في ظل الثروات الكبيرة التي تذخر بها المناطق التي تسيطر عليها “الإدارة الذاتية” شرق سوريا، حيث تتركز فيها معظم آبار النفط والمساحات الواسعة الصالحة للزراعة، إلا أن الأرقام المالية المعلنة من قبلها للعام الحالي، كشفت عن عجز في الموازنة العامة بمقدار 389 مليون دولار أمريكي.
وبينما يرجع مسؤولو الإدارة الذاتية، المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، سبب العجز إلى تقديم الخدمات الصحية والتعليم مع ضعف الإيرادات، يرى محللون لـ”نون بوست” أن السبب الرئيسي هو الفساد والسرقات، إلى جانب سيطرة “حزب العمال الكردستاني” على موارد المنطقة.
وإلى جانب الإعلان المتأخر للميزانية فإن تساؤلات كثيرة وشكوكًا أثيرت حول نزاهة الأرقام المعلنة، في ظل عدم إفصاح الإدارة الذاتية عن حجم دخلها ومصادر أموالها.
زيادة الضرائب
في 8 من حزيران الحالي، أعلنت “الإدارة الذاتية” موازنة 2024، وقالت إن “الإيرادات العامة تقدر بمبلغ 670 مليون دولار أمريكي، في حين قدرت النفقات العامة بمليار و59 مليون دولار أمريكي”، ما يعني وجود عجز في الموازنة تصل قيمته إلى 389 مليون دولار أمريكي.
وحسب ما قاله الرئيس المشارك لهيئة المالية العامة في “الإدارة الذاتية”، أحمد يوسف فإن “العجز الوارد في موازنة 2024 هو عجز تراكمي منذ ثلاث سنوات”.
وأضاف في حديثه لموقع “نورث برس” أن الإدارة تعاني من العجز بدءاً من 2022 “نتيجة التزاماتها في مجال تقديم الخدمات العامة كالخدمات الصحية وتطوير البنية التحتية والتعليم، مقابل ضعف إيرادات الإدارة وخضوعها لتأثيرات خارجية في غالب الأحيان”.
وتعتمد “الإدارة الذاتية” في إيراداتها على نسبة كبيرة من النفط التي تسيطر على معظم آباره، ومنذ بدء إعلانها الموازنة في 2021 التي حددتها آنذاك بـ 40 مليون دولار، كانت نسبة الاعتماد على النفط في الموازنة من إجمالي الإيرادات 92%.
أما في موازنة 2022 التي بلغت 80 مليون دولار أمريكي بلغت نسبة الاعتماد على النفط 77%، بينما انخفضت النسبة إلى 76% في موازنة 2023 التي بلغت 90 مليون دولار.
وحسب تصريح يوسف فإن الإدارة ستجني خلال العام الحالي 400 مليون دولار فقط من إيرادات النفط، ما يعادل نسبة 59%.
واعتبر أحمد أن “الاعتماد على النفط بنسبة عالية من إجمالي الموازنة، دليل على الخلل الكبير في الاقتصاد”، ما دفع الإدارة إلى تنويع مصادر إيراداتها وتخفيض نسبة الاعتماد على النفط.
التنوع بمصادر الإيرادات كان عبر زيادة فرض الضرائب وزيادة تسعيرة الجمارك، حسب ما كشفته مقارنة أرقام الموازنة الحالية مع سابقتها، حيث بلغت نسبة إيرادات الجمارك في موازنة 2022 نحو 13% بينما وصلت النسبة في الموازنة الحالية إلى 18%.
أما العائدات الضريبية بلغت في 2022 ما نسبته 0.42% من الإيرادات العامة، بينما ارتفعت هذه النسبة في الموازنة الحالية إلى 2.1%.
وكانت “الإدارة الذاتية” زادت من نسبة ضرائبها خلال الأشهر الماضي، حيث فرضت على أصحاب محطات الوقود دفع عشرة آلاف دولار مقابل استمرار تزويدها بالوقود أو تعرضها للإغلاق في حال عدم الدفع.
