كشف خاتم امرأة من شعب الفايكنج عن أكثر العلاقات التاريخية غموضًا وأهمية بين أوروبا والعالم الإسلامي في العصور الوسطى، إذ نقش على خاتمها اسم “الله” بالخط العربي الكوفي الذي يعود إلى القرن التاسع، ومن هنا بدأت النظريات التاريخية بالتكهن عن كيفية وصول هذا الخاتم إلى السويد وعن التشابهات التي جمعت بين أكثر ثقافات العالم اختلافًا، كما تم العثور داخل ذات القبر على ملابس إسكندنافية تقليدية، الأمر الذي أثار العديد من الأسئلة عن عرقها وحقيقة هويتها الدينية، فهل كانت هذه المرأة غنيمة حرب أم مسلمة إسكندنافية؟
لم يكن هذا الدليل التاريخي الوحيد على العلاقة القديمة بين الحضارتين، فلقد تم العثور على العديد من الآثار والقطع القديمة التي ساعدت في تحديد ملامح هذه العلاقة، فما طبيعة هذه الشعوب؟ وكيف تأثروا بالعالم الإسلامي وعاداته؟
من الفايكنج؟
هم شعوب جرمانية نوردية، استوطنوا مناطق شمال أوروبا، وامتدت فترة حكمهم من القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر، اشتهروا بكثرة تجوالهم وسفرهم لمسافات بعيدة، إذ سيطروا على مناطق عديدة من غرب أوروبا وصولًا إلى آسيا الوسطى، ويقسمون إلى ثلاثة أفرع: أولها السويديون الذين عبروا بحر البلطيق وتوغلوا في روسيا، وثاني فرع هم النرويجيون الذين اقتطعوا أراضٍ من شرق إنجلترا وأيرلندا، وأخيرًا القسم الأخير وهم الدانماركيون الذين غزوا جنوب الأندلس وشمال المغرب وجنوب إيطاليا، وهاجموا القسطنطينية.
تميز الفايكنج بطبيعتهم الوحشية والبربرية، واشتهروا بقوتهم العسكرية وخبرتهم الإستراتيجية وبراعتهم في الملاحة التي ساعدتهم على استكشاف بحار ومحيطات أوروبا، فلقد عاشوا في الغالب على طول السواحل ولعب صيد السماك وتجارة البحر دورًا بارزًا في حياتهم الاقتصادية وخلفيتهم الثقافية، واعتبروا البحر وسيلة اتصال رئيسية بينهم وبين العالم الخارجي وثرواته، ولاهتمامهم الشديد بالتجارة وحرصهم على تطويرها، فلقد نجحوا في تأسيس عدة مدن ظهرت كمراكز تجارية رئيسية مثل يورك في إنجلترا، ودبلن في أيرلندا.
من الحرب إلى السلام
عرف الفايكنج بحروبهم وغزاوتهم، كما ظهروا في المناطق التي سيطروا عليها على شكل لصوص ناهبين كل خيراتها، وفي نفس الفترة، كانت الحضارة الإسلامية توسعت في الكثير من بقاع الأرض وبالأخص في الأندلس التي وقعت تحت حكم الدولة الأموية بقيادة عبد الرحمن الأوسط، فكانت المنطقة التي اعتبرها الفايكنج فرصة ذهبية لاستغلالها بسبب تقدمها الحضاري، فقرروا الاستيلاء عليها بداية من مدينة لشبونة وإشبيلية عن طريق المحيط الأطلسي، وبعد أيام من النهب والخسائر، أرسل الأوسط جيوش أندلسية لطردهم، في مواجهة استمرت أكثر من ثلاثة أشهر انتهت بهزيمة الفايكنج وانسحابهم من السواحل الأندلسية وإعلان الهدنة بين الطرفين.
أما في العصر العباسي تحت حكم الخليفة هارون الرشيد الذي اشتهرت فترة حكمه بالتفاعل مع شعوب العالم الأخرى واستقطاب العقول المختلفة إلى بغداد العاصمة ومركز العلم والثقافة آنذاك، لكن بعيدًا عن التبادلات الثقافية والعلمية، شهدت تلك الفترة ازدهار اقتصادي بين العالم الإسلامي وشعوب أوروبا ومنهم الفايكنج الذين اعتمدوا على نظام المقايضة في التبادلات التجارية على غرار التجار المسلمين في تلك الفترة، ويسير هذا النظام على بيع سلع مختلفة مثل الفراء والعاج والأسماك والعسل والجلود مقابل الفضة والعبيد، وأطلق عليها الفايكنج “الفضة العباسية” والتي وجد منها بكميات كبيرة تصل إلى آلاف القطع في مناطق بحر البلطيق وروسيا، وفي مناطق مثل شمال إنجلترا وأيرلندا.
إذ يقول البروفيسور توماس نونا: “كانت تستخدم هذه الدراهم الفضية من قبل الفايكنج بين القرنين العاشر والثاني عشر كعملة مشتركة بينهم وبين المسلمين”، جدير بالذكر إنه وجد نحو 200 ألف قطعة نقدية تعود إلى بداية القرن الثامن عشر.
