تجاوزت الحرب 8 شهور من عمرها، لم يمر يوم فيها دون قتال لم تتوانَ فيه المقاومة عن تحويل كل دقيقة لجيش الاحتلال على أرض قطاع غزة إلى عنوان للمواجهة والقتال والاستنزاف، وكل متر تتقدم فيه الآليات هو تقدم نحو كمائن وقذائف لا تتوقف.
خلال الشهر الثامن من الحرب، كانت المعارك الأكبر في محاور الجهد الرئيسي لجيش الاحتلال متمثلة بعمليتَين عسكريتين في رفح وجباليا تزامن انطلاقهما بفارق زمني ضئيل، ففي الوقت الذي أشغل العالم بالعملية العسكرية في رفح، استخدم الاحتلال المرحلة الأولى من عدوانه على رفح في التعمية على العملية الكبرى في مخيم جباليا، التي استمرت لأكثر من 20 يومًا لم تتوقف فيها شتى أنواع الاشتباكات والمواجهات، دمّر خلالها جيش الاحتلال المخيم ونسف الشق الأكبر من المربعات السكنية لـ”بلوكات” المخيم.
اعترف الاحتلال خلال عمليته العسكرية في جباليا، التي نفّذتها الفرقة 98 من جيش الاحتلال بمشاركة لواء المظليين، بمقتل 10 جنود في خلال الاشتباكات، وادّعى تدميره أنفاقًا بطول 10 كيلومترات وانتشال جثث أسرى له من داخلها، في المخيم الذي يعدّ البقعة ذات الكثافة السكانية الأكبر في العالم، والذي لا تتجاوز مساحته 1.4 كيلومتر مربع.
ادعاءات السيطرة والنجاح
أعادت المقاومة الشرسة التي أبداها مخيم جباليا فتح الجدل لدى العديد من المتابعين والجنرالات المتقاعدين، حول جدوى العمليات الكبرى التي نفّذها جيش الاحتلال، ومدى دقة ادعاءاته بالسيطرة والنجاح في تفكيك البنى التحتية للمقاومة، علمًا أن جيش الاحتلال أعلن نجاحه في فرض سيطرته العملياتية على مخيم جباليا في نهاية ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، مقدمًا ادعاءات انتصار على المخيم الذي لطالما عُرف بكونه أحد أهم معاقل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، والذي شكّل طوال الحقبة النضالية للشعب الفلسطيني عنوانًا دائمًا للمواجهة والاشتباك.
عبّر عن الأمر الوزير المستقيل من مجلس الحرب ورئيس الأركان السابق في دولة الاحتلال غادي أيزنكوت (قُتل ابنه في كمين للمقاومة على تخوم مخيم جباليا في ديسمبر/ كانون الأول المنصرم)، بتصريحه: “تخوض فرقة كاملة من جيش الدفاع الإسرائيلي معارك ضد كتيبة فلسطينية واحدة في مخيم جباليا التي قلنا سابقًا إننا فككناها، والقتال هناك قاسٍ”.
فيما قال الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، يتسحاق بريك، في تصريحات متعددة له إن “جيش الدفاع يغرق في وحل غزة”، وأن “الحرب بلا أهداف”، متسائلًا عن عودة الجيش مرة تلو الأخرى إلى الأماكن ذاتها وخسارة جنوده بلا طائل، فيما يحتفظ السياسيون الإسرائيليون بوظائفهم وفق تصريحاته.
أما في رفح، التي أعلن جيش الاحتلال أن عمليته التي انطلقت فيها في 5 مايو/ أيار المنصرم عملية محدودة تستهدف مناطق محددة ومحور فيلادلفيا الحدودي، فقد كان الواقع مغاير تمامًا، فما فعله الاحتلال كان عملية تخدير تدريجية للرأي العام العالمي، عبر التدرج في عملية رفح وصولًا إلى إخلاء المدينة الحدودية من سكانها ودفع التعزيزات تواليًا إلى أحياء المدينة ومخيمها، والدفع بتعزيزات وصلت إلى حدّ انخراط 6 ألوية من جيش الاحتلال في القتال.
