يا للحياة! كيف تَتَقَلّب بنا كل يوم من حالٍ إلى حال.
كنت يومًا في حالةٍ شديدة السوء ماديًا ومعنويًا، فاتفقت مع صديق لي أن نلتقي بالمقهى وقد كان.
بدا عليّ هذا السوء، فحاول مواساتي قائلًا في لطفٍ: “الدنيا مش هتسمحلك تأمل وتتفاءل على طول الخط، لازم هتلاقي المشكلة اللي تنغص عليك حياتك، وبردو مش هتسيبك مكتئب وتبتئس على طول، لما تقفل في وشك وتبقى خلاص مش قادر تتنفس، هتلاقيها مرة واحدة نورت في وشك كده من دون مقدمات، وهتفضل في المرجيحة دي طول ما أنت عايش”.
الحقيقة أنني لم أنتبه إلى معاني هذا الكلام إلا اليوم، حين حكى لنا عم علي الشريف كيف دارت به الأيام، وكيف خرج من هذا النفق المُظلم إلى حياةٍ جديدةٍ ومستقبل ألهم الكثير من بعده.
قام عم علي ليتناول دواء القولون بعد ما ذكّره به حسين مرة أخرى، فسألت حسين هامسًا: “أنت كنت تعرف حكاية السجن دي يا حسين؟”، فرد: “أعرفها طبعًا، لكن كأنه أول مرة يحكي، كان دايمًا بيعتز بالفترة دي وبيداري وجعها”.
عاد عم علي مبتسمًا ومعه فنجان قهوة فارغ وجلب هذا الوابور النحاسي – أبو شرائط – لعمل القهوة كما اعتاد مساء كل يوم.
أدركت أن الليل قد حل ووجب عليّ الانصراف، وقبل أن أستأذن قال لي عم علي: “أنا هعملك قهوة حلوة مستحيل حد يعرف يعملها إلا خالتك أم حسين طبعًا”، واتجه إلى حسين وابتسم قائلًا: “لازم تبقى عارف أنت بتقول إيه كويس عشان تعرف تعيش في البيت ده”.
أوقد الوابور وبدأ يعد القهوة بمنتهى الانسجام، وقال بصوت عالٍ نسبيًا: “تعرف يا حسين أن أمك هي اللي علمتني أعمل القهوة التركي؟”، تبسّم في حنين مسترسلًا في الحديث: “يا سلام! عم إمام بعد ما خرجت من السجن دعاني أتغدى عنده، رحت وبعد ما اتغدينا، عم إمام نده: القهوة يا خضرة”.
وتدخل علينا صبية حليوة شبة البدر، فتذكرت محمود أمين وهو بيقول:
وحق أبيكِ هل أنتِ التي في دارنا.. كنتِ
كأنك زهرة النوار في سبكِ الندى لــُحتِ
تصبين السنين الخضر في أعمارِ من شئتِ
ووحدي أمضغ الصبّار أنّى رُحتِ.. أو جِئتِ
كأني رعشة ٌالأنـّاتِ في ديباجة الصمتِ
“ودي كانت قصيدة كتبها أمين العالم اسمها (بنت العم)، ليل نهار يغنيهالنا، المهم القهوة طلعت حلوة جدًا فقلت لعم إمام القهوة حلوة تسلم يد اللي عملها”.
قالي: “خلاص اتفقنا”، وضحك وقالي: “خضرة امتحاناتها قربت، تعالى ذاكر لها رياضة وأشرب قهوة كل يوم يا عم”.
“الحقيقة إن عم إمام كان عايزني أخرج من الجو اللي أنا كنت فيه بعد السجن، واتحجج بموضوع خضرة ودرس الرياضة عشان أتردد عليه فيطمن عليا ومنها نتكلم في السياسة شوية، وفعلًا كنت بتردد عليهم بشكل دائم، أذاكر لخضرة وأقعد مع عم إمام شوية، وأشرب القهوة وأروح آخر انبساط”.
سكت عم علي لثوانٍ لصب القهوة في فنجاني وأخذ يعد قهوته، ثم استكمل حديثه في انسجام قائلًا: “الدنيا بدأت تضحك في وشي وكنت عملت فيلم الأرض مع يوسف شاهين والناس بدأت تعرفني في الشارع، وخدت جائزة أحسن ممثل دور تاني من جمعية السينما، فقلت أتقدم لخضرة الصبية الحلوة الصغيرة اللي خطفت قلبي العجوز، كنت بتمناها من ربنا، لما رحت أطلب إيدها عم إمام قالي: خليني آخد رأيها وارد عليك”.
“الصراحة كنت خايف يرفضوا عشان فرق السن اللي بينا، هي كانت يا دوبك 19 سنة وأنا كنت 34 سنة، كنت بروح سيدنا الحسين وأفضل أدعي ربنا ليل نهار عشان يوافقوا، لحد ما جاء الرد”، عم إمام قالي: “موافقين يا بني بس فيه شرط”.
قلتله: “أأمرني”.
قالي: “تتوظف، ويكون لك شغل ثابت، عشان نطمن على بنتنا”.
“كانت الفرحة مش سيعاني وبالفعل اتعينت محاسب في البنك لأجل خضرة”، ثم نظر عم علي لحسين وقال: “تعرف إن ستك مكنتش موافقة عليا في الأول خوفًا من إني أدخل السجن تاني”.
“خضرة قالتلها: “يا أتجوزعلي يا بلاش جواز خالص”، فجدك إمام شرط عليا موضوع الوظيفة ده عشان يطمن ستك إني بقيت مستقيم ومليش دعوة بالسياسة”.
