ما علاقة ويكيبيديا بحبة الزيتون؟ هل علينا أن نكتب بلغة أكاديمية صعبة لا يفهمها اليافعون؟ لماذا يستثمر كبار العلماء في العالم الكثير من وقتهم للتواصل مع الناس خارج الإطار الأكاديمي؟ ولماذا نحن، جميعًا، كبشر مهمين للعلوم والمعرفة البشرية؟ هذا النص ليس حنينًا إلى الماضي، هذا تفكير بالواقع الحاليّ والمستقبل، بحثًا عن طرق تجعل التكنولوجيا قوة تعاونية تخدم البشرية لا أن تدمرها.
تجربة الطفل ومحيطه: كلما زادت تجارب الطفل العملية، توسعت آفاقه، وكلما انخرط الطفل بتجارب ومهام فيها تحديات، زاد شغفه، وكلما لمس الطفل الأرض والحجر والزرع، تطورت مهاراته الحسية.
كلما تحدث الطفل وشارك أفكاره وسمع أفكار غيره، تطورت لديه المهارات اللغوية، وكلما استخدم الطفل التكنولوجيا بأشكالها المتعددة (قلم، كتاب، فيديوهات يوتيوب)، كان معرضًا لإمكانات تعلم عظيمة، كلها، إمكانات التعلم هذه تعتمد على وتتم بوجود “شبكة اجتماعية” كفيلة بدعم هذا النمو اجتماعيًا وعاطفيًا وأكاديميًا، شيئًا فشيئًا، بفعل صغير أو كبير، مهما كان حجمه، ليكبر الطفل فيصبح كونًا بحد ذاته، شرط أن يكون الطفل فعالاً ومجربًا ومفكرًا.
هكذا يتعلم الإنسان، يتعلم بالتجربة، يتعلم بتعاونه وتشاركه ومساهمته للمجموعة، يتعلم باستخدام أدوات مختلفة منها البسيط المتاح ومنها المعقد.
موسم الزيتون: كان جدي فلاحًا، محبًا لأرضه، كان يقضي أوقاته قدر ما استطاع بين أشجار الزيتون، خاصة في وادي الخروبة وبالذات في نهايات الأسبوع متى تيسر له الذهاب هناك، كان يعتني بأشجاره، يعرف متى عليه تنظيفها وسقايتها ورعايتها، وكان يعرف قصة كل شجرة، ومتى زرعت ولماذا زرعت، وكنا نحن نرافقه بمعظم الأحيان، حين كنا أطفالاً يدب فينا شغف التسلق على الأشجار واللعب بالتراب والحجارة، كان موسم الزيتون بالنسبة لنا عرسًا حقًا.
النموذج التشاركي، المساهمة كل بقدر استطاعته من طفل لشابة لفلاح كبير السن، مهما كان حجم المساهمة، توزيع المهام، الانتقال من مهمة إلى مهمة أصعب والعمل على حلها، ومن ثم تجميع كل ما تيسر من موارد لعصر الزيت وكبس الزيتون، هو النموذج المصغر لقوة “الذكاء الجمعي”
كان الموعد شهر أكتوبر، وعادة، أول مرة ننزل فيها لوادي الخروبة في كل موسم يكون “يوم جمعة”، هذا الموسم بالنسبة لي القصة التي تجسد التعاون والمشاركة، كان لكل منا مساهمته الخاصة، البعض يجلس كسلاً ليلقي النكات، البعض يصعد على السلالم، البعض يقطف الزيتون من على أغصان الشجر، البعض يحضر الطعام، البعض يشاكس، وغيرها من المهام منها النافع ومنها الأقل نفعًا.
كان القطف بطريقة “الحلب” أسهل المهام، بعد القطف كان هناك مهام عديدة متتالية من تجميع الزيتون بقطع الشادر والنايلون، ومن ثم وضعه في أكياس الزيتون وتصنيف أي الأكياس هي للزيت وأيها للكيس، لتذهب بعدها إلى المعصرة، لكن، أهم وأصعب مهمة برأيي من بين جميع المهام، التي كان الجميع يتهرب منها، هي “جول الزيتون”، وهي تنقيب ما سقط على الأرض واختلط بالتراب من حبات زيتون، حبة حبة.
