لا تزال نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية في فرنسا تشغل اهتمام الجزائريين سواء في الداخل أو الخارج، بالنظر إلى احتمال وصول اليمين المتطرف إلى إدارة الحكومة بعد الانتخابات التشريعية المسبقة المرتقبة في 30 يونيو/ حزيران الجاري، ما قد يكون له آثار سلبية على العلاقات بين البلدين، وبالخصوص على ملفَّي الهجرة والذاكرة، حيث لا يتردد هذا التيار في التهديد بإلغاء اتفاقية 1968، وهو من الممجّدين للفترة الاستعمارية في البلد المغاربي.
ولا يملّ اليمين بتياراته المختلفة في كل مرة من إطلاق تصريحات استفزازية ضد الجزائر ورعاياها المقيمين بفرنسا، بالنظر إلى خطابه العنصري المبني على استهداف المهاجرين وكل ما له علاقة بالجزائر.
انشغال
منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في باريس بداية الأسبوع، وفوز التجمع الوطني اليميني بـ 31.36% من الأصوات، متقدمًا بفارق كبير على التكتل الرئاسي الذي اكتفى بـ 14.6% من اختيارات الناخبين، تهتم الأوساط السياسية والإعلامية في الجزائر بتبعات هذا الفوز في قادم الأيام والأسابيع على الجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا، والتي يزيد رقمها عن 5 ملايين وفق إحصاءات غير رسمية.
وما يزيد من هذا الانشغال هو أن استطلاعات الرأي الأولية تتوقع حصد حزب مارين لوبان، المعروفة وعائلتها وطيفها السياسي بمعاداة الجزائر، في الانتخابات التشريعية المسبقة 34% من أصوات الناخبين، الأمر الذي يمكنه من تشكيل الحكومة، وبالخصوص بعد إعلان حزب الجمهوريون نيّته في التحالف مع التجمع الوطني في الانتخابات التشريعية المبكرة، وخوض هذا الاستحقاق جنبًا إلى جنب.
ووصفت صحيفة “الخبر” الجزائرية المقربة من دوائر الحكم هذا الإعلان بأنه “مشروع تحالف يهدد المهاجرين الجزائريين في فرنسا”. ولا يأتي هذا التخوف من فراغ، إذ إن التجمع الوطني سارع فور إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية إلى القول عبر المتحدث باسم الحزب سيباستيان تشينو، إنه سيقدم مقترحًا لإلغاء اتفاقية الهجرة 1968 التي تنظم تنقل الأشخاص بين البلدَين.
وتعدّ هذه النتائج الفرصة المنتظرة لليمين المتطرف للنبش في بنود هذه الاتفاقية، بالنظر إلى أن مضمونها شكّل على الدوام مادة دسمة له لانتقاد سياسة الهجرة المطبّقة في فرنسا، رغم أنها توصف بالأسوأ في أوروبا إذا ما قورنت بدول أخرى كألمانيا وبريطانيا وإسبانيا.
وقبل أكثر من عام، تقدمت كتلة الجمهوريين في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) بمقترح إلغاء اتفاقية 1968، إلا أن المقترح رُفض رغم تأييد نواب من التكتل الرئاسي له، وهذا التأييد هو ما يزيد من مخاوف الجالية الجزائرية بالنظر إلى أن جناح ماكرون قد أصبح اليوم في موقع ضعف، وبالخصوص في حال ما صدقت استطلاعات الرأي وواصل التحالف الرئاسي تقهقره في الانتخابات البرلمانية المسبقة.
أفضلية
رغم التعديلات العديدة التي مسّت اتفاقية الهجرة الموقعة في ديسمبر/ كانون الأول 1968، إلا أنها تظل بالنسبة إلى الجزائريين ميزة لا يمكن التنازل عنها في علاقاتهم المعقدة مع فرنسا، حيث تحكم هذه الوثيقة تنقّل وتوظيف وإقامة الجزائريين في فرنسا وتحدد مستقبل عائلاتهم.
وكانت اتفاقية 1968 تسمح للجزائريين بالسفر إلى فرنسا ببطاقة تعريف فقط ودون جواز سفر ودون تأشيرات، إلا أنه تم تعديلها عام 1986 لتفرض حينها التأشيرة على الجزائريين، وذلك بعد التفجيرات التي نفّذتها حركة مجاهدي خلق في فرنسا، لتحدث تعديلات أخرى أعوام 1993 و1998 و2001 التي قلصت من الامتيازات التي كانت للجزائريين الموجودين بفرنسا، إلا أنها أبقت لهم الأفضلية في الحقوق مقارنة بباقي الدول خاصة المغاربية والعربية.
وتنص الاتفاقية بموجب تعديل عام 2001 على تسوية وضعية الجزائريين الذين يتزوجون برعية فرنسية أو أجنبية لها وثائق إقامة في باريس، وفق بند لمّ شمل الأسرة الذي يضمن لأفراد العائلة الحق في العلاج الصحي والوظيفة والتعليم، ومنح إقامة لمدة سنة قابلة للتجديد.
