تبقى للأعياد في عالمنا العربي طقوسها الخاصة، وعاداتها المتميزة، يتساوى في ذلك الغني والفقير، الصغير والكبير، المرأة والرجل، الكل يحاول أن يتسول الفرحة والبهجة ولو من رحم الشدة والألم، وأن يجعل من تلك المواقيت مناسبات لغسل الروح مما علق بها من معاناة العام كله، فمثل تلك الأوقات لا تتكرر كثيرًا، لذا كان التشبث بها فريضة روحية قبل أن تكون دينية.
ولللاجئين خصوصية مغايرة في هذا الأمر، فرغم دائرة المعاناة المغلقة، التي يهرولون بداخلها عامًا تلو الأخر، إلا أنهم لا يتركون مثل تلك المناسبات تذهب سدى، دون إدخال البهجة والسرور على أهليهم وأطفالهم، ممن لا ذنب لهم في أقدارهم المكتوبة وما يتجرعوه من مشقة الابتعاد عن الوطن والأهل والجذور.
وتمثل الحالة المصرية نموذجا استثنائيا في احتفال اللاجئين والمهاجرين والمقيمين فيها بصفة عامة بالعيد، فرغم الطقوس المتباينة والعادات المختلفة والهويات المتعددة، إلا أن الأجواء الاحتفالية تكاد تكون واحدة، إذ يتقاسم الجميع، مصريون وعرب، الفرحة والبهجة والابتسامة، في مناخ كرنفالي يبعث على الأمل واستشراف المستقبل وحب الحياة مهما كانت مرارتها.
وتشير التقديرات الأولية إلى وجود 9 ملايين مقيم فوق الأراضي المصرية (منهم 480 ألف لاجئ وطالب لجوء بحسب مفوضية شئون اللاجئين) من نحو 133 دولة يمثلون قرابة 8.7% من إجمالي حجم السكان البالغ عددهم نحو 106 ملايين نسمة، يشكل العرب منهم 80%، يتصدرهم السودانيون بنحو 4 ملايين (تقديرات تشير إلى تجاوزهم اليوم 5 مليون)، يليهم السوريون 1.5 مليون، واليمنيون والليبيون بنحو مليون شخص لكل من الجنسيتين.
جنسيات مختلفة وفرحة واحدة
رغم وجود جنسيات من أكثر من 133 دولة في مصر إلا أنه من الصعب التفرقة بين ماهو مصري وغير مصري، فالكل ينصهر في بوتقة واحدة، ولولا اختلاف الألسن والملامح ومن قبلها الأوراق الرسمية لكان التعرف على غير المصري مهمة شاقة لا ينجح كثيرون في إنجازها.
يقول عثمان الميرغني ( أربعيني سوداني يقيم في محافظة الجيزة) إنه منذ أن قدم إلى مصر في يناير/كانون الثاني الماضي ولم يستشعر يوما ما أنه في غربة، فحالة الانسجام والانصهار التي عليها السودانيون مع المجتمع المصري، بسبب الروابط الكثيرة المشتركة بين الشعبين، خففت عنه كثيرًا مرارة الابتعاد عن الوطن الأم.
ويضيف المواطن السوداني الذي يقيم مع عائلته في حي الهرم بالجيزة، في حديثه لـ “نون بوست” إن طقوس احتفالهم بالعيد في مصر لا تختلف كثيرًا عنها في السودان، لافتا أن السودانيين في المنطقة التي يسكن فيها يتجمعون لإحياء ذات العادات والتقاليد السودانية، بل ويشركون المصريين معهم، حتى وصل الأمر إلى إغراء الكثير من العائلات المصرية بتقليدهم في عاداتهم وتقاليدهم الخاصة في الأعياد.
أما عبد القادر الأسود (خمسيني سوري مقيم في مدينة 6 أكتوبر) فيقول إنه وبعد قرابة 8 سنوات قضاها في مصر، يستطيع أن يُجزم أنه لا فرق بين المصري والسوري في العادات والتقاليد، وفي الطقوس والاحتفالات، في الأعياد الرسمية وغير الرسمية، لافتا أن المصريين من أكثر شعوب العالم احتضانا للسوريين وللعرب بصفة عامة.
ويرى الأسود أن مصر من أكثر البلدان تشابها مع سوريا، في التاريخ والأصالة والحضارة، هذا بخلاف التناغم الكبير في مزاج الشعبين وعاداتهم، وانعكس هذا الأمر على عادات الكثير من المصريين التي تأثرت كثيرًا بالعادات السورية والعكس صحيح، وهو ما يمكن ملاحظته في المناسبات والمناطق العامة التي لا يمكن أن تفرق فيها بين المصري والسوري إلا في اللهجة، منوها أن السوري الذي يجيد اللهجة المصرية من الصعب التعرف على جنسيته.
ويضيف عبد القادر: في العيد لا أدري من تأثر بمن؟ هل تأثرنا بالمصريين فصرنا نخرج إلى المولات ونذهب للشواطئ وأماكن الاحتفالات، أم تأثر بنا المصريون فصاروا يجتمعون ويتشاركون الطيب من الطعام والحلوى السورية ويغنون الاهازيج السورية؟
وهو ما يؤكده محمود طاهري (ثلاثيني يمني مقيم في منطقة الدقي بالجيزة) لافتا أن طقوس العيد في مصر لها خصوصية مميزة، ورغم ذلك فهي لا تختلف كثيرًا عنها في اليمن، منوها في حديثه لـ “نون بوست” أن الشارع المصري قادر على جمع عشرات الجنسيات في بوتقة واحدة دون إمكانية التفرقة بينهما، ولعل أجواء العيد تبرهن على ذلك، على حد قوله.
