بعد مضيّ عام وربع العام على حرب السودان، شرعت سلطات بورتسودان بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان في تدشين مرحلة جديدة من التقارب مع روسيا، فهل تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي إزاء توجهات السودان نحو دول المعسكر الشرقي؟
هناك رأي سائد في الأوساط السودانية أن بلادهم تحلّ في مرتبة متأخرة في جدول أولويات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. يمكن التدليل على هذا الموقف بتبرُّم الحكومة التي يقودها الجيش ممّا تصفه بالتعاطي المتعالي والمستفز من قبل الإدارة الأمريكية إزاء الأزمة السودانية، وذلك طبقًا لتعبيرات الرجل الثاني في الدولة مالك عقار.
المفارقة أن قادة ميليشيا الدعم السريع درجوا على الاعتراض على التقارير الغربية التي تتحدث عن فظائع وانتهاكات عناصرها في أنحاء مختلفة من البلاد، وليس نهاية بشعور القادة المدنيين بالخذلان من عدم ممارسة واشنطن للضغوط اللازمة لحمل طرفَي الصراع على إنهاء الاقتتال الدامي والمدمر.
ويكابد السودانيون أهوال كارثة إنسانية لا تجد حقها كاملًا، إذ اضطر 10 ملايين سوداني (ربع سكان البلاد) للنزوح عن منازلهم منذ بدء اندلاع الاقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل/ نيسان 2023.
وتشير تقارير أممية إلى سقوط عشرات الآلاف من السودانيين في الفترة ذاتها، علاوة على إحداث تدمير غير مسبوق للبنى التحتية، وهو أمر سيحتاج إلى سنوات طويلة لإعادته سيرته الأولى.
الموقف الحكومي
قبل أيام، ظهر الجنرال مالك عقار في مؤتمر صحفي لافت، رفض خلاله دعوة أمريكية تلقاها البرهان من وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن، لاستئناف المفاوضات مع الدعم السريع في جدة السعودية.
وسخر عقار الذي كان يتحدث بلغة عربية تغلب عليها اللهجة المحلية، ممّا وصفه بمحاولة واشنطن إملاء قرارتها على حكومته، وأشار إلى أنهم لن يعودوا إلى المفاوضات ما لم يلتزم الطرف الآخر (الدعم السريع) بمقررات المنبر السابقة، وعلى رأسها الخروج من الأعيان المدنية، ومنازل المواطنين، وإخلاء المدن من عناصر الميليشيا.
وأتبع عقار قوله بخطوة عملية زار خلالها جمهورية روسيا الاتحادية، لبحث إقامة قاعدة روسية على البحر الأحمر، مقابل إمداد الجيش السوداني بالأسلحة والذخائر.
وبعيدًا عن التنسيق العسكري، أعلن عقار في نهاية الزيارة عن طرح موسكو لمقترح وساطة يتضمن دولتَي الإمارات وتشاد لإنهاء الأزمة في السودان. وتتهم الحكومة السودانية بصورة علنية أبوظبي وانجمينا بدعم ميليشيا الدعم السريع، وهو أمر تقابله كلا العاصمتين بالرفض، وتعدّه اتهامات زائفة، ومحاولة لصرف الأنظار عمّا يدور في السودان.
أدوار خجولة
عودة إلى موقف الولايات المتحدة، نجدها اكتفت منذ بداية الأزمة في السودان بأدوار خجولة، تتمثل في حثّ طرفَي النزاع على وقف الاقتتال، ودعم منبر جدة التفاوضي بزعامة المملكة العربية السعودية، وإصدار بيانات منددة بانتهاكات طرفَي الصراع، إضافة إلى فرض عقوبات اقتصادية على كيانات وشخصيات متهمة ضالعة في الانتهاكات، أو تعمل على دوران آلة الحرب التي يغذيها المدنيون الأبرياء.
