تتجه الأنظار هذه الأيام إلى دولة الكويت، فالعالم يترقب انعقاد المؤتمر الدولي لإعمار العراق، في الفترة من 12 إلى 14 من فبراير/شباط الحاليّ، بمشاركة عشرات الدول ومئات الشركات الأجنبية والعربية والعراقية، ويهدف المؤتمر إلى تحصيل بضعة مليارات من الدولارات للمساهمة في إعادة إعمار أكثر من خمس مدن عراقية دمرتها آلة العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
المؤتمر بالنسبة لحكومة بغداد يعتبر فرصة مهمة ومناسبة جيدة لتلميع صورتها، ولذلك ستسعى الحكومة لتسليط الأضواء على هذا المؤتمر على اعتبار أنه “السفينة” التي يمكن أن تنقذ العراق من الدمار الكبير الواضح في العديد من المدن التي كانت ميدانًا للعمليات العسكرية، وكذلك بقية مدن البلاد التي تعاني من الإهمال الحكومي وتدمير البنى التحتية والفوقية.
وأيضًا فإن حرص حكومة بغداد يأتي من باب أن المؤتمر يُعد دعاية انتخابية كبيرة ومجانية لها، وذلك لأنه يعقد قبل أقل من 100 يوم من الانتخابات البرلمانية القادمة في الـ12 من شهر مايو/أيار المقبل، ولهذا لاحظنا أن الوفد الرسمي العراقي لمؤتمر الكويت ربما تجاوز الـ200 شخصية من عموم الوزارات والمحافظات.
المسؤول الأول عن تدمير العراق وانتشار الإرهاب الرسمي وغير الرسمي هي الولايات المتحدة الأمريكية التي احتلت العراق بموجب أكاذيب أثبتت الأيام بطلانها وباعتراف قادة الدولة العظمى، ثم تقع المسؤولية بالدرجة الثانية على الحكومات المتعاقبة التي لم تتمكن من ضبط الأمن، ولم تحقق أي منجزات تذكر للعراقيين وهيأت البيئة المناسبة لنمو النقمة الشعبية ضدها، ثم سعت لافتعال الأزمات مع المدن الغاضبة لتصل إلى مرحلة العمليات العسكرية واستهداف الأبرياء داخل المدن بحجة “داعش” التي لم تكن تمثل 1% من مجموع سكان تلك المدن الناقمة على الأداء الحكومي.
المشكلة في العراق ليست مالية، وإنما أزمة قيادة!
ورغم تلك المسؤولية الأخلاقية والقانونية على الولايات المتحدة فإنها تحاول اليوم التنصل من وعودها السابقة بالإعمار، وفي نهاية الأسبوع الماضي نقلت رويترز عن مسؤولين أمريكيين وغربيين قولهم: “الولايات المتحدة لا تعتزم المساهمة بأي أموال في مؤتمر لإعادة إعمار العراق الذي يعقد في الكويت الأسبوع المقبل”.
حينما نريد الحديث عن الأموال المتوقع تحصليها في هذا المؤتمر ينبغي أن نذكر ببعض صور الفساد المالي الهائلة في العراق، حيث سبق للنائب عادل نوري عضو لجنة النزاهة النيابية العراقية أن أكد بأن نحو 1000 مليار دولار هدرت بسبب الفساد في العراق بعد عام 2003، وهناك أكثر من 600 مليار دولار ليس لها وصولات ومبالغ أخرى شابتها عقود فساد وهمية ومشاريع متلكئة فيها خروقات ومخالفات، وأن الفساد استشرى في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية”.
وفي أغسطس/آب 2015، أكد وزير النفط العراقي عادل عبد المهدي، أن “موازنات العراق منذ العام 2003 وحتى العام الحاليّ بلغت 850 مليار دولار، وأن الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار مع وجود ناتج محلي للموظفين الحكوميين بمقدار 6%، أي بمقدار 20 دقيقة عمل في اليوم”.
