“وحدها شجرة اللوز تتسيّد ربيع البلاد، ملكة بلا منازع، لا أحد يجرؤ من جيرانها الشجر، حتى بحر البلد يغار من شجر اللوز في الربيع، والزبد أيضًا يغار، فأين لأبيضه المسكين بقلب قرنفلي يأخذ الناس خلسة إلى القرمذي الصريح؟ ينّور اللوز، يسرق قلوبنا ثم يزيد، يتملكها يثمره الهش المراوغ، لاذع وسكر. لا ننتظر تخشبه، نمد أيدينا إلى القطوف القريبة، نتسلق الأغصان فنحصل على ما نريد” – رضوى عاشور، الطنطورية.
يبدأ الربيع في فلسطين مبكرًا، ففي شهر شباط –فبراير- تسبق شجرات اللوز كل الأشجار فتزهر، وهو ما يعرف محليًا بمصطلح نوّر اللوز، فلون زهور اللوز البيضاء يشبه ندفات الثلج، تضيء مفترقات الطرق، والبساتين.
شجر اللوز في الأدب الفلسطيني
شجر اللوز، هو واحد من ذلك الجمال الذي تمت خيانته كما قال حسين البرغوثي في آخر كتاباته “سأكون بين اللوز”، والتي تعد سيرة ذاتية لآخر أيامه مع المرض والتي اختار لها ذلك الاسم السحري متمنيًا لنفسه بالخلود، وأن يطل علينا كل ربيع بين زهور اللوز.
شجر اللوز غالبًا ما تكون له معزة خاصة. ورمزية سحرية، فهو فلسطين قبل النكبة، هو كل شعور خفي بالأبدية، وكل شعور متوهج وجديد
“إن زرتني سأكون بين اللوز
كنت المسافة بين سقوط المطر
وانبعاث الزهور
على تلةٍ تخضر تحت قوس قزح
سوف أخرج من داخل الأرض في الليل
كفًا رخامية تحمل القمر الجديد قدح
فاغتسلوا في النهور
وانتظروا لحظتي..”
تلك هي الكلمات التي اختارها حسين أن تكتب على شاهده، ولكن لماذا اختار حسين اللوز دون غيره لتمكث به روحهه؟ اللوز في الثقافة الفلسطينية لا يقل قدسية عن شجر الزيتون أو شجر البرتقال، ولكن كلتا الشجرتين الزيتون والبرتقال أكثر شهرة لأنهما أكثر تعميرًا. فشجرة اللوز تعيش خمسة عشر عامًا فقط، بينما تستطيع الزيتونة أن تعيش مئة عام.
اللوز بجانب قيمته التراثية لفلسطين، وانتشاره في ربوعها، وأزمة خبوه وانحساره من الضفة مؤخرًا إلا أنه يعبر دائمًا عن ميلاد جديد، وحياة أخرى. فعندما رسم فان جوخ لوحته المشهورة ازدهار اللوز كان ذلك بعد أن تلقى خطابًا من أخيه أنه رزق بمولودًا جديدًا، وهو ما عدل شعور ونفسية فينسينت في ذلك الوقت فقرر رسم اللوحة عام 1890.
وإيميل حبيبي، في قصته “أبو سلام”، وأخيرًا نوّر اللوز، وهي قصة من مجموعة قصصية بعنوان سداسية الأيام الستة، يحكي عن أستاذ (م) الذي عندما قابل أخيرًا حب حياته الضائع نوّر غصن اللوز الجاف، وازدهر الربيع، وقهقه القدر!
وفي الشعر الفلسطيني لم تُنسى شجرة اللوز، فذكرها محمود درويش في قصيدته كزهر اللوز أو أبعد:
“لوصفِ زهرِ اللوز تلزمني زياراتٌ إلى
الَّلاوعي ترشدني إلى أسماءِ عاطفةٍ
معلقةٍ على الجدران. ما اسمه؟
ما اسمُ هذا الشيء في شعريةِ الَّلاشيء؟
يلزمني اختراقُ الجاذبيةِ والكلام،
لكي أحسَّ بخفةِ الكلماتْ حين تصير
طيفاً هامساً فأكونها وتكونني
شفافةً بيضاء”
رمزية شجر اللوز
شجر الزيتون، وشجر البرتقال، وشجر الليمون غالبًا ما يرمز ويعبر عن الهوية، والتمسك بالأرض، أما شجر التين والتوت، فعادةً ما يتذكره الأدباء الفلسطينيون عندما يحكون عن طفولتهم، ولكن شجر اللوز غالبًا ما تكون له معزة خاصة. ورمزية سحرية، فهو فلسطين قبل النكبة، هو كل شعور خفي بالأبدية، وكل شعور متوهج وجديد. ويقول الأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس: “ذلك الصباح قلتَ لشجرة اللوز: حدثيني عن الله .. فأزهرت شجرة اللوز”.
النوستاليجا وشجر اللوز
في رواية الطنطورية لرضوى عاشور بدأت رقية الحديث عن حياتها في فلسطين قبل النكبة لأحفادها، فتناولت وصف قريتها الطنطورة بداية من البحر ومرورًا بالربيع فأكدت على وصف تنوير اللوز. ولا ينبعث الشعور بالحنين إلى الماضي إلا في وصف قصة الحب الأوولى لرقية، وانشقاق البحر عن ذلك الفتى، ووصف الربيع بالقرية، وخصوصًا بالفقرة المخصصة لشجر اللوز.
وفي آخر ما ترك حسين أيضًا؛ يجد القارىء أكثر ما يجد من ذلك الشعور حينما يصف تخيله لبيته الأخير وشجر اللوز يحيطه من كل مكان. فشجر اللوز هو ذلك العالم الجميل الذي لا يمسه سوء، وهو الشجن.