“بيع الوهم” هو التوصيف الذي أطلقه أيزنكوت على ادعاءات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، بشأن إمكانية تحقيق “نصر كامل” في قطاع غزة، إذ أوضح الأول على هامش مؤتمر مائير داغان للأمن والاستراتيجية الذي عُقد في أواخر مايو/ أيار الفائت: “من يقول إننا سنحل كتائب رفح ثم نعيد المختطفين يوزّع الوهم الكاذب. هذا موضوع أكثر تعقيدًا”، وأضاف: “الحقيقة أن الأمر سيستغرق من 3 إلى 5 سنوات لتحقيق استقرار جيد، ثم سنوات عديدة أخرى لتشكيل حكومة أخرى. “النصر الكامل” مجرد شعار جذاب”.
في نموذجَي رفح وجبايلا، استعمل الاحتلال تكتيكات ملفتة للفتك بالمقاومة، والبحث عن تحقيق أهدافه العملياتية في الميدان، واستخدم الأسلحة المباشرة وغير المباشرة، بما فيها العقاب الجماعي والفوضى والتجويع والإغراق بالأزمات والمتابعة الاستخباراتية، مبتعدًا عن تكرار التكتيكات ذاتها في كل عملية هجومية.
عمد الاحتلال إلى تسوية أرض محروقة قبل تقدم آلياته في أية منطقة من مناطق العدوان، لضمان تحييد أية خطوط دفاعية للمقاومة قبل التقدم
والمتابع لعمليات غزة أو الوسطى أو خان يونس، إلى جانب شمالي قطاع غزة ورفح، يستخلص تخطيط الاحتلال لنمط عملياتي وتمهيد خاص لكل عملية، ارتباطًا بشكل وطبيعة البنية التحتية وتصنيف حجم عمقها وبنك الأهداف والتركيبة السكانية لكل مدينة وحيّ ومخيم.
التفوق الرئيسي لجيش الاحتلال بقي مرتكزًا على سلاح الجو واستهداف عشرات آلاف الأهداف، قبل بدء التحرك البري الذي ترافق بغطاء جوي كثيف جدًّا، ما سبق واستعدت للتعامل معه المقاومة عبر سنوات من الإعداد لذخرها الاستراتيجي، المرتبط بالممرات تحت الأرضية (الأنفاق) وتحويل بيئة قطاع غزة السلسة عملياتيًا (أرض سهل ساحلي بلا تضاريس معقدة) إلى بيئة من البيئات الأعقد عملياتيًا في العالم.
تم ذلك عبر طبقات متعددة من الأنفاق المتنوعة ما بين الأنفاق الهجومية والأنفاق الدفاعية، ووصلات المناورة والعمليات، ووصلات خطوط الإمداد والتذخير، ووصلات المرابض والراجمات، والأنفاق الاستراتيجية المرتبطة بتأمين الأصول الاستراتيجية للمقاومة (غرف قيادة وسيطرة، وغرف عمليات، وغرف تأمين استراتيجي للأفراد والمقدرات، وغرف الاتصالات ومقاسم التوزيع).
إن الواقع العملياتي وضخامة النيران، والهجوم الإسرائيلي غير المسبوق والمنافي لكل أشكال التناسب ما بين حجم النيران المستخدم وحجم الأرض المستهدفة، إضافة إلى كون المهاجم يتمتع بخطوط إمداد مفتوحة تسليحيًا وقنوات معلومات استخباراتية من أكبر أجهزة المخابرات والأمن في العالم، في مواجهة مقاومة محاصرة في بقعة جغرافية صغيرة نسبيًا دون خطوط إمداد، وجبهة داخلية قابعة تحت الضغط الأقصى بالقتل والتدمير والتجويع والتهجير.
هذه كلها مؤشرات فتحت تساؤلات عميقة لدى المهتمين من أصدقاء وخصوم ومتابعين، حول قدرة المقاومة على التعامل مع معادلات النار والاستنزاف ومواجهة التفوق التسليحي والاستخباراتي للاحتلال في معركة غير متكافئة بكل المقاييس، ما أجابت عليه المقاومة بكل اقتدار على مدار أشهر القتال.
