تنشغل غزة عادة في مثل هذه الأيام بالاستعداد للعيد والاطمئنان على حجاجها في الديار المقدسة وشراء الأضاحي من سوق المواشي ضمن طقوس ينتظرها الجميع من الموسم للموسم، لكن الحرب الإبادة الهمجية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي منذ تسعة أشهر، عطلت حياة الغزييين وقلبت أيامهم، إذ يستقبلون هذا الأضحى بلا حجيج ولا أضاحي، ولا عيد.
فلأول مرة تختفي مراسم الاحتفاء بعيد الأضحى في قطاع غزة رغم تعرضه لحروب سابقة خلال الأعياد، فمن نجح بإقامة الشعائر الدينية في أعياد سابقة رغم الحرب، لن يسعه ذلك في ظل هذه الحرب التي لم يشهد القطاع مثيلًا لها في تاريخه، والحجيج الذين من المفترض سفرهم لتأدية مناسك الحج هذا العام وفق القرعة السنوية اصبحوا ما بين شهيد وأسير، ومن بقي على قيد الحياة أُوصدت بوابة معبر رفح الحدودية في وجهه.
أما من اعتاد ذبح الأضحية فقد تصدت له هذه المرة معوقات كثيرات، مثل عدم مقدرته المالية بعدما استنزف كل ما يمتلكه من أموال فترة نزوحه، أو ندرة الأضاحي وارتفاع أسعارها، حيث يمنع الاحتلال الإسرائيلي إدخالها للأسواق الغزية، دون أن يكتفي بقصفه لعشرات الحظائر وقتل آلاف الخراف والعجول.
نرصد في هذا التقرير أوضاع الغزيين الذين حُرموا تأدية مناسك الحج والاحتفاء بعيد الأضحى بفعل الإبادة الجماعية التي تفرضها “إسرائيل” عليهم، فبات طوافهم بين الخيام سعيًا للحصول على لقمة تسدّ رمق صغارهم، ويولون وجوههم إلى السماء داعين بانتهاء الحرب.
حجاج غزة مُنعوا وذوو الشهداء ظفروا بالحج
مع بداية شهر ذي الحجة خاب أمل الغزيين من محاولة الخروج إلى تأدية مناسك الحج، خاصة بعد إغلاق معبر رفح منذ 7 مايو/ أيار الماضي، فقد كان يسجّل هذا العام حوالي 2920 حاجًّا.
تقول الستينية فايزة اسليم من شمال قطاع غزة، إنها كانت تتحضر لتأدية مناسك الحج برفقة زوجها وشقيقها، وبقيَ لديها أمل بالحج رغم تواجدها في الشمال واستشهاد مرافقيها الاثنين وثلاثة من أقاربها في مخيم جباليا، مضيفة: “بعت مصاغي قبل عام من أجل التسجيل، وكنت محظوظة بسرعة فرز أسمائنا ضمن القرعة لهذا العام لكن تبدل كل شيء، لم يعد لدي مرافقين ولا حتى بيت أخرج منه وأعود لتستقبلني العائلة كما خططت”.
وتحكي اسليم لـ”نون بوست” أنها من فرحتها بفرز اسمها للحج، جهّزت الهدايا واشترت سجاد الصلاة ومسابح وعطور وحفظتها في بيتها، لكن كل شيء احترق تحت القصف.
وتشير إلى أنها تعيش اليوم في مركز إيواء وطيلة الوقت بقيت تحتفظ برسوم الحج، لكن بعدما “فرط الموسم” كما تصف اشترت أضحية (خروف) وصل سعرها إلى حوالي 900 دينار أردني، متمنية أن تكون مع جموع الحجيج العام المقبل ويكتَب لها هذا العام أجر الثبات والرباط.
أما في جنوب القطاع القريب على معبر رفح الحدودي، انتفض من كان اسمه في قائمة الحج لهذا العام، ولبس الرجال لبس الإحرام ورددوا برفقة النساء “لبيك اللهم لبيك”، وذلك في أحد مراكز النزوح.
الأكثر حظًّا من أهالي القطاع الذين فرّوا من الحرب إلى مصر، وتحديدًا ذوو الشهداء، فكان لهم نصيب من مكرمة السعودية للحج كما جرى مع آية حمدان (33 عامًا) التي فقدت والديها وزوجها في الحرب، وحضرت إلى القاهرة برفقة صغارها الثلاثة.
