ فإن فكرة أن الزعماء العرب غير مقيدين بالرأي العام هي مجرد خرافة، فقد أطاحت انتفاضات الربيع العربي بحكومات في أربع دول، وأدت الاحتجاجات الواسعة النطاق في سنة 2019 إلى تغييرات في القيادة في أربع دول عربية أخرى، ولهذا يتعين على الحكام المستبدين أيضًا أن يأخذوا في الاعتبار آراء الناس الذين يحكمونهم. والآن لا يريد سوى عدد قليل من الزعماء العرب أن يظهروا متعاونين علنًا مع واشنطن، نظرًا للارتفاع الحاد في المشاعر المعادية لأمريكا بين محكوميهم.
وقد يكون لغضب المواطنين العرب من السياسة الخارجية الأمريكية عواقب وخيمة مباشرة على الولايات المتحدة، فقد أظهرت أبحاثنا السابقة – التي استندت إلى بيانات من استطلاعات الرأي في الجزائر والأردن – أن الغضب تجاه السياسة الخارجية الأمريكية يمكن أن يتسبب في تعاطف المواطنين بشكل أكبر مع أعمال الإرهاب الموجهة ضد الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن بعض نتائج استطلاع “البارومتر العربي” تكشف أيضًا عن أن التشكك المتزايد بين العرب في دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ليس أمراً لا رجعة فيه؛ حيث تشير الاختلافات في الرأي بين الجماهير في البلدان التي تعاملت معها الولايات المتحدة بشكل مختلف إلى أن الولايات المتحدة قادرة على تغيير الطريقة التي ينظر بها إليها العالم العربي من خلال تغيير سياساتها.
وتشير نتائج الاستطلاع أيضًا إلى تحولات محددة في النهج من شأنها أن تعمل على تحسين تصورات العرب للولايات المتحدة، بما في ذلك الدفع بقوة أكبر من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة، وزيادة المساعدات الإنسانية الأمريكية للقطاع وبقية المنطقة، وفي الأمد البعيد؛ العمل من أجل التوصل إلى حل الدولتين. وفي نهاية المطاف، لكسب ثقة المواطنين العرب في الشرق الأوسط، يتعين على الولايات المتحدة أن تُظهر نفس الاهتمام بمعاناة الفلسطينيين كما تفعل مع معاناة الإسرائيليين.
صندوق الاستطلاعات
يشمل كل استطلاع للرأي أجراه مركز “البارومتر العربي” أكثر من 1200 مستجيب، ويتم إجراؤه شخصيًّا في مكان إقامة المستجيب. وتطرح هذه الاستطلاعات أسئلة على المشاركين حول آرائهم بشأن مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك القضايا الاقتصادية والدينية، وآراء حكوماتهم، والمشاركة السياسية، وحقوق المرأة، والبيئة، والشؤون الدولية. ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أكمل البارومتر العربي استطلاعات في خمس دول عربية متنوعة، وهي الأردن والكويت ولبنان وموريتانيا والمغرب.
ولأن الجولة السابقة من استطلاعات البارومتر العربي في هذه البلدان أجريت بين سنتي 2021 و2022، فقد تكون عوامل أخرى غير الحرب في غزة قد ساهمت في تغييرات الرأي العام بين ذلك الحين والآن. ومع ذلك؛ فقد قدم استطلاع إضافي معيارًا لا يقدر بثمن، مما سمح لنا باستنتاج أن بعض التحولات الرئيسية في الرأي ربما حدثت مؤخرًا. ففي الفترة بين 13 أيلول/سبتمبر و4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023؛ أجرينا استطلاعًا مجدولًا في تونس شمل 2406 مقابلة.
وأُجري حوالي نصف هذه المقابلات قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر وحوالي النصف بعد ذلك. ولكي نفهم كيف تغيرت آراء التونسيين بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر؛ قمنا بحساب متوسط الاستجابات خلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت هجوم حماس، ثم تتبعنا التغييرات اليومية في الأسابيع التي تلت ذلك، فوجدنا انخفاضًا سريعا وحادا في نسبة المستجيبين الذين يحملون آراء إيجابية عن الولايات المتحدة.
وكانت النتائج في معظم البلدان الأخرى التي استطلعنا آراءها في الفترة 2021-2022 وبعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر تتبع نمطًا مماثلًا: ففي كل البلدان باستثناء بلد واحد؛ انخفضت أيضًا الآراء بشأن الولايات المتحدة بشكل ملحوظ.
