تحتوي عقولنا على عدة مفاهيم وتصنيفات حول الأشياء والعالم من حولنا، تعمل بأساليب متنوعة على توجيه الطريقة التي نفكّر بها وندرك بها الأمور، ولذلك فإنّ التصنيفات أو القوالب النمطية التي نكوّنها توفّر لنا الأفكار التجريدية التي نحتاجها لنتعامل مع كلّ ما حولنا، وتسهّل على أدمغتنا تحليل الكم الهائل من المعلومات التي تتلقاها في حياتها اليومية.
تأخذ تلك القوالب النمطية منحىً سيئًا حين تبدأ تتفاعل مع الآخرين والثقافات أو المجموعات المغايرة بطرقٍ سلبية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى الكيفية التي يميل بها العقل البشري إلى تقسيم العالم إلى ثنائيات: “نحن” و”الآخر” تحتلّ جزءًا من تفكيرنا وولاوعينا، وتعكسها لغتنا المحكية. وبالتالي نستطيع القول أنّ للتحيز أو للتفرقة العنصرية أثر ضمنيّ على لغتنا، كما أنّ اللغة تلعب دورًا حاسمًا في تشكيلهما، أيْ أنّ العلاقة ازدواجية تسير في اتجاهين، ما يعني أنّ دراسة التحيز والقوالب النمطية دون النظر في اللغة ودورها وآثارها، لن تكون كاملة.
يمكن تحليل أو فهم القوالب النطية عن طريق النهج الإدراكي أو النهج الثقافي الاجتماعي والذي يرتبط باللغة والكلام والقواعد النحوية والأساليب البلاغية
عمومًا، يمكن تحليل أو فهم القوالب النطية بإحدى الطريقتين أو النهجين: النهج الإدراكي الذي ينظر في الطريقة التي يرى الفرد نفسه فيها منتميًا إلى مجموعة ما أو مرتبطًا بها وبالتالي تتم دراسة كيفية تكوّن القوالب النمطية لديه بناءً على هذا الأساس. وهناك النهج الاجتماعي الثقافي، الذي ينظر إلى المجموعة التي ينتمي إليه الفرد ككل وكيفية تطوّر القوالب النمطية داخل تلك المجموعة أو الفئة الاجتماعية، أي أنّنا ننظر هنا على أنّ المجموعة هي العامل المؤثر وليس الفرد نفسه.
ومع ذلك، فلا يمكن نقاش النهج الثقافي أو الاجتماعي دون العروج على دور اللغة فيه وبالتالي في تكون القوالب النمطية عند الأفراد، فهي ليست وسيلة لنقل أفكارنا ومعتقداتنا وقيمنا ومواقفنا وآرائنا فحسب، وإنما هي أيضًا جزءًا أساسيًا من نظام المعلومات الذي يعمل على تكوين تلك المعطيات في أدمغتنا، عوضًا عن كونها تشكّل عاملًا هويّاتًا يميّز الأفراد والمجموعات.
إذن نستطيع أنْ نقول أنّ هناك نهجًا ثالثًا يمكن دراسته لفهم القوالب النمطية، وهو النهج الذي يقوم على تحليل اللغة والكلام والتعابير المستخدمة والقواعد النحوية وأساليب البلاغة التي ينطوي عليها نشوء تلك القوالب وما يرافقها من تحيزات وتفرقة وتحاملات. وبطبيعة الحال، عندما يتعلق الأمر باللغة والمجتمع، فسؤال الدجاجة والبيضة ينشأ لا محالة. فهل تعكس اللغة التحيزات المجتمعية أم أنها تعززها وتلعب دورًا في نشوئها. ويفترض هنا أنّ الجواب هو “كلاهما”.
يميل الأفراد إلى الاستنتاج بأن اللغة التي يتكلمونها هي مؤشر على الفئة الاجتماعية التي يشكلون جزءًا منها وينتمون إليها، وبالتالي فهي ترتبط بالدلالات الاجتماعية والثقافية الخاصة بتلك الفئة
نحن نرى الآخرين بطريقة معينة استنادًا إلى تجاربنا الواقعية بالإضافةً للقصص أو المعلومات التي نسمعها عنهم وتتم مشاركتها عن طريق الأفراد داخل إطار المجموعة التي ننتمي إليها أو خارجها، أو من خلال ما نقرأه ونسمعه في الكتب والأفلام ووسائل الإعلام المختلفة الأخرى أو ما نتلقاه في المؤسسات التعليمية والثقافية والتي تعكس وجهات نظر متنوعة عن العالم وما فيه من أشخاص وأشياء.
يميل الأفراد إلى الاستنتاج بأن اللغة التي يتكلمونها هي مؤشر على الفئة الاجتماعية التي يشكلون جزءًا منها وينتمون إليها، وبالتالي فهي ترتبط بالدلالات الاجتماعية والثقافية الخاصة بتلك الفئة، وقد نستدلّ هنا على الطريقة التي تلعب بها اللهجات المختلفة دورًا كبيرًا في الكيفية التي ينظر بها أبناء المجتمعات لبعضهم البعض، أو حتى كيف ينظر أفراد بعض المجموعات إلى من يتحدث لغةً غير لغتهم.
