ترجمة وتحرير: نون بوست
إن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 جعلت التشويه المستمر للمجتمع الفلسطيني واضحًا بشكل مؤلم أمام الأجيال الجديدة
“التشويه” يعني قطع جزء من الجسد عن بقية أجزاء الجسد بقسوة، وفصل جزء عن الكل، ولكنه يعني أيضًا ترك علامة العنف على كل الجسد، فتستدعي كل نظرة إلى الجسد المشوه ذكرى العنف وتثير الرعب.
يؤثر التشويه أيضًا على إدراك الجسد أو الغرض منه؛ فإذا تم تقطيع كتاب ما باستخدام المقص، فإنه يظل كتابًا، ولكن لا يمكن قراءته بنفس الطريقة التي كان عليها قبل التشويه، وربما “يكون القصد تحديدًا من تشويه الكتاب هو ألا يتمكن أحد من قراءته”.
تاريخ التشويه إذًا هو تاريخ المعاناة وتجربة العنف التي تهدف إلى تغيير وجود الشيء أو الموضوع.
إن “إسرائيل” هي دولة قومية عرقية، أو ما أسميه “الدولة السرطانية”، والتي تمنح امتيازات للمواطنين اليهود في الدولة على أساس الجذور العرقية الوهمية، وتمنحهم سيطرة سرطانية استثنائية على الفلسطينيين الأصليين.
ومثل هذه الدولة تضطهد بعنصرية جماعةً تابعة من خلال الإخفاء والوصم المكاني وما وصفه المخرج الألماني هيتو شتايرل بـ”تصميم القتل”، وهو مزيج واسع ومخطط له من القوة العسكرية والتكنولوجية وتحريف القانون وتهجير السكان.
لقد كشف العدوان العسكري على غزة وسكانها منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن إستراتيجية أخرى لطالما اتبعها الصهاينة؛ وهي تشويه فلسطين، والتي يعود تاريخها إلى أوائل القرن العشرين.
أنواع التشويه
يحمل “التشويه” دلالات متعددة في السياق الفلسطيني، فقد كان التشويه خرائطيًا؛ حيث تم تمزيق الأرض في سنة 1948 وتقسيمها إلى أراضٍ إسرائيلية، فيما كانت الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية تحت الإدارة الخارجية.
وكان التشويه تاريخيًا أيضًا، إذ كانت الضفة الغربية وغزة تعانيان من انفصام في التماثلات/التشابهات بعد عام 1967، فقد تطوّر تاريخهما من خلال نقاط التفتيش والحصار على التوالي، فجعل ذلك الفلسطينيين يضطرون للعيش حياة منفصلة وغير مترابطة تقريبًا.
وفي الوقت نفسه، حافظت الدولة القومية العرقية على سيطرتها على الفلسطينيين بهدف الهيمنة العرقية فقط، بغض النظر عن الأرض.
واستمر التشويه مع ضم “إسرائيل” للأراضي الثلاث واحتلالها في سنة 1967. وكان التشويه خطابيًا؛ حيث ادعت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير في سنة 1969 أنه “لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيون”، وكان الهدف من ذلك هو نزع الشرعية عن التاريخ والوجود الفلسطيني على الأرض، وحتى يتمكن الصندوق القومي اليهودي من الاستحواذ على منازل 700 ألف فلسطيني تم تهجيرهم وأُطلق عليهم “الغائبين الحاضرين“.
وكان التشويه طوبوغرافيًا؛ فقد اقتلعت الدولة القومية العرقية أشجار الزيتون المحلية لزراعة أشجار الصنوبر التي تحاكي المناظر الطبيعية الأوروبية؛ واستُبدلت أسماء المدن العربية بأسماء عبرية؛ وقطعت الأراضي الزراعية الفلسطينية من خلال جدار فصل ملتوِ في الضفة الغربية؛ وفصلت في استخدام الطرق بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
صدمة التشويه
يلاحظ الباحث في الدراسات العرقية جاسبير ك.بوار أن “إسرائيل” تمتلك تقليديًا “الحق في تشويه” الفلسطينيين، بحجة أن الدولة العرقية القومية تمتلك سلطات تتجاوز ما يصوره الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو على أنه السلطة “السياسية الحيوية” للدولة، أو بعبارة أخرى، تحديد من يعيش ومن يموت. فالتشويه يُمكّن الدولة القومية العرقية من التدمير الجزئي والإعاقة والاحتفاظ بسلطة علاج ذلك كله.
في قصة “ناميها يا د. شوت”، وهي قصة قصيرة في مجموعة الخيال العلمي البائس “فلسطين +100” للكاتبة سلمى الدباغ الصادرة عام 2019 عن دار “بسمة غالياني”، تتخيل الكاتبة غزة عام 2034. الراوية في القصة اسمها ليلى وطن، وهي من سكان غزة، وتعترف الراوية بالتجسس على عالمة ملهمة تدعى منى كمال، التي ابتكرت أطرافًا مطبوعة ثلاثية الأبعاد للأشخاص ذوي الإعاقة وبنت جيشًا آليًا.