وتمكّن بنود الاتفاقية الجزائريين، مقارنة بباقي الأجانب، من الحصول على ما يعرَف بإقامة 10 سنوات بعد 3 سنوات من الإقامة، مقابل 5 سنوات في القانون العام الفرنسي، كما أنه بعد 10 سنوات من الإقامة بفرنسا -حال استطاع المعنيّ إثباتها- يمكن للجزائري الذي يوجد في وضعية غير قانونية الحصول آليًا على وثائق الإقامة.
كما تنصّ الاتفاقية على تسهيل منح الجنسية الفرنسية للجزائريين الذين وُلدوا في فرنسا وأقاموا بها لمدة تزيد عن 8 سنوات وتابعوا تعليمًا بمدارسها، ومن بنود الاتفاقية أن تمنح السلطات الفرنسية تفضيلات في التأشيرة والإقامة للطلبة والباحثين والفنانين والأدباء وكل من له صلة بالإبداع والتأليف إن كان يحمل الجنسية الجزائرية.
ولا ترفض الجزائر تعديل الاتفاقية من حيث الشكل، إلا أنها لا تقبل الغاية التي تستهدفها باريس، والتي ترمي إلى انتهاك حقوق المهاجرين الجزائريين، لذلك تصرّ على أن تكون أي مراجعة لهذه الوثيقة بالتشاور بين الطرفَين، وبما يتوافق مع المتغيرات الجديدة التي تسهّل تنقل الأشخاص لا تعقيدها وتصعيبها.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2022، خلال انعقاد الدورة الخامسة للجنة الحكومية رفيعة المستوى التي عُقدت في الجزائر، اتفق البلدان على إعادة تفعيل الفريق التقني الثنائي المكلف بمتابعة اتفاق 1968، من أجل إعداد الاتفاق التكميلي الرابع في الوقت المناسب.
وأشار الطرفان إلى أهمية وجود عمل منسَّق في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية، واستعدادهما استئناف أشكال الحوار التي شُرع فيها قبل جائحة كورونا، مع تأكيد التزامهما باحترام علاقاتهما والإطار القانوني الذي ينظم العودة والسماح بالدخول مجددًا.
وتضمّن البيان المشترك للدورة “تعزيز التنقل المشروع بين البلدين، والذي يساهم في تعزيز المبادلات الإنسانية والمؤسساتية والجامعية والعلمية والثقافية والاقتصادية، وتنظيم تنقل الأشخاص والوسائل الكفيلة لضمان استمراريتها وتعميقها، وذلك في ظل احترام الإطار القانوني الثنائي الذي ينظم هذه المسائل، لا سيما من خلال تنفيذ الاتفاق المتعلق بتبادل الشباب العاملين لـ 2015”.
لكن التجربة أثبتت أن باريس لا تريد معالجة حقيقية لهذه الاتفاقية، بالنظر إلى أن بقاءها بالصيغة الحالية يشكّل ورقة رابحة للسياسيين الفرنسيين لاستعمالها في خطاباتهم الشعبوية، ومهما اختلفت مشاربهم الأيديولوجية. فقبل عام، فضّل رئيس الوزراء الفرنسي السابق إدوارد فيليب، المرجّح أن يكون أحد المرشحين لرئاسيات 2027، أن يكون اتفاق الهجرة مع الجزائر بداية تقديمه كمرشح رئاسي قوي.
وقال فيليب في مقابلة مع أسبوعية “إكسبرس” الفرنسية إن الحفاظ على الاتفاقية اليوم، بعد 55 عامًا من التوقيع عليها، يجب أن يشمل إعادة قراءتها وفقًا للظروف والشروط السياسية القائمة اليوم، وليس تلك التي كانت قائمة لحظة التوصّل إليها.
ملف الذاكرة
يواجه مسار معالجة ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا الذي عرفَ بعض التقدم في الأشهر الماضية، أكبر اختبار لمدى صموده، بعد تحقيق اليمين المتطرف تقدمًا في الانتخابات البرلمانية الأوروبية.
ولا تستبعد أوساط جزائرية أن يعيد اليمين المتطرف في حال وصوله لتولي الحكومة عقب الانتخابات البرلمانية المسبقة، الخطوات المعدودة التي حققها البلدان بشأن ملف الذاكرة إلى نقطة البداية، بالنظر إلى أنه من المتبنّين لقانون تمجيد الاستعمار الصادر في 23 فبراير/ شباط 2005، الذي يرى أن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان إيجابيًا ولم يكن مطلقًا جريمة حرب ضد الإنسانية.
وظهر هذا الموقف منذ أسابيع عندما علق رئيس حزب الجمهوريون اليميني المتطرف، إيريك سيوتي، على قائمة مطالب الجزائر المتعلقة بالوثائق والممتلكات المنهوبة من فرنسا خلال فترة احتلالها للبلد المغاربي.
