يقف محمد الخالدي، إلى جانب ممرضتين، عاجزًا أمام صرخات جارته المتألمة بسبب تعسّر ولادتها، يفرك كفَّيه ويدور حول نفسه متوقعًا الأسوأ في هذا المشهد، إذ إن حالتها المعقدة تحتاج تدخلًا طبيًا من مختصين.
خياران لإنقاذ الجارة وجنينها، إما المضي 15 كليومترًا إلى حاجز جليغم التابع لقوات النظام بريف حمص الشرقي في البادية السورية، وإما سلوك 150 كيلومترًا في طريق صحراوي يؤدي إلى أقرب نقطة طبية في مدينة تدمر الخاضعة لحكومة النظام أيضًا بعد دفع مبلغ مالي كبير لمهربي البشر، خياران يفصلان احتمالية النجاة عن الموت والمصير المجهول، فكلا الممرين يعجّان بالميليشيات الطائفية وحواجز النظام.
يشيح الخالدي اللثام عن واقع مخيم الركبان الذي أُنشئ عام 2014، بعدد نازحين وصل إلى أكثر من 100 ألف نازح قبل أن يتبقّى منه 8 آلاف و500 مدني منعزلين عن العالم ضمن نقطة الـ 55 الصحراوية القاحلة أقصى الجنوب السوري، عند مثلث الحدود مع العراق والأردن.
خلال حديثه لـ”نون بوست”، يصف الخالدي الذي يترأّس المجلس المحلي هناك حال المخيم الذي ازدادت أوضاعه تدهورًا منذ أبريل/ نيسان الفائت، وذلك بعد إغلاق قوات النظام والميليشيات الإيرانية طرق التهريب التي كانت تمرّ عبرها بعض المواد الغذائية والاحتياجات الأساسية بأسعار مرتفعة، نتيجة دفع التجار المتعاملين مع الحواجز المحاصرة للمخيم رشاوى مرتفعة.
موضحًا: “لدي 14 طفلًا، أين أذهب بهم؟ قوتهم وجبة واحدة فقط من الحشائش والخضروات كالنعناع وما يصلح للأكل، إن لم يُفتح الطريق نحو برّ الأمان، فالمصير هو الموت جوعًا ومرضًا أو قتلًا على أيدي مخابرات النظام وميليشياته حتمًا، ككثير من النازحين الذين ضاقت بهم السبل واختاروا العودة إلى مناطقه قبل أن تختفي أخبارهم”.
هكذا يفكر قاطنو مخيم الركبان، ولسان حالهم “نموت ليعيش أولادنا ويتخلصوا من المخيم المحاصر منذ 8 سنوات”، فالشهران الفائتان كانا الأقسى، إذ اشتد الحصار المفروض عليهم من قوات النظام والميليشيات الموالية لها بشكل كبير، ما جعل أبسط مقومات الحياة من مياه وطعام ودواء حلمًا، فالمحال التجارية فارغة وما بقي فيها من بضائع ومواد ارتفع سعرها بما يفوق طاقة النازحين.
الكارثة التي تحيط بالمخيم دفعت الائتلاف الوطني المعارض إلى إدانة تجاهل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للمناشدات العاجلة لإنقاذ النازحين في المخيم، لا سيما مع فرض نظام الأسد حصارًا مطبقًا على المخيم، ما أدى إلى التدهور الحاد في الوضع المعيشي والإنساني لنحو 8 آلاف نازح موجود هناك.
فقد طالب الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية والتحالف الدولي الموجود في المنطقة، بالعمل على إيجاد آلية عاجلة طويلة الأمد لتوفير مستلزمات الحياة الأساسية والاستجابة لنداءات الاستغاثة، وتأمين الغذاء والدواء والماء بشكل دائم، وعدم السماح لنظام الأسد بمحاصرتهم وتعزيز مأساتهم الإنسانية.
ضيعة العمر
“نصبنا خيمتنا إلى جانب خيام النازحين الفارّين من مناطق ريف حمص الشرقي وتدمر ودير الزور وريف دمشق، على أمل أن نجد طريقًا باتجاه الأردن، لكن الأيام والسنوات مرت ضمن هذه البقعة الجحيمية لتبتلع أجمل سنوات عمرنا، ضاع عمري وزهرة شبابي في هذا المخيم”، يشير الناشط الصحفي محمد الفضيل.
