اتخذت الأناشيد والابتهالات والموشحات الدينية مساحة مستقلة لنفسها في الفنون الإسلامية الرصينة، إذ مرت هذه الظواهر الفنية بمراحل مختلفة من الإنشاء والتنظيم والتطوير، وصدحت جميعها في مختلف المجالس والمحافل الدينية لذكر الله والتهليل والتسبيح باسمه وصفاته، ومدح النبي، وتردد غالبًا في المواسم والمناسبات الدينية لربط الإنسان بدينه.
حظيت هذه الفنون بحضور اجتماعي وثقافي واسع في العديد من الدول العربية مثل مصر وتونس واليمن وسوريا، البلدان التي أخرجت الكثير من المواهب التي نجحت في تصوير الحب الإلهي والديني في صوتها حتى وثِق جمالها في تاريخ الفن الإسلامي.
ما الفرق بين الأناشيد والموشحات والابتهالات الدينية؟
تعد هذه الفنون من أحد العادات الرمضانية الروحانية المقدسة اجتماعيًا، والتي ارتبط بها الجمهور العربي بشكل كبير، إذ يُفضل سماعها عقب الإفطار والأذان مباشرة أو أثناء السحور، ولكل واحدة خصائصها المميزة والتي تجعل منها مدرسة قائمة بحد ذاتها، إذ حاولت أن تتميز عن بعضها بالرسائل العاطفية الدينية التي تعبر عنها، واستخدام الآلات الموسيقية حتى أصبحت جزء من الطقوس الدينية التي تذكر الإنسان بإن الله هو الملجأ والملاذ الآمن للعبد في كل أوقاته وظروفه.
الأناشيد: يعتمد هذا الفن على الآلات الموسيقية ويصاحبها إيقاع سريع ونغمات مكررة، يتخلل الإنشاد الديني كثير من الحوارات الغنائية بين المنشد الرئيسي ومجموعة المنشدين من خلفه، إذ يختار المنشد مقطع من القصيدة أو جملة ويجعلها محور جميع الردود، ثم تأتي الوصلة الثانية فيختار لها مقامًا موسيقيًّا، والهدف من تنويع المقامات هو عدم إشعار جمهوره بالملل.
بدأ هذا الفن بالتكون في العصر الأموي الذي اجتهد في تحديد ملامحه وقواعده، وتطور لاحقًا في عهد الفاطميين، وشاع بالاحتفالات الدينية مثل مولد النبي وليلة الإسراء والمعراج وعيد الفطر، هذا واعتنى به الصوفيين بشكل خاص لإيمانهم أن الغناء والرقص المولوي جزء من الجانب الوجداني والروحاني لتقرب إلى الله.
وفي بدايات القرن العشرين أصبح للإنشاد الديني أهمية كبرى، حيث تصدى لهذا اللون من الغناء كبار المشايخ والمنشدين الذين كانوا يحيون الليالي الرمضانية والمناسبات الدينية، خصيصا من مصر والشام، منهم الشيخ حسنين وسيد النقشبندي ومحمود عمران، وابراهيم الفران، وسلامة حجازي، ومحمد أبو العلا وغيرهم.
ومن أهم المنشدين في العصر الحديث، أبو راتب، ومحمد العزاوي وأسامة الصافي وأيمن الحلاق وإبراهيم السعيد وأحمد الهاجري، والشيخ طه الفشني وأحمد عبد الفتاح الأطروني وتوفيق المنجد وصبري مدلل وحمزة شكور وحمزة الزغير وياسين الرميثي.
التواشيح: قالب من قوالب الغناء العربي الذي يجري على صورة مباراة بين الشيخ الذي يغني والبطانة أو الفرقة المصاحبة له في الغناء، وفي هذا النوع من الفنون الدينية يعتمد على صوت المنشدين دون استخدام الآلات الموسيقية، وكأن صوتهم آلة موسيقية متكاملة، وغالبًا ما يكون الموشح عبارة عن أغنية دينية على شكل دعاء أو مدح للرسول، وفي حالات كثيرة تكون بالارتجال والألحان الفورية، وقد يكون الغناء بالعربية الفصحى أو العامية وهذا بالعكس من الموشحات التي اقتصرت على كلام الغزل الذي أجاده شعراء العصر العباسي.
برع فيه عدد من الشيوخ منهم إبراهيم الفران وهو علم من أعلام فن التواشيح والمديح النبوي والذي تعلم في مدرسة الشيخ علي إسماعيل والشيخ أبو العلا محمد وطه الفشني الذي لقبته أم كلثوم ب”ملك التواشيح”، ودرويش الحريري.
الابتهالات: يقال بإنها فن مصري خالص، واختلف المؤرخون فى نشأة فن الابتهالات؛ فمنهم من أرجع أصلها إلى العصر الفرعوني ومنهم من أرجعه إلى عهد الدولة الفاطمية، والمؤكد أنها نشأت كتراث شعبي حتى جاء الإسلام ودخل في فلسفته وأصبح على شكله الحالي، وهو أغنى أنواع الأداء الموسيقي، فهي تتكون من النص والصوت الحسن والنغم وبالارتكاز على الجملة المكررة والتنويع في الألحان، وفي بعض الأحيان الارتجال، وهي عادة ما تكون عبارة عن دعاء للتقرب إلى الله ورجاء مغفرته وطلب رحمته من خلال التسبيح والحمد والمناجاة، أو ذكر أوصاف النبي، ومصادرها متنوعة مثل الشعر الديني أو الصوفي أو الأدعية، وهو مختلف تمامًا عن التواشيح والإنشاد، حيث نجد المبتهل يدعو الله وحده بدون مصاحبة أشخاص.