الملامح الرئيسية للهجمات الإسرائيلية
منذ اللحظة الأولى للغزو البرّي لقطاع غزة، عمد جيش الاحتلال إلى العمل بنمط أساسي مرتبط بتقديره لحجم المقاومة الموجودة في مناطق قطاع غزة، إذ كانت سمة هذا النمط الأساسية مرتبطة بغطاء ناري كثيف من الطيران الحربي وبطاريات المدفعية تستهدف شعاعًا كبيرًا يحيط بالمنطقة المستهدفة، تتبعه أحزمة نارية ضخمة تشنّها الطائرات الحربية بصواريخ تصل زنة البعض منها إلى طن من المتفجرات، تستهدف الشوارع الرئيسية للتمهيد لعمليات التقدم.
يهدف التمهيد الناري الكثيف إلى تدمير الخطوط الدفاعية للمقاومة ومقدراتها في الرصد والإنذار المبكر والإجهاض الأولي لعمليات التقدم، وإحباط فعالية الكمائن المعدّة مسبقًا للمقاومة، وتحييد غرف القيادة والسيطرة ومقاسم الاتصالات.
ارتكز جيش الاحتلال إلى آليات مدمجة ما بين بنك الأهداف المجهّز مسبقًا حول البنية التحتية للمقاومة، وتقنيات التوليد السريع للأهداف المستندة إلى الذكاء الاصطناعي الرابط ما بين المئات -إن لم يكن الآلاف- من أدوات جمع المعلومات والمراقبة لمختلف أجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية والمعلومات الواردة من أجهزة الاستخبارات الحليفة، ليحدث بنك الأهداف في أجزاء من الثانية مستهدفًا الأشخاص والمقدرات والعقد القتالية، وحتى العائلات.
عمد الاحتلال إلى تسوية أرض محروقة قبل تقدم آلياته في أية منطقة من مناطق العدوان، لضمان تحييد أية خطوط دفاعية للمقاومة قبل التقدم، إلى جانب الامتناع عن التواني عن استهداف كل ما يرد في بنك الأهداف، سواء كان قياديًا أو عنصرًا في المقاومة أو معلومة جزئية حول مساهمة الشخص بأي شكل من أشكال الدعم اللوجستي أو المعلوماتي للمقاومة.
جباليا ورفح.. استراتيجيات استهداف مختلفة وهدف واحد
في حالة مخيم جباليا على سبيل المثال، نجح الاحتلال خلال هجومه الأول على شمالي قطاع غزة في اغتيال غالبية الصف القيادي الأول للمقاومة في لواء شمالي القطاع، إذ مسح العديد من المربعات السكنية، وقضى على آلاف العائلات لضمان الإجهاز لا على قيادة لواء الشمال فحسب، بل على كل المفاصل العملياتية في قيادة اللواء، مستهدفًا الصفوف الأول والثاني والثالث وحتى الرابع من قيادة وكوادر المقاومة خلال أشهر العدوان الأولى، أتبعه بحصار بشع شمل استخدام كل أنواع التجويع والحصار والقتل البطيء والرقابة الاستخباراتية اللصيقة، لضمان استنزاف المخيم وقدرات المقاومة فيه حتى آخرها.
أما مدينة رفح الحدودية، فعمل الاحتلال بطريقة مغايرة معها، إذ ضغط العدد الغالب من النازحين فيها، وكذلك المؤسسات الدولية والناشطين والصحفيين والوفود، وحوّلها إلى بيئة مستباحة من شبه المستحيل فيها الضبط الأمني للمقاومة.
أتبع ذلك باستهدافات مكثفة للطواقم الشرطية والأمنية، وضرب مفاصل العمل الحكومي وتعزيز مظاهر البلطجة بهدف إشاعة حالة من الفوضى تخلق بيئة أمنية تسمح بتغلغل العناصر البشرية العاملة مع الاحتلال، سواء كانوا مستعربين ومن قوات النخبة “سيريت متكال” أو عناصر أمنية متخفية تحت ستار المؤسسات الدولية والناشطين والصحفيين، لجمع أكبر حجم ممكن من المعلومات، مستثمرين حالة الفوضى.
