إن كنت مطلعًا على التاريخ السياسي للعالم سواء التاريخ القديم أو الحديث فستخلص إلى أن الحروب والنزاعات منذ الأزل كانت بسبب الدين والتوسع والإيديولوجيا وغيرها من الأسباب التقليدية التي فجرت العديد من الحروب عبر التاريخ البشري.
لكن الحروب مستقبلًا لن تكون لا بأساليب ولا لأسباب تقليدية، بل ستنبع من أسباب تأخذ بعين الاعتبار معادلة التكلفة والمنفعة، أما أسلوب المواجهة المباشرة فهو العنصر الذي قد نفتقده في الحروب مستقبلًا، فالجميع تعلم من أخطائه وأخطاء غيره وأصبح يدرك أن الحروب المباشرة أكثر دمارًا وقسوةً، وقد تكبد الأطراف خسائر لا تحصى، والحربان العالميتان خير دليل على ذلك.
وعليه فلن تخاطر الدول في مباشرة هذا النوع من الحروب التقليدية لمنافع أقل من التكاليف، بل بالعكس ستباشر هذه الدول حروبًا لكن وفق معادلة تهيمن فيها المنافع على التكلفة.
الذكاء الاصطناعي وصراع الهيمنة الدولية.. أي تأثير؟!
ولكي نتعمق أكثر في الموضوع، سنتحدث عن السباق نحو تطوير واكتساب أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، وكيف سيكون هذا الأخير سببًا للصراع بين أقطاب النظام الدولي مستقبلًا إن لم تبدأ بوادر ذلك بالظهور الآن.
ويمكننا أن نقرأ أهمية الذكاء الاصطناعي في تصريحات كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوله: “البلاد التي ستحصل على الزعامة في هذا المجال ستكون المهيمنة على العالم”، والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، عندما قال: “الأمم التي ستتحكم في الذكاء الاصطناعي، ستكون بمثابة القوى العظمى في المستقبل”.
ولعل هذه التصريحات من قادة دولتين قويتين وبارزتين في السياسة الدولية، دليل على أهمية الذكاء الاصطناعي، فما تجدر الإشارة إليه أن البحث في هذا المجال مستمر وسريع، والابتكارات فيه عملية مستدامة لا تكاد تنتهي والأهم من هذا كله أن تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى محاكاة الذكاء البشري تدخل في المجالات الإستراتيجية والحيوية كافة، كقيادة الجيش وهندسة القتال أو المساعدة في الحوكمة وحل مختلف المعضلات في كل الميادين التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والبيئية وغيرها.
الذكاء الاصطناعي أولوية بالنسبة للدول المتقدمة التي أصبحت تتسابق بشكل غير معهود وتسخر أموالاً وموارد طائلة لتطويره والتميز في هذا المجال الحيوي
فأينما ذهبتَ للآلة رأي تقوله، ولعل كل هذه الوظائف السابقة من جعلت من الآلة عنصرًا حيويًا وأضفت على الذكاء الاصطناعي البُعد الجيوسياسي، فامتلاك أي دولة آخر التقنيات في مجال الذكاء الاصطناعي سيزيد من قوتها بشكل كبير ضمن النظام الدولي وسيخدم مصالحها وسيوفر عليها عبء الاستنجاد بغيرها للقيام بالعديد من الوظائف السالفة الذكر، بل يمكنها أن توظف هذه التقنيات كأداة لخدمة مصالحها ضمن محيطها الإقليمي أو الدولي.
ولعل هذه المزايا تفسر السباق الحاصل الآن بين الولايات المتحدة والصين في مجال البحوث المتعلقة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهو ما يفسر بدوره تعاون دول البريكس بقيادة روسيا والصين والهند، من أجل تطوير المنظومات التقنية والمعلوماتية الهادفة إلى كسر هيمنة الدول الغربية على الساحة الدولية.
ثورة الذكاء الاصطناعي القادمة في الصين
إن الذكاء الاصطناعي لن يكون له آثار فرعية في التنافس على الهيمنة الدولية فقط، بل سيكون عاملًا رئيسيًا في تعميق الفجوة بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب المتخلفة التي ما زالت تعاني هشاشة المؤسسات وما زالت أغلبها تعاني شبح المديونية والتبعية الاقتصادية، بل ولا تملك أي خطة استراتيجية في هذا المجال.
ففي ظل هذه المفارقة سيزيد التطور الهائل في مجال التكنولوجيات الحديثة عمومًا من تخلف وتبعية دول الجنوب وهذا دون أدنى شك سيخدم مصالح الدول المتقدمة التي ستعمل جاهدة للحفاظ على هذا الوضع للاستفادة من موارد وثروات تلك الدول المتخلفة خاصة إن بقيت هذه الأخيرة تمشي بنفس الوتيرة في كل الميادين أبرزها البحث العلمي.
كيف ستكون الحروب مستقبلًا؟
إن الذكاء الاصطناعي أولوية بالنسبة للدول المتقدمة التي أصبحت تتسابق بشكل غير معهود وتسخر أموالاً وموارد طائلة لتطويره والتميز في هذا المجال الحيوي، وكل ذلك يقودنا للرجوع إلى نقطة انطلاق هذا المقال، فالذكاء الاصطناعي سيساهم مستقبلاً في تغيير العديد من المعطيات وسيؤثر بشكل مباشر على ميزان القوى الدولي هذا من جهة.
هذه الذكاء سيساهم في تحول الحروب المقبلة تحولًا تدريجيًا إلى حروب معرفية، وتغيير نمط الحروب مستقبلاً من النمط الكلاسيكي الذي كان قائمًا على تسخير القوة العلمية لخدمة القوة المادية إلى نمط آخر تكون فيه القوة المعرفية قادرة على تحقيق هامش كبير من الاستقلالية، يجعلها تمارس الدور الريادي الذي ظلت تمارسه حتى الآن قوة الردع النووي، على مستوى العلاقات الدولية منذ أربعينيات القرن الماضي.
فكل ما سبق يوضح أن الذكاء الاصطناعي ليس حبيس مراكز الأبحاث أو أفلام الخيال العلمي، بل معادلة جيوسياسية مهمة في النظام الدولي والعنوان الأبرز للنزاعات والحروب المستقبلية التي بوادرها بدأت تطفو على السطح، فمؤخرًا عبرت الولايات المتحدة عن مخاوفها بشأن تنامي قوة الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، والهادفة بحسب الخبراء الغربيين إلى جعل الصين الدولة الرائدة في هذا المجال مع حلول سنة 2030.