إلى جانب فرض ضرائب على التجار والصيدليات ومستودعات الأدوية، الأمر الذي أدى إلى زيادة أعباء مالية جديدة على السكان، ما أسفر عن خروج العديد من المظاهرات في مناطق مختلفة احتجاجاً على الواقع المعيشي وزيادة الضرائب.
شكوك بنزاهة الأرقام
ونظرًا لسيطرة الإدارة الذاتية على ما يقدر بنحو 90% من حقول إنتاج النفط السوري، فضلًا عن الثروات الزراعية والحيوانية وموارد الضرائب، بدأت الشكوك تتزايد بشأن دقة أرقام الموازنة، خاصة أن مناطق سيطرة “قسد” تعاني من تدني الخدمات جراء نقص الإنفاق على البنى الخدمية، وارتفاع أسعار السلع حتى المدعومة منها، مثل الخبز ومحروقات التدفئة.
وتقدر مصادر اقتصادية إيرادات “قسد” السنوية بأكثر من ملياري دولا أمريكي، خاصة من النفط الذي تنتج منه يوميًا نحو 150 ألف برميل، حسب اعتراف مسؤوليها.
وفي تصريح سابق لنائب الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي لـ”الإدارة الذاتية” حسن كوجر، أكد أن “الإدارة” تستثمر أقل من نصف الآبار والحقول في مناطق نفوذها، أي تنتج يوميًا قرابة 150 ألف برميل.
وتبيع “قسد” النفط الخام إلى النظام السوري بالدرجة الأولى، وإلى مناطق المعارضة السورية في الشمال السوري، ويتم بيع كميات منه إلى الأسواق الخارجية عن طريق إقليم كردستان العراق.
ولا تُفصح “قسد” عن أسعار النفط والمداخيل المالية التي تجنيها، وكذلك تحتكر تجارة المحاصيل الزراعية (القمح، القطن، الشعير) في مناطق سيطرتها، وخاصة في الحسكة التي تعد سلة غذاء سوريا، فضلًا عن الثروة الحيوانية، والضرائب التي تفرضها على التجار ورسوم الحواجز، مما يجعل الأرقام التي تعلنها “قسد” عن الإيرادات المالية غير دقيقة.
ورفض مصدر مسؤول من الإدارة الذاتية الرد على تساؤلات “نون بوست” عن العجز والموازنة، بسبب عدم امتلاكه المعطيات الدقيقة، رغم أنه كان يشغل منصبًا بارزًا في الهيئة المشتركة لهيئة الاقتصاد والإدارة التابعة لـ”قسد”.
الباحث والخبير في قطاع النفط مهند الكاطع، وصف موضوع الميزانية بـ”المسرحية السمجة، معتبراً أنها تفتقد للشفافية والمصداقية.
وقال الكاطع في حديث لـ”نون بوست”: “لو فرضنا أن إنتاج النفط اليوم هو 100 ألف برميل يوميَا فقط بسبب الأعطال وغياب الكوادر، وسعر البرميل بالحد الأدنى اليوم 86 دولارًا أمريكيًا، فإن الإيراد السنوي يجب أن لا يقل عن 3.1 مليار دولار، أي أن الفائض يجب أن يكون قرابة 2 مليار دولار فقط من إيرادات النفط، هذا بخلاف باقي الإيرادات”.
وأشار الكاطع، وهو من أبناء محافظة الحسكة، إلى فرض “الإدارة الذاتية” للضرائب والجمارك على السلع التجارية، والرسوم على الأسواق والمحال التجارية، إلى جانب رسوم مختلف الخدمات وتحت مختلف الشعارات مثل “شهداء قسد” والتبرع لقوات الدفاع الذاتي وغير ذلك.