وكتب سيوتي في تغريدة مستفزة أنه على الجزائر أن “تسترد كل شيء سواء كان جيدًا أم سيئًا: المجرمون، الجانحون، المهاجرون غير الشرعيين”.
وأضاف سيوتي في أسفل تغريدته الشعار الجزائري المعروف “وان تو ثري” مع صورة لطائرة في وضع الإقلاع، في إشارة إلى دعوة المهاجرين الجزائريين لمغادرة فرنسا.
وقال مرشح الجمهوريين فرانسوا كزافييه بيلامي، قبل أكثر من أسبوع على صدور نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية، إن “الجزائر بلد أضاف إلى نشيده الوطني مقطعًا يهدد فرنسا”، وهو خطاب ليس له أي أساس، إذ إن مقطع “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب فاستعدي وخذي منا الجواب” موجود في النشيد الجزائري منذ كتابته ولا يعدّ أمرًا جديدًا.
وجاءت تصريحات اليمين المتطرف بعد أن أعلن رئيس الوفد الجزائري في اللجنة المشتركة الجزائرية الفرنسية للتاريخ والذاكرة، لحسن زغيدي، نهاية مايو/ أيار المنقضي، عقب عقد اجتماعها الخامس، أن “الجانب الفرنسي كان متفهّمًا وعلى مستوى عالٍ من التجاوب بخصوص ما تم طرحه من مطالب من قبل الجزائر”.
وقال زغيدي: “لأول مرة يتم دفع الطرف الفرنسي للمصادقة بالإجماع على مطالب اللجنة الجزائرية، المتمثلة في قائمة كاملة لكل المنهوبات الجزائرية ذات الدلالات الرمزية والسيادية لتعاد إلى الجزائر، تمهيدًا لرفعها إلى الرئيس الفرنسي”.
وكشف زغيدي أن الجزائر تطالب بعشرات الملايين من الوثائق التابعة للأرشيف الجزائري المنهوب من قبل باريس، والتي يقابلها 132 سنة من احتلال فرنسا للجزائر، مشيرًا إلى أنه يتعيّن أولًا استعادة كل الأرشيف الجزائري الخاص بالقرن التاسع الذي يمتد على 104 سنوات من التوسع، أي من يونيو/ حزيران 1830 إلى غاية مارس/ آذار 1934، والمتضمن تقارير عسكرية ونهبًا لمكتبات ونهب زمالة الأمير عبد القادر التي تحوي مخطوطات وغيرها من الدعائم الأرشيفية.
ولا تظهر تصريحات اليمين المتطرف أي استعداد للتجاوب مع مطالب الجزائر لمعالجة ملف الذاكرة الذي يظل في خطواته الأولى، فقد سبق وأن وصف رئيسُ قائمة التجمع الوطني، جوردان بارديلا، جبهةَ التحرير الوطني الجزائرية التي قادت ثورة الاستقلال ضد فرنسا بأنها “منظمة إرهابية ارتكبت هجمات ضد فرنسا”، ما يبعث بإشارات سلبية عن رفضه تقديم التوبة عن تلك الحقبة السوداء والعودة بملف الذاكرة إلى الوراء.
وترفض الجزائر هذا الخطاب، وتراه معرقلًا لأي تقدم في العلاقات بين البلدَين، فقد قال الرئيس تبون بمناسبة اليوم الوطني للذاكرة المصادف لـ 8 مايو/ أيار من كل عام: “ملف الذاكرة لا يتآكل بالتقادم أو التناسي بفعل مرور السنوات ولا يقبل التنازل والمساومة، وسيبقى في صميم انشغالاتنا حتى تتحقق معالجته معالجة موضوعية جريئة ومنصفة للحقيقة التاريخية”.
وأكد تبون استعداد الجزائر “للتوجه نحو المستقبل في أجواء الثقة” مع فرنسا المطالبة بالتحلي بـ”المصداقية والجدّية لاستكمال الإجراءات والمساعي المتعلقة بملف الذاكرة الدقيق والحساس، وما يمثله لدى الشعب الجزائري الفخور بنضاله الوطني الطويل وكفاحه المسلح المرير والوفي للشهداء ولرسالة نوفمبر الخالدة”.
ويستذكر الجزائريون في 8 مايو/ أيار من كل عام المجازر التي ارتكبتها فرنسا عام 1954، حين قتلت 45 ألف جزائري خرجوا للمطالبة بالاستقلال في عدة ولايات.
ولم يصدر أي تصريح رسمي جزائري بشأن فوز اليمين المتطرف الفرنسي في الانتخابات البرلمانية الأوروبية لحدّ الآن، بالنظر إلى أنها تنتظر ما ستسفر عنه التشريعات المسبقة المقررة نهاية هذا الشهر، إلا أن المؤكد أنه في حال ما تولى هذا التيار العنصري إدارة الحكومة الفرنسية، فإن العلاقات بين البلدَين التي عرفت في الأشهر الأخيرة انفراجًا طفيفًا ستعرف توترًا جديدًا قد يؤجّل زيارة الرئيس المنتظرة إلى باريس شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.