كان يأتي الفايكنج إلى العرب للتجارة عن طريق نهر “فولغا” التجاري وأطلق العرب عليهم اسم “الروس” كدلالة على مهنتهم في التجارة وصفاتهم في القتال والمحاربة
كما تمتعت هذه الفترة بعلاقات ودية بين هارون الرشيد والملك شارلمان اللذين اعتادا تبادل الهدايا بينهما وهذا دليل على العلاقات القوية التي جمعت بينهم وبين المسلمين، وبدأت بسبب المصالح الاقتصادية وامتدت إلى 150 عامًا، فلقد كان يأتي الفايكنج إلى العرب للتجارة عن طريق نهر “فولغا” التجاري وأطلق العرب عليهم اسم “الروس” كدلالة على مهنتهم في التجارة وصفاتهم في القتال والمحاربة.
هل تأثر الفايكنج بعادات الدفن الإسلامية؟
عرفت شعوب الفايكنج بطقوسها المتعلقة بالموت، فلم تكن تدفن أمواتها بل تحرقهم، وهذا ما أشار إليه الرحالة ابن فضلان “يستمر لعدة أيام، ويتكون من طقوس مختلفة، حيث يتم إعداد الرجل المهم الميت من أجل إحراقه، جنبًا إلى جنب مع بعض العبيد والفتيات اللاتي تطوعن للموت مع سيدهن، وذلك بعد أن يجامع تلك الفتيات عدة رجال، ثم يتم وضع حبل حول رقبة الفتاة من قبل امرأة تسمى ملاك الموت، ثم تقوم بطعنها بخنجر، بينما يقوم رجلان آخران بخنقها بالحبل حتى الموت، ليُحرق جسدها بعد ذلك مع سيدها على القارب”.
هذه الطقوس والعادات الغريبة كليًا عن تعاليم الحضارة الإسلامية تتفق تمامًا على ما اعتاد الفايكنج فعله بالموتى، ولكن العثور على قبر المرأة صاحبة الخاتم المنقوش بالحروف العربية يؤكد للمؤرخين تأثر الفايكنج بالعادات الإسلامية أو اعتناق هذه المرأة للإسلام على أقل تقدير.
دفن شعب الفايكنج أمواتهم بالأقمشة الحريرية تأثرًا بالإسلام وأفكاره
كما لوحظ انتشار الحرير داخل القبور الإسكندنافية، ومع تحليل هذه المواد أكدت النتائج أن مكان صنعها يعود إلى أصول فارسية أو آسيوية، ويعتقد أن وجود بعض الآيات القرآنية التي توصف ارتداء أهل الجنة بالحرير قد يكون دفع شعب الفايكنج إلى دفن أمواتهم بهذه الأقمشة الحريرية إلى جانب تأثرهم بفكرة الخلود في الجنة.
هناك دلائل أخرى على اعتناق البعض للإسلام بسبب ما رواه أمين رازي في القرن السادس عشر عنهم وهو: “لدى الفايكنج حب كبير للحوم الخنزير، وهو ذو قيمة عالية عندهم، حتى أولئك الذين تحولوا للإسلام ما زلوا يتوقون إلى أكل لحم الخنزير”، بالإضافة إلى ما دونه الرازي في قسم المحاربين التجار “مجموعة من تجار الفايكنج اعتنقوا الإسلام في جنوب شرق أشبيلية” وهذا دليل آخر على تغلغل الحضارة الإسلامية في أوروبا.
الوجود الإسلامي في الكنائس الأوروبية
تعتبر كاتدرائية لوند الموجودة في أقدم المدن في السويد التي تأسست في أواخر القرن العاشر، من أهم الآثار التاريخية التي تشهد على العلاقات الأوروبية والإسلامية، وذلك من خلال الساعة الفلكية الموجودة بداخلها التي نقش على زواياها العليا أربع صور لشخصيات مختلفة ومنهم من يرتدي العمامة التي يرجح نسبها إلى فلكي مسلم، وهو ما يعد إشارة جديدة إلى الأعمال العلمية المشتركة بينهما، التي امتدت أيضًا إلى اللوحات التي احتوت على نقوش عربية داخل الكنائس الإيطالية.
ما يلف الانتباه من هذه الاكتشافات، انتشار تأثير الحضارة الإسلامية في الأراضي الأوروبية التي دفعت المؤرخين إلى التساءل مجددًا عن كم القطع الآثرية والمخطوطات والمعلومات الثمينة غير مكتشفة التي تحد من الأصوات القائلة إن الحضارتين منفصلتان عن بعضهما أو تقلل من قوة الحضارة الإسلامية في العصور القديمة، على اعتبار أن الخاتم المكتشف هو تذكار مهم عن الفترة التي عاش فيها ناس من خلفيات ثقافية ودينية مختلفة في جو من الاستقرار والازدهار.