ويشير الطاهري إلى أنه وعلى مدار أكثر من عشرة سنوات يتمسك اليمنيون في مصر بإحياء عادات وطقوس العيد، ويحاولون قدر الإمكان التغلب على مشاعر الغربة والابتعاد عن الوطن بإحياء تلك السنن والتقاليد التي تُبقي روح اليمن بداخل أبنائها وإن كانوا خارج الديار.
عيد وطقوس شتى
في الوقت الذي تشتعل في الساحة العربية بالأزمات تلو الأخرى، تلك التي أودت بحياة عشرات الألاف في فلسطين وسوريا والعراق ولبنان والسودان واليمن وليبيا والصومال وجيبوتي وغيرها، يحرص المقيمون في مصر، بشتى أنواعهم، على الالتزام بطقوس بلدانهم في الأعياد، تلك الطقوس التي تشعرهم بأنهم في أوطانهم، وبين أهليهم، في محاولة لكسر الحواجز الجغرافية والزمنية والحدثية التي تحول دون الاحتفال بمثل تلك المناسبات في بلادهم.
يقول محمد أبو خليل (صحفي فلسطيني): لا يختلف العيد في مصر عنه في غزة فيما يتعلق بالطقوس والعادات، ورغم الظروف الاستثنائية التي يمر بها أهلنا في القطاع من قتل وتدمير، إلا أن المتواجدين في مصر يرون في إحياء تلك الطقوس مقاومة من نوع مختلف، حيث تجتمع العوائل ويتبادلون التهاني والتبريكات.
ويضيف الصحفي الفلسطيني في حديثه لـ “نون بوست” أن الفلسطينيات في مصر لا يدخرن جهدا في نقل الطقس الفلسطيني إلى الأراضي المصرية، حيث عمل الحلويات الفلسطينية التقليدية كالمعمول، وحلي سنونك، واليحميك، وسحلب كينور، هذا بخلاف البرازق والنقوع، والقضاعة (الحمص المطحون والممزوج بالملح).
الوضع ذاته لدى السودانيين، فبعد أداء صلاة العيد في التجمعات العامة يتم تبادل الزيارات العائلية والأسرية والالتقاء عن كبير السودانيين مكانا أو سنًا في المنطقة التي يقيمون فيها، حيث يتناولون الغذاء، ثم يتبادلون الأنواع المختلفة من الأطعمة السودانية، ومع أذان المغرب يكون الخروج للمتنزهات حيث توفير المناخ المبهج للأطفال لقضاء العيد في الاحتفالات والأهازيج التي تملآ المكان.
كما يحرص اليمنيون على تبادل الزيارات العائلية عقب صلاة العيد، وتقديم الأموال (العيدية) للأطفال لشراء ما يحلو لهم من الطعام والحلوى واللعب، ثم تبادل المأكولات اليمينة الشهرية التي يحرصون عليها في تلك المناسبات، ومن أبرزها “السَّلتة” (عبارة عن الحلبة المدقوقة وقطع البطاطا المطبوخة مع قليل من اللحم والأرز والبيض)، وهناك كذلك “بنت الصّحن أو السّباية” (رقائق من الفطير متماسكة مع بعضها البعض، ومخلوطة بالبيض والدهن البلدي والعسل الطبيعي).
أما السوريون فيحرصون على إدخال البهجة والسرور على أهليهم وأطفالهم أكثر من غيرهم من الجاليات العربية الأخرى، حيث تميل بعض الأسر للسفر والمتنزهات الشاطئية، لقضاء عطلة العيد كاملة، كما يتمسكون بعاداتهم الغذائية في العيد حيث الأكلات الشهيرة مثل “المنسف الحلبي” و”الشاكرية” و”الشيشبرك”.
وتلجأ بعض الأسر السورية إلى المشاركة في إعداد طعام العيد، على شاكلة “الموائد المشتركة” حيث يتم جمع مبلغ من المال من بعض الأسر لإعداد أنواع محددة من الطعام المتفق عليها ويتم تناولها في شكل عائلي، يعيد الأجواء إلى حلب ودمشق وغيرها من مدن سوريا الرائعة.
قتل الموت بالحياة
تؤكد نواميس الكون أن الحياة محطات ومراحل، ولكل محطة خصوصيتها ومتطلباتها، التي يجب أن يتعامل معها الإنسان بإمعان ومرونة تؤهله للاستمرارية والصمود، وإلا فالإبحار ضد تلك النواميس انتحار، ومع الوضع في الاعتبار معاناة اللاجئين والمهاجرين بعيدًا عن الوطن، فإن التكيف مع أي بيئة كانت هي السبيل الوحيد للتحدي والبقاء، وهو ما جسده اللاجئون في مصر ، شكلا ومضمونا.
ونجح المهاجرون والنازحون إلى مصر في الجمع بين تلك المعادلة الصعبة، استشعار الألم لما يحدث في أوطانهم والتكيف مع الحياة الجديدة، اندماج وخصوصية، انصهار وتمايز، تطلع للمستقبل مع التشبث بالحاضر واستلهام دروس الماضي، دون تعارض أو تناقض، فلكل مقام مقال، وهذا هو سر الصمود الحقيقي.
مثل تلك الأعياد والمناسبات، وطنية كانت أو دينية، هي الترمومتر الحقيقي لبقاء شعوبنا على قيد الحياة، هذا الترمومتر الذي يحاول الأعداء والخصوم وأده لإلحاق الهزيمة النفسية بالعقلية العربية وقتل أي بارقة أمل في المستقبل، وعليه فإن التشبث بالأمل في إحياء طقوس وعادات الأعياد في حقيقته نوع من المقاومة، مقاومة سلاح اليأس والإحباط، هذا السلاح الذي يتفنن أعداء الأمة في توظيفه لخدمة أجنداته الاستعمارية.