وكل هذه الأرقام الكبيرة للموازنات المالية العراقية وللفساد المالي تؤكد أن المشكلة في العراق ليست مالية، وإنما أزمة قيادة!
وبالعودة إلى مؤتمر الكويت، نقلت بعض وسائل الإعلام قبل عدة أيام عن مصادر كويتية قولها إن الدول المانحة ستلقي كلمتها في الجلسة الثانية للمؤتمر بعد الافتتاح وستعلن فيها قيمة تعهداتها التي من المتوقع أن تقارب 18 مليار دولار.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه حكومة بغداد أن العراق بحاجة إلى 100 مليار دولار لإعادة الإعمار، أكدت وزارة التخطيط ببغداد في مايو/أيار الماضي أن “خطة إعادة الإعمار ستكون على مرحلتين؛ الأولى تمتد بين عامي 2018 و2022، والثانية بين عامي 2023 و2028”.
الاستعانة بشركات مختصة، وعبر البنك الدولي يمكن أن يكون الأرضية الجيدة لبداية إعمار هذه المدن
العراق اليوم ليس بحاجة إلى 18 أو 20 مليار دولار يمكن أن تجمع لحكومته في مؤتمر الكويت، وإنما بحاجة إلى 18 أو 20 شخصية صادقة وقوية تقود البلاد بحكمة وقوة، وتكون قادرة على قطع دابر الفساد، الذي يمثل اليوم أخطر صور الإرهاب؛ ذلك لأن الإرهاب العسكري ربما يكون واضحًا للجميع، أما الفساد المالي فهو إرهاب خفي ويكون خطره على جميع المواطنين من أقصى البلاد إلى أقصاها.
واقع حال الإشكالية العراقية ليس في عدم توفر المال الكافي لإعادة الإعمار وإنما في عدم وجود أيادٍ نظيفة يمكنها أن تصون ميزانيات البلاد وثرواتها المنهوبة بأساليب رسمية وغير رسمية في واحدة من أكبر صور السرقات، أو الاختطاف للمال العام في العالم!
إن من أهم الواجبات على مؤتمر الكويت عدم تسليم الأموال إلى حكومة بغداد، وينبغي أن يتم تشكيل لجان رئيسية تكون مهمتها التعاقد مباشرة مع شركات عالمية مختصة وبالذات الأوروبية منها، وأن تكون الأولوية لإعادة الحياة لمدن الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين ومناطق حزام بغداد، (وهي مدن واقعة في غرب وشمال وشرق البلاد، وكانت ضحية لعمليات انتقام حكومي بحجة تحريرها من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”).
وكذلك ينبغي توفير البنى التحتية لهذه المدن – من ماء ومجاري وطرق ومستشفيات ومدارس – التي عانت كثيرًا بسبب الظلم الحكومي والإرهاب المخطط له أو المرتب مسبقًا، الذي جعل من المدنيين العزل ضحية كبيرة لمعارك طاحنة بين القوات الحكومية وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
إن الاستعانة بشركات مختصة وعبر البنك الدولي يمكن أن يكون الأرضية الجيدة لبداية إعمار هذه المدن، أما تسليم هذه الأموال لحكومة بغداد، فأعتقد أن ذلك سيدخل البلاد ثانية في دوامة الفساد، وتبقى تلك الأموال أو “مشاريع الإعمار” مجرد وصولات – وربما صور فوتوشوب – لا وجود لها على أرض الواقع، لنجد أنفسنا ثانية أمام مرحلة جديدة من مراحل الفساد في البلاد التي تعاني من آفات قاتلة أبرزها السلاح غير الرسمي والفساد المالي والإداري.
فهل سينعش مؤتمر الكويت آمال أبناء المدن المدمرة أم أنه مجرد مظاهرة إعلامية يمكن أن ينتج عنها أقل من مليار دولار لا تكفي حتى لرفع أنقاض منازل المدن المدمرة؟