غادر الفضيل مدينته تدمر برفقة أفراد أسرته عام 2017 هربًا من قصف النظام والطيران الروسي، واستقر في الحي التدمري بمخيم الركبان، المخيم الذي يضمّ 40% من سكان تدمر وباديتها، وهو المكان الوحيد الذي كان مفتوحًا آنذاك أمام الأسرة الباحثة عن ملجأ جديد.
النظام والروس والإيرانيين يضغطون من جهة لإنهاء ملف الركبان والمضي قدمًا في اتفاقيات المصالحة والتسويات التي تضع القاطنين تحت رحمة الأجهزة الأمنية
منذ قدومنا إلى هنا والنظام يمارس العقاب الجماعي علينا، إذا أردت التنفس فعليك بطريق حاجز مثلث البصيري الذي يوجد فيه النظام والروس وميليشيات إيرانية، لكن قد تكون تلك أنفاسك الأخيرة، يقول الفضيل لـ”نون بوست” ساخرًا ممّا وصلت به الحال ضمن المخيم.
من المستحيل أن يفكر الفضيل بالعودة إلى مناطق سيطرة النظام، بسبب الانتهاكات التي تقوم بها أجهزة الأمن السورية بحق العائدين من الخيم إلى مناطق سيطرتهم، فحسب الفضيل هو متخلف عن الخدمة العسكرية، ومن جهة أخرى وثّق العشرات من حالات الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي بحق العائدين من المخيم، وهناك حالات تم تعذيبها حتى الموت.
وضع طبّي مأساوي
خلال تواصلنا مع الناشط الفضيل عبر تطبيق واتساب، اختنق بكلماته وهو يصف مشهدًا جرى أمامه، يقول الفضيل: “أكثر ما قهرني في المخيم هو وفاة طفل بلغ من العمر عدة ساعات فقط بعد ولادته، بسبب حالته الصحية الحرجة للغاية وحاجته إلى حاضنة أطفال. لا يمكن أن تنظر إلى الأسى الذي يعتصر قلب أمه”.
أما الحالة الأخرى التي يقف الإنسان أمامها حائرًا -وفق تعبير الفضيل- هي حالة موت الأطفال البطيئة، فالأمراض باتت تنتشر في المخيم وبأعداد كبيرة جدًّا، كالتهاب الكبد وضيق التنفس والإسهالات الشديدة واليرقان، وهو ما دفع إلى تقاسم دواء السيتامول بين 10 أطفال هذا إن وُجد.
مع غياب الدواء والأطباء والمراكز الطبية في المخيم، باستثناء نقطة طبية اقتصرت الخدمات فيها على الإسعافات الأولية فقط، سجّل المخيم انتشار حالات إصابة أكثر من 500 طفل باليرقان وأكثر من 100 مسن، في ظل عجز كامل عن معالجتهم ولجوء الأهالي للعلاج بالطرق البدائية كالعلاج بالأعشاب واستخلاص سائل من خلطة خضروات، وتقطيره في عين وأنف المريض لمدة 3 أيام.
بدوره، أشار موقع “حصار” المعنيّ بأخبار المخيم إلى وفاة 5 أطفال رضع خلال الأشهر الثلاثة الماضية بسبب نقص التغذية وغياب الرعاية الصحية، كما أن فقدان حليب الأطفال وسوء التغذية الذي تعاني منه معظم السيدات في المخيم، أجبرهن على إيجاد بدائل لرضاعة أطفالهن، عبر اللجوء إلى مادة النشاء المخلوطة بالماء، أو عبر تخفيف حليب البقر بالماء حال توفّره.
اعتصام مفتوح
مؤخرًا وبعد طول انتظار، قدّم التحالف الدولي وعودًا لسكان مخيم الركبان بإطلاق خطة مستعجلة لإنقاذ سكان المخيم دون الكشف عن تفاصيل تلك الخطة، جاء ذلك بعد عدة مظاهرات واعتصام مفتوح نفّذه قاطنو المخيم عند الساتر الترابي الذي يفصل بين الأردن وسوريا.
إذ اختصروا مطالبهم بضمّ المخيم إلى المخيمات التي ترعاها الأمم المتحدة، واعتباره منطقة منكوبة إنسانيًا، أو نقل المخيم إلى داخل الأراضي الأردنية أو فتح ممر آمن للعبور إلى مناطق المعارضة السورية شمال سوريا أو مناطق الإدارة الذاتية الكردية شرق الفرات، والتي أعلنت مؤخرًا استعدادها استقبال النازحين برعاية التحالف الدولي والأمم المتحدة.
