ترجمة وتحرير: نون بوست
خدمت بعض وكالات الاستخبارات الأكثر كفاءة في التاريخ مصالح أبشع الأنظمة الدكتاتورية. لذلك، يقر العديد من المهنيين في أجهزة المخابرات الأمريكية أن الاستخبارات السوفيتية، وجهاز شتازي في ألمانيا الشرقية (وزارة أمن الدولة)، ووكالة أمن الدولة الكوبية، كانوا يتلاعبون بنظرائهم الغربيين، على الرغم من أن الأنظمة التي خدموها قد انهارت في نهاية المطاف.
في الواقع، لم يكن ذلك من قبيل الصدفة، حيث تشترك أنظمة الحزب الواحد في مجموعة معينة من الأهداف، التي لا تخضع البتة للمساءلة على المستوى الديمقراطي، ما يفسح المجال لعملائهم السريين بإنجاز المهمات الموكلة إليهم سواء من خلال اتباع أساليب الابتزاز، أو التسلل، أو الاغتيال وتنفيذها مهما كلفهم الأمر.
على النقيض، تتعارض هذه الأساليب مع الأهداف السياسية للأنظمة الديمقراطية التي تتميز بالتعددية الحزبية. ومن المحتمل أن تلجأ الحكومة الأمريكية الحالية لمثل هذه الأساليب، لكن قد تمنعها فترة حكمها القصيرة من تحقيق ذلك. وبشكل أساسي، تعتمد الحكومة على مفهوم توافق الآراء السياسي الطوعي الذي يتسم بقوة ونفوذ يخول له دعم المقايضات الأخلاقية الحتمية.
وفقا للموساد، تعد “إسرائيل” كيانا ديمقراطيا يعاني من الكثير من الانقسامات، وفي الوقت ذاته يوجد توافق آراء بين جميع الإسرائيليين حول ضرورة تأمين “دولة يهودية” منكوبة. ويقودنا هذا التعريف إلى الولايات المتحدة، حيث تثير الهجمات الحالية التي يشنها الرئيس ترامب والحزب الجمهوري على مكتب التحقيقات الفيدرالي مسألة ما إذا كان من الممكن الحفاظ على مؤسسة استخباراتية فعالة ومشروعة، في حين أن القادة المنتخبين الذين من المفترض أن يسيطروا عليها ينخرطون في صراع حزبي مفتوح معها يخضع لمبدأ “الفائز يحصل على كل شيء والخاسر يفقد كل شيء”.
شن ترامب هجوما بشكل مقصود على مفهوم الإجماع بين الحزبين، فهو يريد إعادة صياغته بعيدا عن بوتقة الوحدة الوطنية الصحية، بل بصفته صفقة فاسدة في جوهرها تغذي مفهوم “الدولة العميقة”
في الحقيقة، لعب توافق الآراء بين الحزبين الرئيسين دورا حاسما في العملية السياسية ولكنه لم يكن يحظى بتقدير كاف في تاريخ المخابرات الأمريكية. ففي القرن التاسع عشر، لم تسع الولايات المتحدة إلى تطوير وكالة مخابرات وطنية حقيقية في حين أن الكثير من الدول الأوروبية، مثل فرنسا وروسيا وبروسيا، أحرزت تقدما في هذه المسألة. ويرجع ذلك جزئيا إلى المعايير الدستورية للحكومة الصغيرة على هذا الجانب من المحيط الأطلسي؛ لكن كان انعدام الثقة بين الفصائل السياسية الأمريكية عاملا آخر معرقلا على هذا الصعيد.
خلال القرن العشرين، كان يمكن للجمهوريين والديمقراطيين تحديد المصالح الوطنية المشتركة والإقرار بالحاجة إلى وكالات سرية دائمة لحمايتهم، عندما فتحت المعارك القطاعية والحزبية الطريق أمام تحقيق مسؤوليات دولية جديدة وانسجام محلي نسبي. ولكن كاد هذا الإجماع أن ينهار تقريبا وسط الكشف عن الانتهاكات الكبيرة التي ارتكبها مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية خلال الستينيات والسبعينيات.
وتجدر الإشارة إلى أن الإصلاحات الحزبية ساهمت في إنقاذ رقابة الكونغرس المعززة وإجراء مراجعة قضائية محدودة لعمليات التجسس التي تقوم بها محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية. وفي الوقت الراهن، يشن ترامب هجوما بشكل مقصود على مفهوم الإجماع بين الحزبين، فهو يريد إعادة صياغته بعيدا عن بوتقة الوحدة الوطنية الصحية، بل بصفته صفقة فاسدة في جوهرها تغذي مفهوم “الدولة العميقة”.