ومع تسمية السيناتور توم بيرييلو مبعوثًا خاصًّا إلى السودان في فبراير/ شباط العام الماضي، زاد التفاؤل بإمكانية نجاح التدخلات الأمريكية في إنهاء الاقتتال الدائر هناك. لكن ذلك التفاؤل أخذ في التناقص مع أحاديث قادة الجيش عن التوجه نحو روسيا والصين وإيران، الأمر الذي اضطر الإدارة الأمريكية للتحرك وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وفي الصدد، تلقى البرهان اتصالًا هاتفيًا مطولًا من وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، في محاولة لبعث الروح في منبر جدة التفاوضي. وجاء الاتصال عقب إعلان رجل الجيش القوي، الجنرال ياسر العطا، موافقة الحكومة السودانية إقامة مركز لوجستي روسي على سواحل البحر الأحمر، في مقدوره استقبال سفن مزودة بتجهيزات نووية، وذلك مقابل إمداد الجيش السوداني بالأسلحة والذخائر.
لكن تبعًا لما جرى عقب اتصال البرهان-بلينكن، يبدو أن الحكومة السودانية حسمت خياراتها، وأدارت ظهرها للولايات المتحدة التي تحاول سوقهم للتفاوض كـ”الأغنام” طبقًا لتعبير مالك عقار.
ويعتقد المتخصص في العلاقات الخارجية، سهل الحارث، أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاطت ببطء شديد مع الشأن السوداني، كما لم تنجح مستشعراتها في قراءة اتجاهات ومآلات الوضع العسكري.
وقال سهل لـ”نون بوست” إن إدارة الرئيس بايدن لم تولِ السودان الاهتمام اللازم، وانشغلت بقضايا أخرى كقضية العدوان على غزة، وقضايا أخرى ذات صلة بكسب الناخب الأمريكي في الانتخابات المقبلة.
وأبان أن واشنطن عجزت طيلة عام وربع عن قراءة السخط الواضح إزاء سياساتها في السودان، فالحكومة لطالما عبّرت عن غضبها من مساواة واشنطن بين الجيش والميليشيا، والميليشيا ذاتها تصف التقارير الأمريكية عن الأوضاع أنها منحازة وغير دقيقة، بينما لا يمانع كثير من السودانيين تدخل روسيا العسكري لترجيح كفّة الجيش طالما فشلت أمريكا في فرض الحل التفاوضي.
ويرى سهل أن الولايات المتحدة تخلت عن السودان، ولن يكون في مقدورها التدارك مستقبلًا إلا بفرض عقوبات أشد وقعًا على الأطراف المتنازعة، وهو أمر سيحظى دون شكّ بسخط متزايد من المواطن الذي دفع ثمن عقوبات وجود بلاده في قوائم الإرهاب منذ عام 1993 وحتى عام 2020.
موقف أملته الضرورة
بدورها، تصف المحللة السياسية مريم سعد الدين، تحول السودان إلى روسيا بأنه أمر اعتيادي في عالم متعدد الأقطاب. وتقول لـ”نون بوست” إن حاجة السلطة السودانية للشرعية، وحاجة الجيش السوداني للسلاح ولتحييد ميليشيا فاغنر المساندة للدعم السريع، دفعها إلى حضن الدب الروسي.
بيد أنها عادت ونبّهت إلى ضرورة دور الدبلوماسية السودانية في إظهار هذا الموقف على أنه موقف أملته الضرورة، واستمرار فتح قنوات الاتصال مع الغرب، وتجنُّب الخطاب المعادي، وفتح المجال للعمل مع كل المعسكرات والدول وفقًا لما تقتضيه المصالح.
ودخلت روسيا الفضاء السوداني عبر مجالَين، الأول عسكري بإعلان انحيازها إلى صفّ الجيش باعتباره يمثل الشرعية، وهو أمر محل تقدير معظم السودانيين، والثاني سياسي بالعمل على إنهاء الحرب مع اللاعبين الأساسيين، وهو أمر سيجد مباركة كل السودانيين، ما يتطلب من الولايات المتحدة التوقف عن التلويح بعصاها الغليظة.