وأكد أن “الخدمات معدومة، حيث أن تعبيد الطرق مثلًا يعود إلى فترة ما قبل الثورة السورية، ولم يطرأ عليها أي إصلاحات من قبل ما يسمى الإدارة الذاتية، ولم تنجح الأخيرة بتوفير حتى مصادر مستدامة لمياه الشرب لأكبر مركز مدني وهو محافظة الحسكة، بعد قطع المياه من محطة علوك”.
كما أن “مستوى التعليم متدهور والخدمات الصحية في أسوء أحوالها، ناهيك عن تدمير الثروة الزراعية وتكبيد الفلاحين خسائر فادحة عبر بيعهم البذور بسعر يتجاوز 600 دولار للطن، وشراء القمح بسعر لا يتجاوز 310 دولارات بالحد الأعلى”.
بدوره شكك المحامي رديف مصطفى نائب رئيس رابطة المستقلين الكرد السوريين، بالأرقام التي تتحدث عنها “قسد”.
وقال لـ”نون بوست” إن “هذه الإدارة تنهب ثروات وخيرات سوريا، والمساعدات المالية، وبالتالي لا يمكن الوثوق بكل أرقامها المالية”.
وقال المحامي الكردي إن الإدارة غير مهتمة بحال السوريين، وكل اهتمامها يتركز على محاولات شرعنة وجودها وجمع الأموال، وليس أدل على ذلك من تدني الخدمات وعدم دعم القطاع الزراعي في منطقة يعتمد اقتصادها على الزراعة.
هيمنة وفساد
ويعود العجز المالي في الموازنة إلى مجموعة من الأسباب الرئيسية التي تتداخل لتؤثر بشكل كبير على الاستقرار المالي للمنطقة التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية.
السبب الأول هو سيطرة “حزب العمال الكردستاني”، حيث تواجه “الإدارة الذاتية” اتهامات بأن الحزب يستولي على النفط والموارد الطبيعية في المنطقة ويحول عائدات هذه الموارد إلى تمويل أنشطته العسكرية والسياسية في جبال قنديل حيث يقع معقله، ما يحرك السكان المحليين من فوائد هذه الموارد.
وكان المسؤول المالي السابق في “الإدارة الذاتية”، نضال إيبو، كشف عقب انشقاقه في 2021 عن عائدات الإدارة من بيع النفط.
وقال إن “حزب العمال الكُردستاني يبيع طن البترول (كل طن يعادل 7 براميل نفط) بـ285 دولار لفصائل الجيش الحر في منطقة “درع الفرات”، بينما يبيع النظام بسعر 120 دولار، مضيفًا أن “حزب العمال الكُردستاني، يحصل شهرياً على 120 مليون دولار عائدات من بيع بترول دير الزور، وتتجمع المبالغ عند الكادر في الحزب المدعو علي شير”، الذي وصفه بأنه “البنك الخفي للحزب”.
وحسب المحامي الكردي فإن القسم الأعظم من الإيرادات المالية من ثروات الشرق، لا يدخل في الميزانية أساسًا، بل يذهب لكوادر “العمال الكردستاني” حال النظام السوري سابقًا، عندما كانت مداخيل النفط تذهب للقصر الجمهوري وعائلة الأسد.
في حين اعتبر الكاطع أن عجز الموازنة يعود إلى سيطرة حزب “العمال الكردستاني” على الملف المالي والملفات الامنية والعسكرية في المنطقة.
أما السبب الثاني يعود إلى الفساد والسرقات خاصة في ظل الحوادث المتكررة لاختفاء وهرب المسؤولين في الإدارة الذاتية وبحوزتهم كميات كبيرة من الأموال، حيث لا يكاد يمر عام دون هرب مسؤول مالي في الإدارة.
ويرى الباحث في مركز عمران للدراسات، سامر الأحمد، إلا أن ما يهم “قسد” حالها حال سلطات الأمر الواقع، هو تحقيق أكبر مكاسب مالية.