بالمقابل، فإن الجانب الأردني الملاصق تمامًا للمخيم يرفض إدخال مساعدات إليه أو استقبال المرضى ذوي الحالات المرضية المزمنة منذ منتصف عام 2016، بعد أن أعلن حدوده مع سوريا والعراق منطقة عسكرية نتيجة تفجير “داعش” سيارة ملغّمة طالت حرس الحدود الأردني، الأمر الذي حدَّ من قدرة المنظمات الإنسانية على العمل هناك، في مشهد يمكن تلخيصه بالعقاب الجماعي، رغم أن المخيم ذاته لم يسلم من هجمات تنظيم “داعش”.
التحالف الدولي يشرف على المأساة
التحالف الدولي في قاعدة التنف لا يستجيب لمناشدات مخيم الركبان بشكل فاعل رغم تقديم النازحين الكثير من طلبات المساعدة، إذ دائمًا ما يأتي ردّ التحالف بأن وجوده عسكري فقط من أجل محاربة تنظيم “داعش”، وليس من مهامه تأمين المدنيين.
ونتيجة للمناشدات المتعددة والمظاهرات التي نفّذها قاطنو الركبان، وصلت قبل يومين من شهر يونيو/ حزيران الجاري مساعدات إلى قاعدة التنف العسكرية، دون أن توزّع بعد حسب عدد من الأهالي الذين تواصل معهم “نون بوست”.
كما لم يصدر أي بيان عن فريق المنظمة السورية للطوارئ (SETF) عن حجم المساعدات، وعمّا إذا كانت هذه المساعدات دائمة أم آنية، كالمساعدات الأخيرة التي وُزّعت في يونيو/ حزيران كجزء من عملية أطلق عليها الفريق آنذاك عملية “الواحة السورية”.
وباتت منطقة الركبان مدوّلةً تمامًا ومحميةً من قبل التحالف الدولي بقيادة واشنطن إلى جانب قوات جيش سوريا الحرة المعارضة، المتمركزة في قاعدة التنف العسكرية والبعيدة عن المخيم أقل من 25 كيلومترًا، إلا أن ذلك لم يمنع من تمركز نقاط قوات النظام والميليشيات الإيرانية والجانب الروسي.
الناشط الحقوقي عبد الناصر الحوشان، يرى أن مخيم الركبان يمتلك قيمة سياسية لقربه من قاعدة التنف العسكرية الأمريكية، لكنه رغم قيمته فهو البقعة الوحيدة المتروكة من كل الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري.
ويضيف الحوشان لـ”نون بوست” أن النظام والروس والإيرانيين يضغطون من جهة لإنهاء ملف الركبان ومحيطه بما في ذلك قاعدة التنف، ومن جهة أخرى المضي قدمًا في اتفاقيات المصالحة والتسويات التي تضع القاطنين تحت رحمة الأجهزة الأمنية، فيما أن الأردن حريص على علاقاته مع النظام، لذلك لا يريد التدخل في المخيم.
ويعتبر الحوشان أن الأمريكيين فقط هم القادرون على حل إيجاد حلّ جذري للمخيم، لكن حججهم دائمًا تصبّ في أن وجودهم عسكري بغرض محاربة تنظيم “داعش”، فيما أن السبب الحقيقي للاستثمار الأمريكي في المخيم يأتي لسبَبين:
الأول أن أغلب عناصر فصيل جيش سوريا الحرة المتحالف مع القوات الأمريكية هم من أبناء منطقة الركبان، والثاني معرفة هؤلاء العناصر بتضاريس البادية وشعابها ومنافذها، فالبادية السورية اليوم باتت صندوقًا أسود لكل الأطراف الفاعلة في الملف السوري، لا سيما تنظيم “داعش” المستفيد من كل التناقضات الحاصلة في البادية عمومًا.
أمام تعقيد مسألة الركبان الذي يشبه إلى حدّ كبير معسكر احتجاز يحوي في طياته سيلًا من الألم المتدفق مع كل مقطع فيديو لمناشدات قاطنيه من أمام خيامهم البالية، وجدران بيوتهم الطينية، يبقى السؤال الأهم أنه كيف لمخيم تسرح بقربه وفي محيطه دول فاعلة أن يصل سكانه إلى هذا الوضع المأساوي المنذر بمجاعة كبيرة؟