بعد انتقال المجموعة الكبيرة للشجرة الآتية، كان جدي، يعود إلى الشجرة التي تم قطفها، فيبدأ بتجميع ما سقط من حب الزيتون حبة حبة، كان حازمًا بخصوص هذه النقطة، وكان يجبرنا بكل محبة أن نجلس معه لنجول حبات الزيتون، كانت مهمة صعبة، تحتاج الكثير من التركيز والقدرة على التصنيف، إلا أننا من حبة إلى أخرى كنا ننهي يومنا بكيس كبير من الزيتون كافٍ ليكون مونة زيتون مكبوس لعائلة صغيرة مدة عام، كانت هذه مساهمتنا الصغيرة الكبيرة، حبة واحدة صغيرة تصنع الفرق.
من حبة الزيتون إلى الشبكة: هكذا تبنى الشبكة، خيط واحد، يتشابك مع باقي الخيوط بعدها، إنها كيس الزيتون المكون من الحبات مجتمعة بعد عناء يوم طويل في قطف الزيتون الجماعي.
هكذا تبنى شبكات المعرفة، مزيج من الخبرات والتجارب بمستويات عديدة متفاوتة، لا تتبع فكر القطيع، إنما تقدم ما لديها لتنتج وتتحرك وتستمر – لتبدع، ترعاها خبرات ومهارات من هم أكثر تجربة، هكذا بنيت ويكيبيديا
هذا النموذج التشاركي، المساهمة كل بقدر استطاعته من طفل لشابة لفلاح كبير السن، مهما كان حجم المساهمة، توزيع المهام، الانتقال من مهمة إلى مهمة أصعب والعمل على حلها، ومن ثم تجميع كل ما تيسر من موارد لعصر الزيت وكبس الزيتون، هو النموذج المصغر لقوة “الذكاء الجمعي” كنموذج تعاون، نموذج فيه تختلط التجارب بدرجاتها المتفاوتة، ليكون تجربة تعلم إنسانية وحياتية لا يمكن لأي اختبار ورقي في “مدارس المؤسسات” تقييمها.
هذا النموذج، كان بيئة تعليمية غنية لكل طفل تمكن من أن يعيش التجربة – تجربة موسم الزيتون -، هذا النموذج، يتمكن من خلاله كل بما تيسر ولو بالقليل بالمساهمة، وفي ظرف زمني قصير التمكن من العمل الجمعي للحصول على ما هو جوهري: إتمام قطف جميع الأشجار في الكرم خلال ثلاثة أسابيع، ومن ثم عصر الزيتون والبدء بكبس الزيتون.
هكذا تبنى شبكات المعرفة، مزيج من الخبرات والتجارب بمستويات عديدة متفاوتة، لا تتبع فكر القطيع، إنما تقدم ما لديها لتنتج وتتحرك وتستمر – لتبدع، ترعاها خبرات ومهارات من هم أكثر تجربة، هكذا بنيت ويكيبيديا، هكذا بنيت البرامج مفتوحة المصدر، وهكذا بدأت أهم مختبرات العالم الغنية بالموارد بتذويت أهمية إتاحة المشاركة المعرفية ما بين الناس والعلماء، لتمكن أي إنسان من أن يكون في بيته الصغير، بمواد بسيطة أن يصبح عالمًا بنفسه دون انتظار “التمويلات” أو “مؤسسات التنمية”.
أود التنبيه إلى أن هذا النص مكتوب بتأثير من أستاذ جامعتي بروفيسور “جيمس باول جي” بعد مناقشتنا معه كتابه الأخير: “التعليم التعلم والقراءة”، وكذلك كتاب “إعادة اختراع الاكتشاف: عهد جديد من العلم المتشابك” لمايكل نيلسين.