هذا بالإضافة إلى استثمار حالة الهدوء الجزئي التي سادت المحافظة في بثّ روح من الاسترخاء لدى كوادر المقاومة وكشف مكامنها، وحاول خلال هذه المدة تنفيذ اغتيالات محددة استهدفت قيادة لواء رفح لكن لم تنجح في تحقيق أهدافها.
في كلتا الحالتين، عمل الاحتلال بتقنيات وأدوات مختلفة، حاملًا هدفًا واحدًا: توجيه ضربات قاصمة للمقاومة في المحافظتَين، والوصول إلى عمليات نظيفة يستطيع عبرها التقدم وتحقيق أهدافه بتفكيك “البنية التحتية للمقاومة” بأقل خسائر ممكنة في صفوفه.
خطوات المواجهة والتعامل مع السيناريوهات والمستجدات
رغم كون المقاومة ناضجة ولها قدرات كبيرة على تقدير خطوات الاحتلال، وبالطبع قد درست مناورات وتجارب وعمليات الاحتلال السابقة واستخلصت منها العبر والدروس، وجهّزت في مقابلها استراتيجيات المواجهة وتدرّبت عليها جيدًا، فإنه لا يمكن إنكار أن الحرب الحالية حرب مختلفة تمامًا عن أي حرب أو جولة قتال أخرى خاضها الاحتلال، وكذلك المقاومة، سواء في قطاع غزة أو في المنطقة بأسرها.
حجم الغطاء الدولي والقوة الغاشمة والقتل بلا حساب وشلال الدماء، إضافة إلى الاستخدام الواسع للتقنيات والذكاء الاصطناعي والدعم الاستخباراتي، كان مهولًا جدًّا، ومن الصعب أن تكون قوالب واستراتيجيات المقاومة الدفاعية المعدّة مسبقًا قادرة على التعامل معه، وهنا كان الاختبار الحقيقي، في كيفية التكيُّف والتعامل مع متطلبات الميدان والعمليات العسكرية، وحجم الضرر الذي تلقته بنى المقاومة في كل موقع استهداف.
في حالة شمالي قطاع غزة، كان الشمال في محور العمليات منذ اللحظة الأولى، وقد تعرض للموجة الأولى من الهجوم الشاسع الذي حظيَ خلاله الاحتلال بشيك مفتوح دون حسيب ولا رقيب فيما يتعلق بحجم القوة النارية وعدد الضحايا في كل استهداف، ما كبّد المقاومة خسائر كبرى في العتاد والقيادة والتجهيزات، دفع خلالها لواء الشمال دماء ثلّة تاريخية من قيادته وكوادره الذين كان لهم باع طويل منذ سنوات الانتفاضة في مقارعة الاحتلال، وكان اختبار صمود الشمال ومقاومته العامل الأكثر فيصلية في تحديد ملامح اتجاه الحرب وتحقيق أهدافها.
تتعامل المقاومة مع التقدم في رفح بعقل بارد وإدارة هادئة لخطوط الدفاع والعقد القتالية واختيار موعد وشكل وطبيعة الضربات
على مدار أشهر عملت المقاومة في شمالي قطاع غزة بصمت القبور من جهة، ورمّمت بنيتها التحتية، وتجاوزت آثار الضربات الكبرى والتضحيات الجسام التي قدمتها من لحمها الحي وبنيانها وبناتها، وفي مشهد لتكامل الأدوار تناوبت الأجنحة المسلحة على توجيه وجبات صاروخية محدودة تحافظ على جذوة القتال من شمالي القطاع، دون أن تستنزف أو تكشف القدرات التسليحية التي لا تزال سليمة، تاركة للاحتلال الغرق في معركة أمنية كبيرة لإدراك حجم الأثر الذي تركه الهجوم الكبير على الشمال.
في لحظة الحقيقة، قلب مخيم جباليا المعادلة رأسًا على عقب، فتحول صمت القبور إلى صيحات المقاتلين الثائرين في أزقة المخيم، وحوّل مقاومو المخيم كل زقاق إلى جحيم من نار، وكل منزل إلى كمين، وكل شارع إلى مصيدة، وقدمت المقاومة صورة واضحة عن عمق بنيتها وقدرتها على تجاوز الضربات والعودة السريعة إلى ترتيب الصفوف.