وعلى الرغم من فظاعة هجوم حماس؛ فإن قِلة من المستجيبين في استطلاع البارومتر العربي اتفقوا على أنه ينبغي أن نطلق عليه “عملًا إرهابيًّا”. وعلى النقيض من ذلك؛ اتفقت الغالبية العظمى على أن حملة إسرائيل في غزة ينبغي تصنيفها على أنها إرهاب.
وفي الغالب؛ قيم المواطنون العرب الذين استُطْلِعَتْ آراؤهم بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر الوضع في غزة بأنه مروع، وعندما سُئلوا عن أي من الكلمات السبع، بما في ذلك “الحرب” و”الأعمال العدائية” و”المذبحة” و”الإبادة الجماعية”، تصف الأحداث الجارية في غزة على أفضل نحو، كان المصطلح الأكثر شيوعًا الذي اختاره المستجيبون في كل البلدان باستثناء بلد واحد هو “الإبادة الجماعية”.
ولكن في المغرب فقط، وصف عدد كبير من المستجيبين ــ 24 بالمئة ــ تلك الأحداث بأنها “حرب”، وهي نفس النسبة تقريبًا من المغاربة الذين وصفوها بأنها “مذبحة”. وفي كل مكان آخر، اختار أقل من 15 بالمئة من المستجيبين “الحرب” لوصف ما كان يحدث في غزة.
وعلاوة على ذلك؛ وجدت استطلاعات الرأي التي أجراها مركز البارومتر العربي أن المواطنين العرب لا يعتقدون أن الجهات الغربية الفاعلة تدافع عن أهل غزة. وطرح استطلاعنا السؤال التالي: “من بين الأطراف التالية، أي منها تعتقد أنها ملتزمة بالدفاع عن الحقوق الفلسطينية؟”، وسمح للمستجيبين باختيار كل ما ينطبق من قائمة تضم عشر دول، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة. ولم يوافق أكثر من 17 بالمئة من المستجيبين في أي بلد على أن الأمم المتحدة تدافع عن الحقوق الفلسطينية.
وكان أداء الاتحاد الأوروبي أسوأ، ولكن الولايات المتحدة حصلت على أدنى الدرجات؛ حيث وافق 8 بالمئة من المستجيبين في الكويت، و6 بالمئة في المغرب ولبنان، و5 بالمئة في موريتانيا، و2 بالمئة في الأردن؛ على أنها تدافع عن الفلسطينيين. وكانت النتائج بالنسبة للولايات المتحدة أكثر تباعدًا عن نتائج الجهات الفاعلة الغربية والعالمية الأخرى فيما يتصل بمسألة حماية إسرائيل. فعندما سُئل المستجيبون في الدول الخمس عما إذا كانت الولايات المتحدة تحمي حقوق إسرائيل؛ وافق أكثر من 60 بالمئة منهم على أنها تفعل ذلك، وتتجاوز هذه النسب بكثير النسب المئوية للمستجيبين الذين وافقوا على أن الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة تحمي إسرائيل.
ويبدو أن هذه التصورات في العالم العربي بشأن الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة، وحول نهج الولايات المتحدة تجاهها، كان لها عواقب وخيمة على سمعة الولايات المتحدة بشكل عام؛ ففي تسع من الدول العشر التي سأل فيها البارومتر العربي عن مدى استحسان الولايات المتحدة في سنة 2021، قال ما لا يقل عن ثلث جميع المستجيبين إنهم يحملون وجهة نظر إيجابية عن الولايات المتحدة.
ولكن في أربع من الدول الخمس التي شملها الاستطلاع بين كانون الأول/ديسمبر 2023 وآذار/مارس 2024؛ كان أقل من ثلث المشاركين ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي. ففي الأردن؛ انخفضت نسبة المستجيبين الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي بشكل كبير، من 51 بالمئة في سنة 2022 إلى 28 بالمئة في استطلاع أُجري في شتاء 2023-2024.
وفي موريتانيا؛ انخفضت نسبة المستجيبين الذين ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي من 50 بالمئة في استطلاع أُجري في شتاء 2021-2022 إلى 31 بالمئة في الاستطلاع الذي أُجري في شتاء 2023-2024، وفي لبنان، انخفضت من 42 بالمئة في شتاء 2021-2022 إلى 27 بالمئة في أوائل سنة 2024.