من هذا المنطلق، قد يسعى كل من ترامب ورئيس لجنة الاستخبارات في الكونغرس، ديفين نونيس، إلى تحقيق ذلك الهدف بشكل انتهازي، من خلال سن قانون يحاكي قانون رقابة الكونغرس الذي يخدم مصالحهم السياسية الأنانية قصيرة المدى. وحتى اللحظة الراهنة، لا يزال كلاهما يستغلان المفاهيم العميقة للفكر الأمريكي، الذي يشتبه بوجود حكومة سرية تعود جذورها إلى مرحلة تأسيسها.
استغل الرئيس الحالي حالة عدم الاستقرار والارتباك لتحييد التهديدات المحدقة بسلطته، لعل أبرزها التحقيق الذي يشرف عليه روبرت مولر
هذا هو الاتجاه نفسه الذي استغله إدوارد سنودن ومؤيدوه في معسكر اليسار في التسريبات المتعلقة بوكالة الأمن القومي، والأمر سيان بالنسبة للديمقراطيين في لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، الذين قدموا تقريرا يدين جرائم التعذيب التي ارتكبتها وكالة المخابرات المركزية خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن.
حتى المصابون بجنون العظمة لديهم أعداء حقيقيون. ولنفترض أن وزارة العدل، التي تعمل تحت رئاسة رئيس من معسكر الديمقراطيين، استخدمت بالفعل أبحاث المعارضة الممولة من قبل الديمقراطيين دون التحقق من صحتها وتحري دقتها بشكل كاف للحصول على مذكرة سرية من محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية للتجسس على مستشار سابق للحزب الجمهوري. فهل سيكون ذلك مناسبا؟
بإيجاز، كان الإجماع الوطني الأمريكي فيما يخص أجهزة المخابرات وعدة مسائل أخرى، بالفعل في مأزق كبير قبل وقت طويل من ظهور ترامب على الساحة السياسة الأمريكية. وإذا كان المركز السياسي في الولايات المتحدة لا يزال قويا، فلما أنتخِب ترامب على رأس هرم السلطة الأمريكية.
من خلال استخدام غريزته أكثر من أي شيء آخر، استغل الرئيس الحالي حالة عدم الاستقرار والارتباك لتحييد التهديدات المحدقة بسلطته، لعل أبرزها التحقيق الذي يشرف عليه روبرت مولر. وفي وقت لاحق، يمكن أن يكون نجاح ترامب في استقطاب المجتمع الاستخباراتي بمثابة إنجاز عظيم بالنسبة له. ومن غير المجدي الاعتماد على مكتب التحقيقات الفيدرالي في حد ذاته، الذي وصفته صحيفة نيويورك تايمز، بشكل مثير للغرابة، بأحد “ركائز المجتمع”، لفرض رقابة على ترامب، على الرغم من أن العديد من الأشخاص الذين من المفترض أنهم يدركون هذا الأمر، يؤمنون بذلك.
إننا نشهد كابوسا ديمقراطيا يتجسد في المنافسة الحزبية على كسب دعم أجهزة المخابرات السرية وشبه السرية ووكالات إنفاذ القانون
عندما حذر مسؤول كبير سابق في كل من وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، فيليب مود، على شاشة التلفزيون، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي غاضب من ترامب ويستعد لتحقيق “فوز” ضد الرئيس المنتخب، ساهم ذلك بدوره في تغذية سرد ترامب حول “الدولة العميقة”.
حيال هذا الشأن، حذر الباحث في مجال القانون، مايكل غلينون، خلال مقال نشره في مجلة هاربر سنة 2017، من أن “أولئك الذين يتصدون للا ليبرالية ترامب من خلال لا ليبرالية البيروقراطيين الذين لا يخضعون لأي قيود، من الأفضل أن يتوقعوا النتائج غير المسبوقة التي سيحددها نجاحهم”.
على ضوء المعطيات المذكورة آنفا، يبدو أننا نشهد كابوسا ديمقراطيا يتجسد في المنافسة الحزبية على كسب دعم أجهزة المخابرات السرية وشبه السرية ووكالات إنفاذ القانون. وفي سياق متصل، أشار غلينون إلى أنه لن يكون من الحكمة أن نراهن ضد ترامب نظرا لأنه يميل إلى استخدام أساليب الاستغناء والعقاب من أجل معالجة مشاكله. وفي الحقيقة، يعرف ترامب ما يريده على خلاف جميع الآخرين الذين خدعوا فيما بقي من مفهوم الإجماع السياسي الأمريكي المتهاوي.
المصدر: واشنطن بوست