وأضاف لـ” نون بوست” أن إيرادات “قسد” المالية المقدرة بملايين الدولارات شهريًا، لا تنعكس على واقع الحياة في مناطق سيطرتها، ما يعني أن هم الإدارة هو تحقيق مكاسب مالية على المستوى الحزبي والفردي، ولذلك نسمع من حين لآخر حوادث هروب قيادات برفقة مبالغ مالية طائلة.
أما السبب الثالث في عجز الميزانية، يعود إلى تركيز “قسد” على الشؤون العسكرية والأمنية، إلى جانب العلاقات العامة الخارجية، وإهمال الشؤون الخدمية، حسب الأحمد.
وكانت وكالة الأناضول، ذكرت أن “قسد” وقعد العام الماضي عقداً لمدة ستة أشهر بقيمة 50 ألف دولار أمريكي، مع شركة علاقات عامة لتقوم بأنشطة ضغط في واشنطن لمصلحته، ومساعدة الإدارة الذاتية على تطوير علاقات مع الإدارة الأمريكية، خاصة في القضايا المتعلقة بشمال شرق سوريا.
ويتساءل الأحمد عن الجدوى من صرف الأموال على جهات خارجية وعلى مكاتب وممثليات في الخارج، في الوقت الذي يعيش فيه السوريون بمناطق سيطرة “قسد” في حالة من العوز والفقر.
ويؤكد أن “كل سلطات الأمر الواقع ترى مستقبلها مؤقت، ولذلك لا يهمها سوى جمع الأموال والسرقة، إلى حين انتهاء صلاحيتها”.
استجلاب الدعم
وإلى جانب ما سبق، تهدف قسد من إعلان وجود عجز في الموازنة إلى حرصها على استجلاب الدعم الخارجي، سيما الدعم المخصص لمشروعات التعافي المبكر، ومن المانحين، خاصة أن الإعلان عن العجز جاء بعد فترة وجيزة من انعقاد مؤتمر “بروكسل الثامن”.
ويرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم لـ”نون بوست” أن “قسد طامعة بالمساعدات الأممية، ولذلك هي تتحدث عن عجز مالي كبير”.
وترغب “قسد” ببناء مصفاة نفط بمناطق سيطرتها، وذلك لتحسين الإيرادات المالية من النفط الخام الذي يباع بأسعار زهيدة، وهذا لا يمكن إلا بموافقة الإدارة الأمريكية على دخول الشركات الأجنبية للاستثمار في شمال شرقي سوريا.
وقال الكريم إن ذلك لا يعني بطبيعة الحال التقليل من إنفاق “قسد”، مشيرًا إلى ترهل البناء المؤسساتي لـ”قسد” رغم حداثته، مرجعًا ذلك إلى النظام المزدوج المطبق في مناطق سيطرتها، أي الحفاظ على عمل المؤسسات التابعة للنظام، والمؤسسات التابعة لها، ما يضخم حجم الإنفاق.
كما أشار الباحث إلى الكلف الكبيرة التي تذهب لترميم وإعمار بعض المشروعات والمؤسسات، مثل فتح الطرق وإصلاح الجسور.
أما عن الإيرادات، أكد الكريم أن “قسد” تبيع كميات كبيرة من النفط للنظام السوري بأسعار زهيدة، والأمر المهم الآخر، أن إيرادات النفط في الغالب تذهب لتمويل الأجهزة الأمنية التابعة لـ”قسد”.
ويمكن أن يكون عجز الموازنة الذي أعلنت عنه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مشكوكًا في نزاهة أرقامه، ويعكس سيطرة “حزب العمال الكردستاني” على الموارد الاقتصادية، مرورًا بمشاكل الفساد والتهريب، وصولاً إلى التركيز المفرط على الشؤون العسكرية والأمنية بدلًا من تقديم الخدمات لسكان المنطقة.