وبالمثل؛ انخفضت نسبة المستجيبين الذين وافقوا على أن السياسات الخارجية للرئيس الأمريكي جو بايدن كانت “جيدة” أو “جيدة جدًا” بمقدار 12 نقطة في لبنان وتسع نقاط في الأردن خلال نفس الفترة.
ويشير توقيت استطلاعنا في تونس بقوة إلى أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة كانت سببًا في هذا التراجع العام. ففي الأسابيع الثلاثة التي سبقت السابع من تشرين الأول/أكتوبر؛ قال 40 بالمئة من التونسيين إن لديهم وجهة نظر إيجابية عن الولايات المتحدة. وبحلول 27 أكتوبر؛ أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع من بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، قال عشرة في المائة فقط من التونسيين نفس الشيء.
وعلى الرغم من تراجع رأي العرب في الولايات المتحدة وبايدن بعد السابع من أكتوبر، إلا أن الآراء حول جوانب مختلفة من مشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لم تكن كلها متساوية. فكان من المرجح أن يتفق المستجيبون لدينا على أن المساعدات الخارجية الأمريكية لبلادهم تعزز المبادرات التعليمية أو أنها تعزز المجتمع المدني كما كانت قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
في الواقع؛ كان المستجيبون في الأردن وموريتانيا والمغرب في استطلاعنا الشتوي لسنتي 2023-2024 أكثر ميلًا إلى الموافقة على أن المساعدات الخارجية الأمريكية تعزز المجتمع المدني مقارنة بما كانوا عليه في سنتي 2021 و2022. وتشير هذه النتائج إلى أن الخلاف ينحصر في سياسة الحكومة الأمريكية تجاه إسرائيل والحرب في غزة، وليس تجاه عناصر أخرى من السياسة الخارجية الأمريكية، هو ما يدفع إلى تدهور سمعة الولايات المتحدة الإقليمية.
هامش جانبي
رغم تقديمها دعمًا محدودًا لغزة ماديًا ومعنويًا، كانت الصين المستفيد الرئيسي من تراجع سمعة الولايات المتحدة لدى الجماهير العربية. في استطلاعات لسنة 2021-2022، أظهرت مؤسسة “البارومتر العربي” أن دعم العرب للصين في تراجع إلا أن هذه الاتجاهات انعكست في الأشهر الأخيرة.
وفي كل الدول التي شملتها استطلاعات “البارومتر العربي” بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عبّر نصف المستجيبين على الأقل عن آراءٍ إيجابية تجاه الصين. وفي كلٍّ من الأردن والمغرب، وهما حليفان رئيسيان للولايات المتحدة، لوحظت زيادة بأكثر من 15 نقطة في معدلات تأييد الصين.
وعندما سُئِلوا عن ما إذا كانت سياسات الولايات المتحدة أو الصين أفضل لأمن منطقتهم، أعرب المستجيبون في ثلاث من الدول الخمس التي شملتها استطلاعاتنا بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عن تفضيلهم نهج الصين. فعليًا، كان الوجود الصيني في المنطقة ضئيلًا مع تركيزها بشكل أساسي على الصفقات الاقتصادية في إطار مبادرة الحزام والطريق.
ويبدو أن الجماهير العربيّة في الشرق الأوسط تدرك أن دور الصين في أحداث غزة كان محدودًا: فقط 14 في المئة من المستجيبين اللبنانيين، و13 في المئة من المغاربة، و9 في المئة من الكويتيين، و7 في المئة من الأردنيين، ونسبةٌ متضائلة جدًا تبلغ ثلاثة في المئة من الموريتانيين اتفقوا على أن الصين ملتزمة بالدفاع عن حقوق الفلسطينيين.
بناءً على ذلك، من المرجح أن تعكس الآراء الإيجابية المتزايدة تجاه الصين حالة عدم الرضا عن سياسات الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. وفيما يتعلّق بسياسات أكثر تحديدًا، كانت إجابات المستجيبين أكثر تناقضًا. وعندما سُئِلوا عما إذا كانوا يعتقدون أن السياسات الصينية أفضل في “حماية الحريات والحقوق” أم السياسات الأمريكية، أو أن كلتاهما جيدة أو سيئة بنفس القدر، أجاب أغلبية المشاركين الكويتيين والموريتانيين والمغاربة بأن السياسات الأمريكية أفضل من السياسات الصينية.