ومن أكثر المبتهلين تميزًا هو الشيخ محمد الهلباوي الذي مثل مصر في العديد من الاحتفالات الدينية الدولية وغيره مثل الشيخ طه الفشني والشيخ محمد عمران والشيخ نصر الدين طوبار والشيخ سيد النقشبندي، ومن أشهر الابتهالات “رمضان يا باب السماء” الذي تقول كلماته “رمضان يا باب السماء ويا منى للتائبين على هلالك تعقد، يا مجمع الأرواح فيك تشوقت لصفائها وهفا إليك المسجد، وعلى المآذن بسمة روحية تشدو بأفراح السما وتغرد، والصائمون تزاور وتراحم وتحية فوق الشفاه تردد …”.
وابتهال آخر باسم “مولاي إني ببابك”، والتي اعتبرها المختصون تحفة فنية متكاملة من حيث الكلمات والأداء واللحن، ومن كلماته: “مولاي إني ببابك قد بسطت يدي، من لي ألوذ به إلاك يا سندي؟.. أقوم بالليل والأسحار ساهية، أدعو وهمس دعائي بالدموع ندي.. بنور وجهك إني عائد وجل، ومن يعد بك لن يشقى إلى الأبد.. مهما لقيت من الدنيا وعارضها، فأنت لي شغل عما يرى جسدي”، وابتهالات أخرى مثل “أشرق المعصوم” و”أقول أمتي” و”رباه يا من أناجي” و”ربنا إنا جنودك” و”أخوة الحق” و”أيها الساهر” و”ذكرى بدر”.
ما الذي يضفي الجمال على هذه الفنون؟
تعتمد هذه الفنون على المقامات الموسيقية التي لا يمكن للقارئ أو المبتهل أو المنشد التخلي عنها، فهي تهدف إلى تجميل الصوت والتحسين من جودته ونغماته، وتعلم المبتهل كيف يمكنه الانتقال من مقام لآخر والأهم من ذلك يتعلم متي عليه الانتقال، فهناك مقامات متعددة مثل الصبا والعجم والعشاق والسيكا، ولكل مقام قصيدة أو آية تناسب إيقاعه، ولا شك أن أغلبية المنشدين والمبتهلين انضموا إلى معاهد موسيقية لتعلم هذه المهارات الصوتية.
كما يعد الانتقال من الرسائل الدينية في القصيدة المغناة مهارة لا يحسنها الجميع، حيث قد تبدأ الابتهالات بالتسبيح والتقديس مثل “سبحت باسمك المجيد السماء، وتسامت باسمك الأسماء ..” حتى يبدأ المنشد أو المبتهل بالمناجاة مثل “وقفت أمام بابك يا قريب، ومن يلجأ لبابك لا يخيب ..”، وهذا وصولًا إلى أسلوب التكرار الذي يتبعه المبتهلين للتأكيد على رسالتهم مثل “إليك إلهي إنني لعجول، إليك إلهي لا لغيرك مرجع”.
هذا ويلزم ثقافة شعرية واسعة للمنشد أو المبتهل حتى تتشكل لديه مفردات شعرية متنوعة ومصطلحات دينية وروحية يمكنه الاقتباس منها في حالة الارتجال، هذا بالإضافة إلى تعليمه المنظومة الأدبية التي تساعده على اختيار القصائد والأبيات وإنتاج أفضل أسلوب غناء متميز ومتقن.
بعد أن ظل هذا الفن حكرًا على الرجال حتى السنوات الأخيرة، فلقد شهدت مصر انضمام عدد من النساء اللاتي دخلن إلى هذا المجال للإنشاد في المجالس الدينية، مثل شيماء النوبي وهي أول مبتهلة في مصر وإيمان الصوالحي ورضا عبد الرافع وفرقة البتول للإنشاد الديني، جدير بالذكر، إنهن تعرضن للكثير من الانتقادات الاجتماعية بسبب الآراء التي تقول إن صوتهن عورة وغير مقبول داخل الساحة الدينية.
ومن وجهة نظر البعض، فإن هذه الفنون الجميلة لم تعد تتمتع بمكانتها السابقة، وذلك يعود بسبب التغيرات الثقافية التي طرأت في السنوات الأخيرة على الأجيال الجديدة، إذ تقلصت مساحة تعليم الإنشاد في المعاهد الموسيقية، واندثرت المدارس الخاصة بتعليم الإنشاد الديني، وهذا بالتناقض مع تركيا وإيران اللاتي يستقطبن المهارات الصوتية لتعليمها الإنشاد والتأذين.
هذا بالجانب إلى وسائل الإعلام التي أهملت هذا التراث الثقافي، ولا سيما أن المسلسلات في رمضان والمسابقات والبرامج الترفيهية تحظى بالحصة الأكبر من الاهتمام، وذلك لضعف الإمكانات المادية وقلة الوعي الثقافي بأهمية هذا الفن، وإن وجدت البرامج المتعلقة بهذه الفنون فتكون مختصرة وغير متقنة، وبسبب هذه السياسات المجحفة بحق الفن الإسلامي، حاول بعض الفنانين الحاليين مثل لطيفة التونسية ولطفي بوشناق إلى إحياء هذا الفن من جديد في بلادهم من خلال الإنشاد في بعض المهرجانات الدولية، بالإضافة إلى مجموعة من الشباب التي اتخذت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة لها لإيصال هذا الفن للجميع، وهم على الهلباوي وإيهاب يونس ويحيى حسين.