هل أصبح من كانوا وقودًا للثورة، الضحايا بعد سبع سنوات من الحرية والكرامة؟ لقد باتت عودة التحقيقات مع عشرات النشطاء والمدونين بمختلف ميولهم الفكرية واستمرار التحقيق معهم ومن أبرزهم المدون ماهر زيد ورحال الجبالي والصحبي العمري ووحيد البراهمي، وتوعدهم وإيقاف بعضهم دون مراعاة للجوانب القانونية (وفق تأكيداتهم)، تطرح تساؤلات عدة.
أكد بعض المدوّنين أنه يتم خلال هذه الحملة ملاحقة أكثر من ألف مدون من مدوني الثورة سنة 2011، كما تعرضت بعض الصفحات الفيسبوكية الخاصة بالمدونين للقرصنة في إطار ما اعتبرها أصحابها سياسة ممنهجة للتضييق على حرية التعبير ومخالفة للفصل الخامس من المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري.
تصريحات وتصريحات مضادة
يبدو أن تلك التهديدات ضد المدونين والإعلاميين لم تعد حديث الأروقة والاجتماعات السرية، بل جاءت في شكل تصريحات معلنة ومباشرة وأمام نواب الشعب وتحت قبة مجلسهم.
ما من شك أن تلك التهديدات مرفوضة شكلاً ومضمونًا، وهي إلى ذلك انتهاك صريح للحق في التعبير وتجاوز خطير لمكسب أساسي من مكاسب الثورة
لقد أخذت تلك المحاكمات المستمرة لحرية الرأي والتعبير شبه الحملة التصعيدية إثر الاحتجاجات على قانون المالية أول هذا العام رغم ما شابها من تخريب رفضه أغلب التونسيين، وإثر تهديدات وزير الداخلية لطفي براهم بملاحقة المدونين والفيسبوكيين والصحفيين بتتبعهم والتنصت عليهم.
ما من شك أن تلك التهديدات مرفوضة شكلاً ومضمونًا، وهي إلى ذلك انتهاك صريح للحق في التعبير وتجاوز خطير لمكسب أساسي من مكاسب الثورة
لكن لا بد من الإشارة إلى الوعي والتيقظ لدى عدة منظمات وطنية وأحزاب استنكرت بشدة تلك التصريحات، واعتبرها حراك تونس الإرادة “حملة اعتقالات” طالت عددًا من المدونين والشباب، وذهب رئيس الحزب والرئيس السابق المنصف المرزوقي طالب بعزل وزير الداخلية لطفي براهم، متهمًا إياه بخرق القانون والقفز على الدستور بعد اعترافه بالتنصت على صحفيين وسياسيين، وهو أمر غير قانوني ولا دستوري، ويخالف مبدأ حماية الحياة الشخصية للأفراد.
أكثر من ذلك ذهب مؤسس حزب حركة وفاء عبد الرؤوف العيادي إلى تطوعه للدفاع عن أي مدون يقع مصادرة حقه في التعبير عن رأيه من وزارة الداخلية، كما طالبت منظمات دولية على غرار منظمة العفو الدولية، الحكومة التونسية بوضع حد لتقويض حرية التعبير، وبتعديل القوانين التي تهدد حق الناس في انتقاد الدولة.
تهديدات مرفوضة
ما من شك أن تلك التهديدات مرفوضة شكلاً ومضمونًا، وهي إلى ذلك انتهاك صريح للحق في التعبير وتجاوز خطير لمكسب أساسي من مكاسب الثورة، فضلاً عن كونه لا يحق لأي مسؤول تكميم الأفواه والأصوات التي تجرأت على فضح وفتح ملفات الفساد أو انتقاد سلطة قائمة، فلا صلاح ولا إصلاح دون مصلحين ومتيقظين يضعون الأصابع على الداء، ويشخّصون مواطن العلّة ويفحصون الجراح، لا أن يضعوا عليها الملح.
أقلام المدونين والإعلاميين لم تفتأ تُوجِّه سهام انتقاداتها لبعض السلطات المختصة بالسهر على احترام مؤسسات الإعلام السمعي البصري وتنظيمها وتعديلها (الهايكا خاصة) لشبه غيابها عندما يتعلق الأمر بمثل تلك المحاكمات
كما أن المؤسسة القضائية وحدها المُخولة باتخاذ أي إجراءات أو تتبعات عدلية، وبالتالي من غير المقبول ولا شك تجاهل عملية إيقاف أي ناشط تهمته الوحيدة الكتابة والتدوين والاستقصاء.
نُذُر استبداد؟
ربما ما يثير التخوف من عودة منظومة الترهيب والتخويف حقيقة، هو ما قد يكون وراء تعرض المدونين للاعتقال والتتبع.
لقد جاءت الملاحقات الأمنية لعشرات المدونين بعد تصريحات رسمية لمسؤولين في أعلى هرم السلطة، وهنا نتحدث عن تصريحات مستشاري رئاسة الجمهورية نور الدين بالنتيشة وسعيدة قراش اللذين تحدثا عن البحث في كيفية عودة هيئات رقابية كانت إلى وقت قريب قبل الثورة تُكبّل العمل الإعلامي، على غرار وكالة الاتصال الخارجي سيئة السمعة، بحجة أهميتها في كل الدول للترويج لصورة الدولة.
بينما نذكر أن تلك الماكينة الإعلامية كانت تلمع صورة النظام لا أكثر، فضلاً عن توتير الأجواء داخل الأسرة الإعلامية وكتابة التقارير والوشاية والوصاية، وبث روح البغضاء والضغينة بين زملاء المهنة ليسهل اختراقهم، وبالتالي تدجين القطاع.
الأخطر أن ترتبط هذه الإيقافات بالخارج كما يذهب بعض أولائك المدونين، بأن دولة عربية أسموها وهي الإمارات، تقف وراء أجندات انقلابية تخريبية في البلاد
وحتى لا تُعاد تلك الطاحونة للدوران وإنتاج طحينها المعتاد، فإن سهام نقد المدونين والإعلاميين لم تفتأ تُوجه انتقاداتها لبعض السلطات المختصة بالسهر على احترام مؤسسات الإعلام السمعي البصري وتنظيمها وتعديلها (الهايكا خاصة) لشبه غيابها عندما يتعلق الأمر بمثل تلك المحاكمات.
صحيح أن المنظمة الحقوقية الأمريكية فريدم هاوس نشرت مؤخرًا في تقريرها لعام 2018، أن تونس حافظت على مركز الصدارة عربيًا في مجال الحريات، لكن يجب الوقوف جيدًا عند إشارتها إلى هبوط مؤشر الحريات مقارنة بالعام السابق بانخفاض معدل نقاط الحرية في تونس، مُرجعة ذلك إلى ضغوط من عناصر نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي وتسلطه على النظام السياسي الحاليّ.
إن الأخطر في الأمر فعلاً، أن تكون مسألة الإيقافات نهجًا سياسيًا متبعًا، لا خطأ فرديًا أو فعلاً منعزلاً، بل الأخطر أن ترتبط هذه الإيقافات بالخارج، كما يذهب بعض أولائك المدونين، بأن دولة عربية أسموها وهي الإمارات، تقف وراء أجندات انقلابية تخريبية في البلاد.
حينها ندرك أن عودة الوصاية والاستبداد لا تتم إلا عبر ضرب منظومة الحريات والحقوق لكتم الأصوات ولتمرير السياسات.