لكن لوحظ العكس لدى المستجيبين من الدولتين المجاورتين لإسرائيل: ففي استطلاعات “البارومتر العربي” في كل من الأردن ولبنان بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أظهر عدد أكبر بكثير من المستجيبين تفضيلًا للسياسات الصينية على حساب السياسات الأمريكية في حماية الحقوق والحريات.
سجِل الصين في حماية الحقوق والحريات في الداخل والخارج محتشم، لكن اللبنانيين والأردنيين يرون الآن أن سجل الولايات المتحدة أسوأ. وتعكس هذه النتيجة اتجاهًا أوسع في بيانات “البارومتر العربي” يظهر مدى أهمية الموقع الجغرافي.
فالأشخاص الذين يعيشون في دول قريبة من الصراع في غزة والذين استقبلت دولهم تاريخيًا أعدادًا كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين عبّروا عن أقصى درجات عدم الثقة في السياسات الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط.
تقرير الأقلية
تشير استطلاعاتنا إلى أن تراجع الدعم العربي للولايات المتحدة ليس حتميًا وأن الجماهير العربية تستجيب بحساسية للاختلافات في السياسة الأمريكية تجاه القضايا الأساسية في المنطقة. وهذا الاستنتاج ملحوظ خاصة في نتائج المغرب – البلد الوحيد في المنطقة الذي خالف الاتجاه المتزايد لتزايد الشكوك حول السياسة الأمريكية. في سنة 2022، عبّر 69 في المئة من المغاربة عن وجهة نظر إيجابية تجاه الولايات المتحدة، وهي أعلى نسبة دعم في العالم العربي.
وقد نما هذا الدعم القوي فعليًا، إذ أظهر مسح البارومتر العربي في شتاء 2023-2024 أن 74 في المئة من المغاربة الآن ينظرون إلى الولايات المتحدة بشكل إيجابي. ويعتبر المغرب أيضًا البلد الوحيد الذي يفضل سكانه بوضوح السياسات الأمنية الأمريكية على السياسات الصينية في الشرق الأوسط بفارق 13 نقطة مئوية.
ومن شبه المؤكّد أن الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في دعم المغرب في نزاع إقليمي هو السبب الذي يفسّر خروج الرأي المغربي عن المألوف. أدارت الحكومة المغربية لعقود من الزمن جزءًا كبيرًا من الصحراء الغربية، حيث تسعى حركة مدعومة من الجزائر إلى إقامة دولة مستقلة. وإلى حدود سنة 2020، لم تعترف أي دولة عضو في الأمم المتحدة بسيادة المغرب على هذا الإقليم.
مع ذلك، اعترفت الولايات المتحدة في تلك السنة بمطالبة المغرب بالصحراء الغربية وذلك مقابل تطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل. وقد أكدَّت إدارة بايدن هذه السياسة بقوة خصوصًا في النصف الثاني من سنة 2023. وقد تزامن استطلاعنا لآراء المغاربة مع زيارة معلن عنها – نالت اهتماما كبيرًا – من قبل الدبلوماسي الأمريكي رفيع المستوى جوشوا هاريس إلى الجزائر والرباط لتأكيد هذا الموقف بشكل جليّ.
يبدو أن الموقف الأمريكي بشأن قضية الصحراء الغربية هو الذي حمى الولايات المتحدة بشكل كبير من تراجع الدعم الذي شهدته في دول عربية أخرى. أما البلدان الغربية الأخرى التي لم تتبع نهج الولايات المتحدة في الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية لم تحتفظ بدعم الشعب المغربي بين سنة 2022 وشتاء 2023-2024، وهو ما يظهره انخفاض نسبة المغاربة الذين قالوا إن لديهم وجهة نظر إيجابية عن المملكة المتحدة من 68 في المئة إلى 30 في المئة، وهو تراجع أكبر مما شهدته الدول الأخرى التي شملها المسح. وعلى نحو مماثل، تراجعت الآراء الإيجابية بشأن فرنسا بمقدار عشر نقاط.