غالبًا ما يتمّ التعامل بتحيّز أو بتفرقة عنصرية مع الأقليات التي لا تتحدث لغة المكان المتواجدة فيه بفعل الهجرة أو مع الأشخاص الذين يتحدوث بلهجات مختلفة
إذن فاللغة وبكونها تجمع الأفراد معًا داخل المجتمع الواحد، فهي تعطيهم هوية مشتركة وقدرة على التواصل، ما يجعلها تشكّل من تلك الجماعات “مجموعات داخلية” تستثني كلّ من هم خارجها، أي أولئك الذين يختلفون في لغتهم أو لهجتهم عنها ولا يستطيعون التواصل معها، الأمر الذي يوفّر سببًا نظريًا للتمييز والانحيازات. فغالبًا ما يتمّ التعامل بتحيّز أو بتفرقة عنصرية مع الأقليات التي لا تتحدث لغة المكان المتواجدة فيه بفعل الهجرة أو عوامل أخرى، ما يجعل الأفراد الأصليين يهابون كلّ من يتحدث لغةً غريبة أو يظهرون شعورًا بعدم التقبل والارتياح في حضوره، نظرًا لجهلهم لطبيعته وللقوالب النمطية المتشكلة مسبقًا في عقولهم عن ذلك الشخص.
أما في بعض الدول، فتكون اللغة المحكية أو اللهجة طريقةً لتمييز الشخص من غيره، فأبناء المدينة يختلفون بلهجتهم عن غيرهم من أبناء القرى الذين يختلفون بدورهم في اللهجة المحكية عن غيرهم من القرى، وبالتالي باتت طريقة نطق الكلمات أو الحروف هي التي تحدد الطريقة التي ينظر بها البعض لغيرهم، نظرًا لأنّ تلك اللهجة تضفي بُعدًا هويّاتيًا وانتمائيًا للفرد.
اللغة والتحيّزات الجندرية
يمكن تقسيم اللغات في طريقة تعاملها مع الجنس إلى ثلاثة أنواع، لاجنسية أو تلك التي لا تحتوي أبدًا على أيٍّ من القواعد النحوية التي تعمل على التمييز بين الذكر والأنثى، مثل اللغة التركية أو الفنلندية. وهناك اللغات الجنسية البسيطة مثل اللغة الإنجليزية واللغات الاسكندنافية، حيث فيها علامات نحوية تدل على الجنس ويمكن استخدام معظم الكلمات وأشكالها اللغوية المتعددة من أسماء وصفات ونعوت للإشارة إلى كلٍ من الذكور والإناث على حدٍ سواء، غير أنّ الضمائر هي الطريقة الأساسية للتعبير عن نوع الجنس.
وهناك اللغات النحوية الجندرية، مثل العربية والفرنسية والإيطالية والألمانية، حيث تصنّف كلّ الكلمات فيها إمّا لمذكر أو مؤنث أو محايدة الجنس، عوضًا عن أنّ ثمة قواعد نحوية تشير لجنس الاسم أو الكلمة المستخدمة. فكلمة “بحر” تعدّ اسمًا مذكّرًا في كلٍّ من العربية والإيطالية على سبيل المثال، أما في الفرنسية فالمفردة التي تحمل معنى كلمة بحر هي مفردة مؤنثة.
قد تلعب اللغاتات الخالية من القواعد الجندرية دورًا صريحًا في جعل المرأة تختفي في التمثيل العقلي أو بتمثيلها بطريقةٍ أقل مواتاة ومناسبة
ترى بعض الآراء أنّ اللغات الخالية من القواعد الجندرية يمكن لها أنْ تلعب دورًا صريحًا في جعل المرأة تختفي في التمثيل العقلي أو بتمثيلها بطريقةٍ أقل مواتاة ومناسبة، فأنتَ حين تسمع كلمة “دكتور” في اللغة الإنجليزية، فغالبًا ما قد يخطر على عقلك بدايةً أنّ المتحدَّث عنه ذكر، إلى في حين تمت الإشارة إلى اسمٍ معين.
إضافةً لذلك، فثمة القاعدة الأساسية المتواجدة في كثيرٍ من اللغات والتي تنصّ على أنه عندما يكون جنس الشخص غير معروف، ينبغي أن يشير المتكلمون إلى ذلك الشخص باستخدام نموذج ذكوري افتراضيًا، بصرف النظر عن كون الحديث يشمل الإناث أم لا. وهنا يعترض الكثيرون خاصة ممن ينتمون إلى الجماعات النسوية على أنّ استخدام النموذج الذكوريّ وإهمال الضمائر الأنثوية هو نوعّ من التحيّز اللغوي والمجتمعي ضد الإناث أنفسهنّ.
وبعيدًا عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع وجهات النظر تلك، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى أنّ اللغة تلعب دورًا كبيرًا في سلوك الأفراد والمجتمعات، وبالتالي فاستخدامها في عكس القوالب النمطية التي تكوّنها عقولنا والتعبير عنها، يمكن أنْ يؤدي إلى نشوء التحيزات والتفرقة العنصرية بطرقٍ مختلفة، وهنا يخرج التساؤل عن الطريقة التي يمكن من خلالها التحكم بلغتنا وباختيار الكلمات المحكية والتعبيرات المروية في سبيل التقليل أو التخفيف من التحيّزات المجتمعية الناشئة بين الأفراد.