عام 1944، نشر عالم الاقتصاد والرياضيات جون فون نيومان كتابه “نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي”، والذي أحدث ضجة كبيرة آنذاك، على الأقل بين علماء الرياضيات، وما لبث لاحقًا وأنْ انتشر أبعد من تلك الحدود ليصبح أداةً قيمة لشرح السلوك البشريّ والتعاملات المشتركة بين الأفراد، فاستفاد منه علماء النفس والاجتماع والأحياء والسياسيون والاقتصاديون وغيرهم الكثير في مجال الأعمال التجارية والبحوث الإنسانية. إذن فيمكنك استخدام النظرية في كل شيء، بدءًا من لعبة الشطرنج مرورًا بالمزادات أو المساومة في الأسواق، أو حتى في صناعة الحروب، فكيف يمكنك استخدامها في تربية أطفالك؟
يمكن باختصار أنْ نصف نظرية الألعاب بأنها “علم التفكير الاستراتيجي”، وبكلمات أخرى فهي دراسة النماذج الرياضية المُستخدمة في أساليب التعاون والصراع بين صناع القرار العقلانيين الأذكياء.
بدايةً، يمكن باختصار أنْ نصف نظرية الألعاب بأنها “علم التفكير الاستراتيجي”، وبكلمات أخرى فهي دراسة النماذج الرياضية المُستخدمة في أساليب التعاون والصراع بين صناع القرار العقلانيين الأذكياء. وتعدّ لعبة الشطرنج واحدة من الأمثلة على الألعاب التي تخضع لقوانين “نظرية الألعاب”، إذ تتطلّب اثنين من الاستراتيجيين الذين يحاولون باستمرار استباق وتوقع التحركات المحتملة للطرف الآخر، لمنع وقوعها أو التغلب عليها.
وفي معظم الألعاب التي تدرسها هذه النظرية تكون هناك منافسة بين مجموعة من الأشخاص، يحاول كلّ شخصٍ فيها زيادة مكاسبه على حساب خصومه، وعندَ تكرار اللعبة لعدة مرات معينة، فإنّ اللاعبين يصلون لدرجة من التفاهم تجعلهم يتخذون نفس النوع من القرارات بالضبط، هذا على افتراض أنّ جميع اللاعبين عاقلون يلجأون لاستخدام الأساليب المنطقية والاستراتيجية بالتفكير واتخاذ القرارات.
يمكن لنظرية الألعاب أن تكون أداةً مفيدة للآباء والأمهات في تربيتهم لأطفالهم وتعليمهم أساليب التفكير المنطقي والنقاش والتفاوض وحلّ المشكلات والوصول لنقاط مشتركة في تعاملهم فيما بينهم
يمكن لنظرية الألعاب أيضًا أن تكون أداةً مفيدة للآباء والأمهات في أسلوب تربيتهم لأطفالهم وتعليمهم أساليب التفكير المنطقي والنقاش والتفاوض وحلّ المشكلات والوصول لنقاط مشتركة في تعاملهم فيما بينهم أو مع أخوتهم وأصدقائهم، بالإضافة للكثير من الجوانب الأخرى التي يمكن أنْ تؤثر على الذكاء العقلي والإدراكي والعاطفي والاجتماعي للطفل.
في سياق الحديث عن نظرية الألعاب، دائمًا ما يتم التطرّق لمعضلة السجين “Prisoners Dilemma” كمثال وأساس لاستراتيجيات النظرية ومبادئها. وتتجسد تلك المعضلة بالقصة الشهيرة التي ترتكز على أنّ الشرطة أمسكت بمجرمين اثنين؛ وفصلت بينهما في التحقيق، فإذا تمكنت الشرطة من إدانة كليهما فستحكم على كلٍّ منهما بالسجن 15 عامًا، لكن في حال لم يعترف أي من السجينين بالجرم فسوف يسجن كلٌّ منهما سنة واحدة فقط.
ونظرًا لأن المحقّق لا يملك أدلةً كافية على أي منهما لإثبات الجرم، فسيحاول دفع كلّ منهما للاعتراف على صديقه واعدًا من يعترف بتخفيف العقوبة لتصبح 5 سنوات فقط. ومن هنا ينتج لدينا 4 احتمالات مختلفة: إذا اعترف كلاهما على الآخر فسيسجن كلٌّ منهما 5 سنوات، إذا لم يعترف أحد فسيسجنان سنةً واحدة، وإذا اعترف أحدهما دون الآخر فسوف يطلق سراح الواشي ويسجن الثاني 15 عامًا.
هنا تنبع المعضلة؛ ففي ظلّ منع المتهمين من التواصل لا يمكن لأيٍّ منهما تخمين تصرف الآخر وتوقعه، إلا أن التصرف الأمثل يكمن في تعاونهما الذي يُفضي لعدم اعتراف أيّ منهما، لكنْ وبما أنّ السعي للربح هو رغبة فطرية عند الإنسان، فقد يفكّر كلٌّ منهما بالاعتراف آملًا بأنْ يصمت الطرف الآخر، فيتحرر هو.