تفاجأت آية بإدراج اسمها ضمن مكرمة الحجيج لهذا العام، بكت كثيرًا فهذا حلم والديها اللذين كانا يحلمان بالحج سويًا، لكن هي من ستحجّ عنهما، معلقة: “سأدعو لهما ولغزة كثيرًا (..) لا دعوى سوى انتهاء الحرب والعيش بأمان”.
وخرج برفقتها 1000 حاج من ذوي الشهداء والمصابين من أهالي قطاع غزة، ضمن مكرمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الذي أمر باستضافتهم تحت عنوان “مبادرة استضافة حجاج ذوي الشهداء والمصابين من أهالي قطاع غزة”، لأداء مناسك الحج لهذا العام بشكل استثنائي.
الأضاحي شحيحة والأسعار فلكية
لا يقتصر الحرمان هذا العام على فريضة الحج لأهالي قطاع غزة، بل تمنع “إسرائيل” إدخال الأضاحي، وبهذا يحرَمون من أداء شعيرة الذبح يوم عيد الأضحى أيضًا.
كما أدّى قصف الاحتلال حظائر المواشي إلى مقتل آلاف الخراف، وبالتالي أصبح المتاح منها شحيحًا وبأسعار فلكية، ففي السابق كانت تصل حصة الفرد الذي يرغب بأضحية العجل نحو 500 دولار، أما اليوم فالرقم تضاعف إلى 2500 دولار وأكثر.
يقول المكتب الإعلامي الحكومي في غزة في بيان له عبر تيليغرام، إن الاحتلال يمنع إدخال لحوم الأضاحي إلى قطاع غزة، كجزء من تشديد حرب التجويع التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني.
ويضيف أن الاحتلال حرم الغزيين من أداء هذه الشعيرة الدينية التي من شأنها أن تسدَّ رمق الجوع والحاجة، لا سيما مع فتح باب الأضاحي لمن هم خارج غزة عبر مؤسسات وجمعيات، كما يحدث في كل عام.
في حين ذكر سالم ثابت، وهو صاحب مزرعة مواشي في دير البلح، أنه لا مجال لمقارنة شراء الأضاحي هذا العام مع ما سبقه من أعوام، كون أموال المواطنين اُستنزفت خلال الحرب في شراء الاحتياجات الأساسية.
ولفت لـ”نون بوست” إلى أن قطاع غزة في السنوات الماضية كان يستهلك نحو 12 ألف أضحية من العجول، مبيّنًا أن هذا العام بالكاد تتم تغطية 10% حيث لا يوجد عجول بل فقط 500 رأس غنم في المحافظة الوسطى، بينما نفدت العجول طيلة شهور الحرب من قبل الجمعيات الإغاثية التي اشترتها لإعداد وجبات للنازحين، ما أدّى إلى نفاد 80% من المتوفر.
وأوضح أن سعر كيلو اللحم في الأضحية هذا العام وصل إلى 27 دولارًا بعدما كان في الماضي حوالي 7 دولارات، لافتًا إلى أن حجم شراء الأضحية من قبل المواطنين قليل جدًّا، فالنسبة الأكبر من قبل الجمعيات الخيرية التي ستوزّع أيام العيد على النازحين.
في السياق ذاته، يخبر سعيد شاهين “نون بوست” من شمال قطاع غزة أنه اعتاد سنويًا الاشتراك بالأضحية مع أشقائه في الخارج، لكن هذا العام لن يضحّوا في بلدهم بسبب ارتفاع سعر الأضاحي، عدا عن عدم تمكنهم من إرسال الأموال لصعوبة وصول الحوالات المادية، وفي حال وصلت يأخذ مكتب الصرافة نسبة 20% من المبلغ المحوَّل.
وبحزن يستذكر أوائل شهر ذي الحجة من كل عام، حيث فرح الصغار بالعجل عند إحضاره، ويصدح صوتهم بالغناء والتكبيرات ابتهاجًا بالعيد، لكن اليوم لم يتبقَّ سوى بقايا البيت وعائلته الصغيرة، بينما بقية الأقارب نزحوا إلى المناطق الجنوبية وبقي وحيدًا برفقة صغاره وذكرياته.