توافق الراوية على التجسس على منى كمال من أجل الحصول على وظيفة في القطاع العلمي، ما يعني أن غزة في المستقبل لا تزال تعاني من الدمار الاقتصادي، من خلال تقنيات السرد، يتم تحويل آثار التشويه إلى تجارب علمية تمكينية لكنها تحمل صدمة الخسارة العميقة في الوقت نفسه.
وتصف رواية أكرم مسلّم التجريبية “رقصة العقرب الأزرق العميق” تشويه الحياة الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث يصف الراوي الشعور الذي يطارده بعد فقدان والده لأحد أطرافه بعد أن داس على مسمار في سنة 1967، إلى جانب فقدان عائلته لمنزلها وأرضها، فيما يشعر والده بحكة في الطرف الوهمي رغم بتر ساقه.
ولكن في حين أن هناك تفسيرًا طبيًا وعصبيًا للشعور بالألم في الطرف الذي لم يعد موجودًا، كيف يمكننا توصيف المعاناة التي تنشأ عن فقدان البيت وتشويه الوطن؟
“الإبادة الكاملة”
تلاحظ ريتا صقر، الباحثة في آداب ما بعد الاستعمار والآداب العالمية، أن القطع الجسدي أجبر كتّابًا مثل عاطف أبو سيف، الذي كتب “الزنانة تأكل معي: يوميات غزة“، إلى ابتكار شكل سردي جديد يجمع بين الشهادة ومذكرات الحرب النثرية الشعرية والدراسة الاجتماعية السياسية.
وأجبر التشويه أبو سيف على ابتكار ما أسميه “الكناية المعكوسة”، فعلى عكس الكناية التي يحال فيها الجزء إلى الكل، يتفكك هنا الكل ليعطي معنى للأجزاء، فالمباني المتفجرة مرادفة للأجساد الفلسطينية، وتستخدم السرديات للاختراع الأدبي عندما يكون الواقع أفظع من أن يتحمل وطأة الصدمة.
إن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 جعلت التشويه المستمر للمجتمع الفلسطيني واضحًا بشكل مؤلم للأجيال الجديدة من الشباب والطلاب والعمال في العالم.
وفي رد غير متناسب على هجوم حماس في 7 7 تشرين الأول/أكتوبر، بدأت “إسرائيل” في تشويه وتقطيع أوصال غزة ومواطنيها، حيث إن وضع الفلسطينيين الحالي أسوأ عدديًا وأخلاقيًا من نكبة سنة 1948.
فقد هُجّر أكثر من 1.2 مليون فلسطيني عدة مرات، وقُتل أكثر من 36,000 فلسطيني، منهم 15,000 طفل، ولا يشمل هذا العدد الآلاف الذين يرقدون تحت أنقاض غزة، وأصيب أكثر من 80,000 فلسطيني بجروح، من بينهم أكثر من 12,000 طفل.
وعلى الرغم من اتهامها بارتكاب جرائم حرب من قبل محكمة العدل الدولية ومطالبتها بوقف إطلاق النار، إلا أن الدولة القومية العرقية تعمل وفق أجندة تهدف إلى التشويه: الإبادة الكاملة.
لقد استهدف التشويه البنية التحتية عمدًا، وبدأ بقصف شمال غزة، مما يعني ضمنًا أنه سيكون هناك أرض “حرة” يمكن للصهاينة العيش عليها وحتى ممارسة ألعاب مثل المونوبولي ليتخيلوا بناء إمبراطوريتهم.
وتم قصف مستشفى الشفاء وأطبائه وطواقمه الطبية ومرضاه، مما يضمن عدم وجود وسائل تعافي للفلسطينيين وعدم إمكانية استخدام المبنى المدمر هيكليًا كمأوى.
واستهدف التشويه أيضًا قواعد المعرفة والأرشيفات؛ حيث تم قصف المدارس والجامعات والمتاحف وتعطيل إنتاج المعرفة من خلال حرق الأرشيفات والكتب، كما أن التشويه إستراتيجي أيضًا؛ حيث يتم استخدام أنواع مختلفة من المتفجرات لقتل الفلسطينيين الجائعين الذين يتم استدراجهم بطائرات مسيرة تبث أصوات النساء والأطفال في حالة استغاثة.
وقد كان الإذلال مقدمة واضحة للتشويه عندما عُثر على أكثر من 400 فلسطيني في مقابر جماعية وهم مقيدون بأربطة، وتظهر على أجسادهم آثار التعذيب والإعدام.
وقد أُجبر الفلسطينيون على الفرار أو البقاء في بلدة رفح الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة؛ حيث تسببت القنابل الإسرائيلية في إشعال النيران في الخيام البلاستيكية في 26 أيار/مايو، وشارك الشهود والناجون مقاطع فيديو لأطفال مشوهين وآبائهم المحترقين.
وبينما يشعر العالم بالرعب، لا يسعنا إلا أن نتساءل: ما الذي سيتطلبه إنهاء هذا التشويه لفلسطين والفلسطينيين؟
المصدر: ميدل إيست آي