إذن ففي معضلة السجينين يواجه السجينان فرصة التزام الصمت أو الاعتراف على الآخر، فكيف يمكن أنْ تستفيد من تلك المعضلة وتطبّقها في مجال تعاملك مع أبنائك وتربيتك لهم؟
لنفترض أنّ معضلةً مماثلة وقعت بين اثنيْن من أطفالك، وكانت الخيارات المتاحة بدايةً هي إما التزام الصمت أو الاعتراف على الآخر، كيف تتوقع تصرفهما وقتذاك؟ تصبح اللعبة أكثر تشويقًا مع الوقت؛ فقد يختار ابنك أن يعترف على شقيقه، أي تفضيل نفسه عليه واختيار ربحه مقابل خسارة الآخر، لكن إذا حاولت تنمية مراعاة الآخر فهذا سيؤدي إلى تعزيز التعاون بينمهما على الأرجح، وبالتالي سيكون سلوك أحدهما داعمًا للآخر.
تستخدم نظرية الألعاب استراتيجية “واحدة بواحدة” أو “tit for tat“، أيْ أنه إذا أبدى أحد أبنائك خطوةً نحو التعاون، فإنّ أخاه سيُبدي خطوة مقابلة لاحقًا أو في نفس الوقت
تُطلق نظرية الألعاب على تلك الاستراتيجية اسم “واحدة بواحدة” أو “tit for tat“، أيْ أنه إذا أبدى أحد أبنائك خطوةً نحو التعاون، فإنّ أخاه سيُبدي خطوة مقابلة لاحقًا أو في نفس الوقت. وفي حال قرر أحدهما السير بعيدًا عن التعاون والتركيز على نفسه وربحه، فسيكون على معرفةً أنّ كلّ ما يفعله الآن سيفعله شقيقه لاحقًا، أي أنّ التعاون سيؤدي للتعاون، والأنانية ستؤدي للأنانية أو التخلّي.
ولتقريب الفكرة أكثر وبعيدًا عن مثال السجن أو الجريمة، دعنا نفترض أنّك طلبت من طفليْك ترتيب غرفتهما، وحاول أنْ تتحكم بالموضوع من خلال مبدأ عقد صفقة ما. فإذا تمّ تنظيف الغرفة خلال نصف ساعة، فسيحصل كلّ واحدٍ منهما على ساعةٍ في مشاهدة التلفاز، وإذا لم يتمّ ذلك في الوقت المحدد، فستنخفض الساعة إلى النصف، وإذا لم يقوما بالعمل نهائيًا فكلاهما سيمنعان من التلفاز خلال اليوم بأكمله.
يمكن تطبيق نظرية الألعاب من خلال مبدأ المزادات لتسوية الخلافات أو النزاعات، بحيث يكون على الأطفال تقديم عرضٍ معين في سبيل حصولهم على منفعةٍ ما، والذي يقدّم العرض الأفضل سيكون أحقّ بتلك المنفعة
هنا سيكون أمام طفليك عدة خيارات؛ إما أنْ يعملا معًا ويتعاونا فينهيا ترتيب غرفتهما وبالتالي يحصلان على الجائزة المنتظرة، أو أنْ يتخلّ أحدهما عن الآخر وبالتالي تتعذّر إمكانية إكمال المهمة في الوقت المحدد، فتقلّ المدة المسموحة لهما بمشاهدة التلفاز، أو أنْ يكون كلاهما غير مباليين أساسًا فينحرمان من التلفاز كليًّا.
يمكن أيضًا تطبيق نظرية الألعاب من خلال مبدأ المزادات لتسوية الخلافات أو النزاعات، بحيث يكون على الأطفال تقديم عرضٍ معين في سبيل حصولهم على منفعةٍ ما، والذي يقدّم العرض الأفضل سيكون أحقّ بتلك المنفعة، تذكر عدد المرات التي اختلف فيها أطفالك على صنف طعام الغداء، أو على الفيلم الذي يرغبون بمشاهدته، أو على وجهة النزهة أو الرحلة، وسماع الاعتراض على عدم عدالة القرار أو الخيار الذي تمّ الاتفاق عليه، إذ يرى أحد الأطفال أنّ الآخر قد استفاد بينما هو لم يستفد شيئًا.
تستطيع في تلك السياقات أن تحفّز أطفالك على مبدأ العدل والأحقية بالاختيار من خلال العمل على “الدفع” مقابل الخيار الذي يرغبون بالحصول عليه. فقد يقوم أحدهم بتنظيف الغرفة كاملةً، أو قد يعرض آخر تنظيف الغرفة بالإضافة للحديقة، وهكذا على هذه المنوال.
تعتمد صفقات نظرية الألعاب على ترسيخ مبدأ الإنصاف والعدل، وغالبًا ما ستلجأ لتطبيقها أيضًا بينكَ من جهة وبين أطفالك من جهةً أخرى، وليس بينهم وحسب، فحاول دائمًا أنْ تجعل نفسك جزءًا من اللعبة بما يتناسب مع أعمار أطفالك والموقف الذي أنتم بصدده.
بالمحصلة، يمكن أن يتعلم الأطفال التعاون أو سبل اتخاذ القرارات الاستراتيجية وتقبل الخيارات مهما كانت، لكنّ الأمر يحتاج قبل كلّ شيء إلى الصبر، وأحيانًا الحزم في حرمانهم من المتع إذا لم يتعاونوا فيما بينهم، أو الميل لإجراء العقابات المعنوية لإعطائهم درسًا في التعاون والتفكير بعقلانية، فنظرية الألعاب تثبت ذلك.