فمن يرى قتال مخيم جباليا لا يسعه أن يستوعب أنه المخيم ذاته القابع تحت الاستنزاف منذ أكثر من 8 شهور، دافعًا فاتورة الدماء والقتل والدمار والتجويع والتهجير، والأهم أن القدرات التسليحية التي قاتلت بها المقاومة فاقت بكثير كل التقديرات، بدءًا من تشغيل منظومات الصواريخ من أمام وخلف خطوط التقدم، وليس انتهاءً باستخدام منظومات الكتف المضادة للطيران، وما بينها من القذائف المضادة للدروع وأسلحة القنص والعبوات الناسفة والكمائن، وصولًا إلى الإدارة المتينة للعمليات، وتتويجًا بخطف الجنود من قلب محور العمليات.
أما في رفح، لم تنجح شهور الاستباحة الأمنية والاستثمار في مسلسل الفوضى والمراهنة على التراخي في كشف ما لدى المدينة الحدودية من مفاجآت، كما لم ينجح التقدم البطيء في استدراج مقاومتها للاندفاع نحو المساحات المفتوحة شرقي المدينة، بل إن الواقع مغاير تمامًا.
فقد نجحت المقاومة في تحديد موعد استدراج الاحتلال للعملية العسكرية في رفح، ووجّهت ضربة استباقية لغرفة القيادة لعمليات المحافظة، وأبقت تحرك جيش الاحتلال تحت الإطباق الاستخباراتي للمقاومة، وتعاملت مع تحرك الآليات بعقلية باردة، نجحت خلالها أيام العملية العسكرية في توجيه مجموعة من الضربات النوعية التي كبّدت قوات الاحتلال المهاجمة خسائر مؤثرة في الأرواح والمعدّات، عبر مجموعة من العمليات التي استهدفت في غالبها مواقع خلف خطوط التقدم في الأحياء الشرقية ومعبر رفح الذي تفاخر الاحتلال بصور احتلاله.
وتتعامل المقاومة مع التقدم في رفح بعقل بارد وإدارة هادئة لخطوط الدفاع والعقد القتالية واختيار موعد وشكل وطبيعة الضربات، الذي شمل في طياته محاولة جدّية لخطف أحد جنود الاحتلال شرقي رفح.
شكلت الكمائن المركّبة خلف الخطوط الضربات الأكثر نوعية للمقاومة خلال عملية الاحتلال العسكرية في رفح، ففي الوقت الذي تعاملت فيه المقاومة بانضباط كبير في استهداف قوات الاحتلال على الشريط الحدودي، سعيًا إلى ألا تتجاوز نيرانها الحدود مع مصر، فقد عمدت على استنزاف قوات المشاة التابعة لجيش الاحتلال بالكمائن المركبة وتفخيخ المنازل وفتحات الأنفاق واستدراج جنود الاحتلال إليها.
فيما مثلت عملية الإنزال خلف الخطوط واختراق المقاومين الحدود الشرقية لرفح والاشتباك مع قوات الاحتلال بعدما قارب عدوان الاحتلال ضد قطاع غزة نحو 9 شهور، في رسالة واضحة بشأن حجم الأوراق النوعية التي تمتلكها المقاومة وتستخدمها وفقًا للحاجة إلى بثّ الرسائل الاستراتيجية بشأن سلامة بنيتها باقتدار عملياتي كبير.
يتمثل الاستخلاص الرئيسي بأن المقاومة تطوّر من تكتيكاتها وتدير واقعها العملياتي ارتباطًا بقراءتها المستمرة لخطط وخطوات الاحتلال، وتحرص على الامتناع عن الانجرار لكمائن الاحتلال أو تسهيل أهدافه، الأمر الذي يدلّل على حجم المرونة التي تتمتع بها بنى المقاومة، وحجم التماسك في قدراتها القيادية وغرف إدارة العمليات والاستخبارات، وقدرتها على تجاوز الضربات وعلى التعامل مع متطلبات الميدان، وعلى التكامل ما بين فعل المقاومة الميداني والمستجدات السياسية، خصوصًا في ملف التفاوض.