وفي كل بلد أجرينا فيه استطلاعات، أشار المستجيبون إلى أنهم يعتقدون أن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي الأكثر التزامًا بحماية حقوق الفلسطينيين وليس الفاعلين العالميين. لكن هذا الرأي لا يُترجم إلى رغبة في رؤية الولايات المتحدة تتبنى الحياد أو تغادر الشرق الأوسط. ورغم غضبهم من السياسات الأمريكية تجاه غزة، كان الجمهور العربي واضحًا بشأن التعبير عن رغبته في مشاركة الولايات المتحدة في حل الأزمة الإسرائيلية-الفلسطينية.
طلب أحد أسئلة استطلاع “البارومتر العربي” من المستجيبين تحديد القضية التي يجب أن تتصدر أجندة إدارة بايدن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن قائمة من سبعة خيارات: التنمية الاقتصادية، التعليم، حقوق الإنسان، البنية التحتية، الاستقرار، مكافحة الإرهاب، والقضية الفلسطينية. وفي ثلاث من الدول الأربع التي طُرح فيها هذا السؤال في استطلاعات ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، اتفق أغلبية المستجيبين على أن بايدن يجب أن يعطي الأولوية للقضية الفلسطينية، حتى على حساب القضايا الأساسية الأخرى التي تهم بلدانهم.
وفي الواقع، ارتفعت نسبة المواطنين العرب الذين يعتقدون أن الأولوية القصوى لإدارة بايدن في المنطقة يجب أن تكون القضية الفلسطينية بشكل كبير خلال السنتين الماضيتين – بنحو 21 نقطة في الأردن، و18 نقطة في موريتانيا والمغرب، و17 نقطة في لبنان. وتشير بياناتنا في تونس إلى أن هذا الارتفاع حدث تقريبًا فور انطلاق الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة.
لقد أدت حرب غزة إلى تراجع دعم العرب لمسألة تطبيع العلاقات مع إسرائيل من مستوى منخفض بالفعل. لكن هذا لا يعني أن العالم العربي ينقلب ضدّ التسوية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وقد أظهرت أبحاثنا في تونس في البداية أن اندلاع الحرب في غزة قد يؤدي إلى تراجع دعم حل الدولتين. وفي الاستطلاعات التي جرت بين كانون الأول/ ديسمبر 2023 وآذار/ مارس 2024 في الأردن وموريتانيا والمغرب، تبيّن أن نسبًا أكبر من المستجيبين يدعمون حل الدولتين على الحلول الأخرى مثل حل الدولة الواحدة أو اتحاد أو نهج “آخر” غير محدد مقارنة بما كانت عليه الأرقام في سنة 2022.
إصلاح السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط
قبل أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، كان يبدو أن هناك نظامًا إقليميًا جديدًا يتبلور في الشرق الأوسط. مع سعي بعض الحكومات العربية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل – وهي الاتفاقيات الأولى من نوعها منذ ما يقارب 30 عامًا – بدا أن الانقسام الأساسي في المنطقة قد لا يكون بين إسرائيل والدول العربية وإنما بين طهران والدول التي تسعى لاحتواء عدوانيتها في الخارج. وكان ائتلاف جديد لاحتواء إيران، يضم إسرائيل والدول العربية الرئيسية، ليكون مفيدًا بشكل كبير في الحد من نفوذ إيران في المنطقة.
ربما لا يزال من الممكن للولايات المتحدة المساعدة في تشكيل مثل هذا الائتلاف: فالمساعدة التي قدّمها الأردن لإسرائيل في صد هجوم الطائرات المسيّرة والصواريخ الإيرانية في 13 نيسان/ أبريل، والقرارات التي اتخذتها السعودية والإمارات لتقديم معلومات استخبارية للولايات المتحدة قبل ذاك الهجوم، دليل على أن القادة العرب الرئيسيين لا يزالون يؤمنون بأن إعادة الاصطفاف الإقليمية تصب في مصلحتهم.
وقد أظهرت الاستطلاعات التي أجريناها بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أن تأييد إيران لا يزال منخفضًا بين الشعوب العربية. وفقط 36 بالمئة من اللبنانيين، و25 بالمئة من الأردنيين و15 بالمئة من الكويتيين أبدوا رأيًا إيجابيًا تجاه إيران.
