ترجمة وتحرير: نون بوست
ما الذي كان سيحدث لو تم الإعلان، خلال الأسبوع الذي أعقب غرق أموكو كاديز سنة 1978، وكحل للسيطرة على مشكلة تسرب النفط، دفع بضعة اليوروات سنويا لسكان مقاطعة فينيستير؟ في الواقع، هذا هو، في الجوهر، الخيار الذي اقترحه كتاب المقال الذي نشر في صحيفة لوموند، في 4 من شهر شباط/ فبراير (“بياناتنا الشخصية ملك لنا”: لما لا نثمنها”). وقد أحال هؤلاء الكتاب إلى أنه، وبغية مجابهة السيطرة على البيانات الشخصية والحجم المتزايد للخوارزميات، لا بد من تمكين الجميع من تحويل البيانات الشخصية الخاصة بهم إلى مصدر للأموال بكل حرية.
قد تبدو هذه الفكرة مبتذلة وغير اعتيادية لكنها صائبة نسبيا، حيث تمثل البيانات الشخصية “الذهب الأسود الجديد” ومفتاح الاقتصاد الذي برز مؤخرا … في الواقع، نقصد بعبارة “الذهب الأسود” في هذه الحالة مادة خطرة أصبحنا مدمنين عليها في حين أن اقتصادنا مرتبط بها بشكل وثيق، مع العلم تماما أن هذا الأمر قد يتسبب في وقوع عدة كوارث على المدى القصير. وتماما مثلما يكون رد فعلنا إزاء كل كارثة، نتوقع أن الأسوأ سبق وأن عشناه في الماضي، في حين أننا لن نواجه أي معضلة في المستقبل.
في الحقيقة، يقع جمع بيانات بحجم إيكسون فالديز (الناقلة الأمريكية التي تسرب منها نحو 38 ألف طن من النفط على امتداد 1.300 كم من السواحل في ألاسكا سنة 1989) كل يوم. في الأثناء، لا تمر 24 ساعة دون أن نسمع بسرقة قاعدة بيانات ضخمة أو جمع معلومات طبية أو معلومات شركات صغرى من قبل شركة كبيرة عبر الإنترنت بطريقة غير قانونية أو استخدام هذه البيانات لتتبع المعارضين السياسيين أو بيع المعلومات أو المنتجات المغشوشة.
الخطر الأكبر، على المدى الطويل، يكمن في خلق شركات معتادة على المراقبة الجماعية الدائمة، وهو ما يحد من الإرادة الحرة لبعض الشركات الكبرى فيما يتعلق بالتصرف في قواعد البيانات الخاصة بها
خطر التعود على عمليات المراقبة الجماعية
إن الأسوأ لم يحدث بعد. على الرغم من اطلاعنا المحدود على عمليات تحليل البيانات إلا أن ما نعلمه كفيل ببث الرعب في قلوبنا. ففي الحقيقة، يمكننا اليوم تحديد التوجه الجنسي لشخص ما بدقة عن طريق الإعجابات التي يبديها على فيسبوك، أو ما إذا كانت المرأة حاملا من خلال تتبع تسوقها عبر الإنترنت. ولكن هذه الإمكانيات، التي تستحق بالفعل أن تكون جزءا من حلقة سيئة من المسلسل التلفزيوني البريطاني “بلاك ميرور”، تعد مجرد عينة بسيطة عما ينتظرنا في المستقبل، في الوقت الذي ما فتئت فيه كمية البيانات المنتجة والمجمعة، وتتطور قدرتنا على تحليلها، تتنامى كل يوم. ففي المستقبل القريب، قد تكتشف شركة التأمين الخاصة بك ما إذا كنت معرضا لخطر الإصابة بأمراض القلب من خلال قائمة مشترياتك على موقع أمازون، أو معرفة الوقت المحدد الذي زرت فيه شريكك.
من الطبيعي أن نشعر بالحيرة أمام هذا “التسرب النفطي” للمعلومات الخاصة بينا الذي في انتظارنا. ويعزى ذلك إلى أننا نلجأ، في الكثير من الأحيان، إلى اعتماد الأدوات الفكرية الموروثة في أوروبا، تماما مثل طريقة الغيستابو والشتازي. في الأثناء، لا يشبه التهديد الذي نواجهه اليوم الخطر الذي قد يتعرض له أحد المعذبين، في مكتب ما في مكان ما، حيث يتم الاطلاع على بريدك وحياتك الخاصة. ويظل هذا الخطر قائما على الدوام. وكما كشفت الوثائق التي نشرها فاضح الأسرار، إدوارد سنودن، توظف خدمات الدولة بكل سرور أدوات جمع البيانات التي وضعتها شركات الويب.
لا يمكن للشركات الصغيرة والمتوسطة اليوم التظاهر باستخدام البيانات بنفسها بشكل مباشر، حيث يجب عليها المرور من خلال خدمات عمالقة الويب
لكن الخطر الأكبر، على المدى الطويل، يكمن في خلق شركات معتادة على المراقبة الجماعية الدائمة، وهو ما يحد من الإرادة الحرة لبعض الشركات الكبرى فيما يتعلق بالتصرف في قواعد البيانات الخاصة بها. وبطبيعة الحال، حاول الاتحاد الأوروبي تنظيم عمليات جمع البيانات بفرض حد أدنى من الضمانات على البيانات التي يمكن جمعها ومعالجتها في الولايات المتحدة. في السياق ذاته، لا يبدو أن الاتفاق الذي أطلق عليه “درع الخصوصية” [الذي من المفترض أن يضمن للمواطنين حماية البيانات، التي يتم جمعها من قبل فيسبوك وغوغل وأمازون، … أو تخزينها في السحابة (الحوسبة السحابية) – بشكل جيد، وأنها لن تكون موضوع عمليات مراقبة جماعية] طموحا بما فيه الكفاية لدرجة أننا نعلم يقينا أنه سيجعل جميع عمالقة الويب تمتثل له من اليوم الأول دون تغيير ممارساتهم.