صب عم علي قهوته وأخذ رشفة بمنتهى المزاج وقال: “يا سلام على خضرة! أتجوزت خضرة البنت الصغيرة اللي عوضتني سنين السجن وليالي الظلمة ونورت حياتي والله، وعشت في شبابها شبابي اللي ضاع في الزنزانة، كانت أحسن هدية في حياتي”.
كان وجه عم علي جميلاً وهو يتكلم عن حب عمره السيدة خضرة، مليء بالحب والعرفان، ثم فاجأنا بضحكات مكتومة قائلًا: “في مرة رُحت اشتريت بابور نحاس وعدة القهوة عشان أشرب قهوة حلوة زي اللي كنت بشربها في بيت عم إمام”.
اقترب عم علي من حسين وهمس قائلًا: “أمك عملت لي قهوة وطلعت أي كلام، فعرفت بعد كده من جدك، إن ستك هي اللي كانت بتعملنا القهوة وخضرة بتقدمهالي بس، بس أنا أتصرفت، نزلت لعمك إبراهيم القهوجي وخليته يعلمني، وبقيت بعمل الفنجان حلو جدًا، ومن ساعتها وهي مقتنعة إن هي اللي علمتني أعمل القهوة حلوة أوي كده”، فانفجرنا في الضحك.
كنت مغرمًا بدور دياب في فيلم “الأرض”، كنت أظن أن يوسف شاهين أحضر فلاحًا بالفعل ليقوم بالدور فسألت عم علي: “أنت عرفت يوسف شاهين أمتى؟”.
رد مبتسمًا: “أنت عايز تعرف دياب مش يوسف شاهين”، ثم أردف قائلًا: “يوسف شاهين قدر يقنع حسن فؤاد بأنه هيبقى سيناريست عظيم، ولازم يشتغل معاه، وقتها كان شغال على رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، وفعلًا حسن كتب له السيناريو وكل ما نتقابل ألاقيه مبيتكلمش إلا عن الرواية دي، وفي مرة كنا على القهوة قالي: “إيه رأيك تمثل في الرواية دي؟”.
“وقتها افتكرتها شطحة من شطحاته وضحكنا وهزرنا، فات يومين ولقيته بيكلمني يقولي تعالى قابل يوسف شاهين دلوقتي، مكدبتش خبر ورحتلهم المكتب، أول ما شافني قال كلمة قبيحة وقال لحسن: هو ده دياب خلاص هو ده”.
“وبدأنا البروفات، فاجأة لقيت نفسي بمثل مع محمود المليجي ويحيى شاهين وتوفيق الدقن، وكان عزت العلايلي وصلاح السعدني مش مشهورين أوي وقتها، الفترة دي كانت جميلة عشان أتعرفت فيها على صلاح، كنا على طول في نقاشات سياسية بتنتهي بضحكاته اللئيمة”.
قطعت كلماته ضحكة مرددًا: “يا سلام على صلاح”.
ثم أخذ يسرد لنا موقف جمعه هو وصلاح السعدني في مرحلة متقدمة من صداقتهم قائلًا: “في مرة صحيت على تليفون من صلاح بيبكي وبيقولي: أبويا مات يا علي، أنا مش قادر أروح العزا لوحدي، قلتله: البقاء لله يا صلاح أنا هلبس وهجيلك حالًا، وفعلًا روحت له وكان متأثر جدًا فسوقت العربية بداله وأتحركنا، وفي نص الطريق قالي: اركن على جنب هنا، كنا على شط النيل، لقيته طلع عدة الصيد وقالي: “تعالي نصطاد شوية لأني مخنوق جدًا ومش عايز حد يشوفني كده”.
وبالفعل قعدنا نصطاد فوق 3 الساعات وأنا عمال أقوله مواعظ وأذكره بفضل الصبر، وأزاي أهل البيت صبروا على قتل الحسين وهو يعيط وأنا أطبطب عليه وأواسيه، لمينا عدة الصيد وركبنا العربية، أنا كنت مكمل في طريقي للمنوفية، قالي: “لا لف وارجع القاهرة”، قولتله: “مش هنروح العزا؟ قالي: عزا مين يا علي، أنا أبويا مات من عشرين سنة”.
هذه المرة انفجرت أنا وحسين من الضحك، وهو مبتسم يضرب كفًا بكف، ثم صاح ضاحكًا: “كل ما يقابلني يقولي: أنا هتحاسب عليك يوم القيامة لو معملتش فيك كده”.
“لما روحت ليوسف شاهين تاني يوم لقيت صلاح بيضحك ويقولي: “أهلاً بك يا ابن الطبيعة”، من وقتها والاسم ده طلع عليا، يا سلام عليك يا صلاح يا سلام”.
سألت عم علي مداعبًا: “برضو لسة محكتليش عن دياب”.
رد متسائلًا: “ليه دياب بالذات؟”.
قلت: “دياب يشبه أبويا وأعمامي وجدي وكل واحد بيحب زرعته وأرضه، أول مرة شوفت الفيلم فيها، سمعت علواني – صلاح السعدني – وهو بيقول: يا أهل البلد، يا أهل البلد، الرجالة رجعوا من الحجز، أبويا سويلم والرجالة رجحوا من الحجز جميعًا، الليلة فرح يا بلد، الرجالة رجعت والحمدلله والحبس راح، وقتها حسيت إني واقف أنا كمان مستني الرجالة وهي راجعة من الحبس وفضلت مستني دياب لحد ما شوفته بيجري، فضلت أجري وراه، هتصدقني لو قلتلك إني كنت عارف أنه هيجري يروح للأرض الأول لأجل يحضن زرعته! دياب شبه أبويا وشبه الفلاحين في بلدنا يا عم علي”.
عم علي: “الله الله”! وأخذ يرددها في انسجام وشعور كالمنتشي بنجاحه، وصمت وكأن ذكرى ما داهمته وقتها.
تُتَّبع…