لكن الجهود نحو إعادة الاصطفاف الإقليمي الكامل ستواجه صعوبة طالما يتواصل تدهور الدعم الإقليمي للولايات المتحدة. دائمًا ما تكون اتفاقيات السلام، مثل تلك التي أقامتها ومصر والأردن مع إسرائيل، عرضةً للانهيار. ولكن لا يمكن استبدال وساطة الولايات المتحدة لتحقيق اتفاقيات التطبيع. وقد بقيت اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية والإسرائيلية الأردنية مستقرّة إلى حد كبير بفضل كمية المساعدات الهائلة التي قدمتها الولايات المتحدة إلى كلتا الدولتين العربيتين.
وقد ارتبطت اتفاقيات التطبيع للعقد الماضي بوعود من الولايات المتحدة لمعالجة مخاوف الدول العربية، بما في ذلك الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبيع طائرات إف-35 للإمارات.
وفي سياق ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، لا تعني خسارة دعم المواطنين العرب خطر فقدان دعم القادة العرب فحسب، بل كذلك تعريض الاستقرار الداخلي لحلفاء الولايات المتحدة العرب الرئيسيين للخطر. وقد انتقل الغضب حول معاناة الفلسطينيين بالفعل إلى الشوارع. ففي الأردن، تسببت الاحتجاجات في إحباط مشروع الازدهار، وهي اتفاقية في مجال المياه والطاقة بين الأردن وإسرائيل تدعمها الإمارات والولايات المتحدة.
وبعد التعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة لمواجهة الهجوم الإيراني، التزمت الأنظمة العربية الصمت حول دورها خوفًا من تأجيج غضب المواطنين. وينبغي للولايات المتحدة محاولة تخفيف الضغط العام الذي تواجهه الحكومات العربية لعدم العمل مع إسرائيل لمواجهة النفوذ الإيراني.
وصلت المنطقة حاليًا إلى نقطة تحول – في حين أن الولايات المتحدة نظريًا في موقع يسمح لها بممارسة النفوذ اللازم للمساعدة في تأمين وقف إطلاق النار في غزة والمساعدة في دفع الإسرائيليين والفلسطينيين نحو السلام. من أجل استعادة مصداقيتها الإقليمية، يجب على الولايات المتحدة وضع خطوات ملموسة وبراغماتية نحو حل الدولتين، وتحديد ملامح الحوكمة الفعالة لغزة ما بعد الحرب وما يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين القيام به لضمان إحراز تقدم نحو السلام. طال انتظار محاسبة القيادات الإسرائيلية والفلسطينية. وينبغي للولايات المتحدة ليس فقط رعاية محادثات السلام بل أيضًا الإصرار على إنهاء التوسع في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
شعر العرب لفترة طويلة أن الولايات المتحدة تعمل لتأمين مصالحها الخاصة ومصالح حلفائها من القادة العرب على حساب مصالح المواطنين العاديين – حتى عند سعي المواطنون العرب بشكل أكبر إلى دعم جهود الديمقراطية ومكافحة الفساد. بالإضافة إلى ذلك، قد لا تكون المواجهة الإيرانية الإسرائيلية القادمة استعراضية مثل تلك التي وقعت في نيسان/ أبريل 2024 وإنما مدمّرة. ويجب على الولايات المتحدة العمل لكسب ثقة الرأي العام العربي لاحتواء إيران، ليس فقط بشكل سريّ بل أيضًا من خلال سياسات معلنة شجاعة وفعالة.
إن الوضع الحالي يُعرّض الولايات المتحدة للمخاطر ويفتح أمامها الفرص. لا يوجد في معظم الدول العربية قضية تعادل قضية المغرب مع الصحراء الغربية. لكن حالة المغرب توضّح أنه عندما يشعر المواطنون العرب أن الولايات المتحدة تقف من أجل مصالحهم، تُصبح أحكامهم أكثر إيجابية بشأنها. تتجاوز مخاطر الإخفاق في معالجة تراجع الدعم العربي للولايات المتحدة ما يحدث في غزة.
ومن دون تحول كبير في الدعم الأمريكي لحرب إسرائيل، ودون تغييرات ذكية في السياسة الأمريكية لاحتواء الكراهية العربية المتزايدة تجاه الولايات المتحدة على المدى الطويل، سيواصل الفاعلون الآخرون – بما في ذلك الصين – محاولة إبعاد الولايات المتحدة عن دور القيادة في الشرق الأوسط.
المصدر: فورين أفيرز