سوء تقدير جوهري للمسألة
لتجنب هذا الكابوس في المستقبل، هناك حل، الذي لا يقتضي بالتأكيد أن نقترح على كل شخص تثمين بياناته الخاصة بنفسه مقابل بضعة سنتات، وإنما يتمثل في الحظر الفعلي لعمليات جمع البيانات الشخصية على الإنترنت. في هذا الشأن، لا تعمل أجهزة الجوسسة التي تغزو جميع المواقع والتطبيقات على تقديم خدمات كثيرة لك، أي المستخدمين والمواطنين، باستثناء شخصنة الخدمات بشكل غامض دون تقديم فائدة إضافية.
في الواقع، لا يحيل الأمر إلى منع الشركات من الاحتفاظ بملف للعميل أو القيام بحملة دعاية. ففي حال كنت تريد أن تعطي تاريخ ميلادك إلى السوبر ماركت أو شركة التأمين الخاصة بك، فلا توجد أي مشكلة، حيث تؤمن لك القوانين الحالية الحماية بطريقة واضحة وبسيطة. ولكن هل يستحق الأمر أن يتم تحديد موقعك بشكل دائم في محيط متر واحد، للسماح لمركز تجاري بأن يقترح عليك قائمة التخفيضات فور دخولك إليه؟
قد تعتقدون أن الذهب الأسود، أي البيانات الضخمة، سيساهم بشكل من الأشكال في النمو الاقتصادي، وتعزيز الوظائف والناتج المحلي الإجمالي! في الواقع، لا، أو قد يتحقق ذلك بصفة محدودة. والأسوأ من كل ذلك، تسبب جمع قدر هائل من البيانات الشخصية في خلق مشاكل على مستوى المنافسة وذلك على نطاق واسع بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث.
أظهرت هذه الحجة النيوليبرالية، التي تميل إلى استبدال قواعد واضحة بأحد الأشكال غير المقنعة “لليد الخفية للسوق”، بالفعل، على مدى السنوات العشر الماضية، عجزها الكلي عن التحكم في نمو عمالقة الإنترنت الجدد، بصفة ناجعة
عموما، لا يمكن للشركات الصغيرة والمتوسطة اليوم التظاهر باستخدام البيانات بنفسها بشكل مباشر، حيث يجب عليها المرور من خلال خدمات عمالقة الويب. يعد الانسياق وراء ما كتبه مؤلفو المقال، الذي نشر في صحيفة “لوموند”، والذي ذكروا فيه أن “إدانة تثمين البيانات يعتبر بمثابة إنكار للواقع الاقتصادي، لأن بياناتنا قد أصبحت، بحكم الواقع، سلعة تجارية”، دليلا على افتقارنا لتقدير جوهري لهذه المسألة.
إساءة استخدام المراكز المهيمنة في هذا المجال
في المقام الأول، نادرا ما تباع هذه البيانات على اعتبارها مادة خام. ففي الغالب، يقع “تثمينها”، وفقا للغة المزدهرة المعتمدة في مجال التقنية الناشئة، أي أنها تستخدم في إطار تقديم الإعلانات المستهدفة أو عمليات التسويق. في الأثناء، لا تعمل شركة غوغل أو فيسبوك على “بيع” بياناتنا. وفي حال اعتقدنا غير ذلك، فعلى الأرجح، يعود هذا الأمر لجهلنا بنموذج هاتين الشركتين. ففي حقيقة الأمر، يهدف هذا النموذج إلى جمع وتخزين أكبر قدر ممكن من المعلومات لحساب هاتين الشركتين الخاص لتنصب نفسها في موقع القيادة في هذا المجال.
وبالفعل، تمكنت الشركتان من تحقيق ذلك. ولعل أبرز دليل على ذلك، من بين عدة أمور أخرى، فتح قضية في ألمانيا مؤخرا على خلفية إساءة استخدام المراكز المهيمنة في قطاع الإعلان على الإنترنت ضد فيسبوك وغوغل. من ناحية ثانية، وقبل كل شيء، مطالبتنا بقبول الواقع الاقتصادي الذي يشكل خطرا كبيرا على حرياتنا العامة وقدرتنا على الاختيار ومعلوماتنا وصحتنا تعد بمثابة أن يطلب منا السماح ببيع أعضائنا بحجة أن ذلك يحدث في بعض البلدان، أو تحت غطاء السرية.
في واقع الأمر، أظهرت هذه الحجة النيوليبرالية، التي تميل إلى استبدال قواعد واضحة بأحد الأشكال غير المقنعة “لليد الخفية للسوق”، بالفعل، على مدى السنوات العشر الماضية، عجزها الكلي عن التحكم في نمو عمالقة الإنترنت الجدد، بصفة ناجعة.
المصدر: لوموند