كثيرًا ما تروج السلطات الحاكمة في المملكة المغربية إلى ما تسميه “الاستثناء المغربي” الذي تزامن مع موجة الربيع العربي التي عرفتها المنطقة سنة 2011، إلا أن هذا الاستثناء والإصلاحات الملكية على قلتها، كانت سياسية فقط، فلم تصل إلى الجانب التنموي بعد، مما جعل الملك محمد السادس ينبه إلى ضرورة تغيير منوال التنمية في المملكة حتى يستجيب لتطلعات الشعب ويواكب التطور الذي تعرفه البلاد منذ سنوات عدة.
ضرورة معاضدة التجربة السياسية للجانب التنموي
المحلل والخبير السياسي المغربي رشيد لزرق، اعتبر أن التجربة المغربية السياسية لا بد أن تشمل الجانب التنموي، وقال في هذا الشأن لـ”نون بوست”: “يعرف المغرب نموذجًا فريدًا من نوعه في المنطقة، غير أن ترسيخ الديمقراطية، لا يمكن أن يكون إلا عبر الاستقرار والتحدي، وبالتالي فعلى الحكومة المغربية أن تقوم بتحويل الحراك الديمقراطي إلى حراك تنموي”.
خبراء يرون أن الإصلاحات التي أقرها الملك المغربي محمد السادس، لم تتنزل جميعها على أرض الواقع
عام 2011، أقر الملك المغربي إصلاحات كبرى من بينها توطيد مبدأ فصل السلطات وتوازنها من خلال تقوية صلاحيات الوزير الأول، والارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وجاءت هذه الإصلاحات في سياق انقلبت فيه معادلة الحكم إقليميًا رأسًا على عقب، حيث تمت الإطاحة بكل من الرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الليبي معمر القذافي واحتجاجات في اليمن وسوريا والبحرين.
إلا أن خبراء يرون أن الإصلاحات التي أقرها الملك المغربي محمد السادس، لم تُنفذ جميعها إلى أرض الواقع، ذلك أن أذرع الدولة ما زالت عصية ولا تقبل بتسرب هذه الإصلاحات إلى مفاصلها المهمة، فهي تمارس قيودًا على سلوك الفاعلين السياسيين بداخلها وتحاول تكييفهم حسب رؤيتها، فضلاً عن أن الإصلاح لم يكن أولوية لمؤسسات الدولة البارزة والأحزاب السياسية التقليدية.
تعثر في تكريس الديمقراطية كحمولة وثقافة
في خضم هذه الإصلاحات والتمشي البطيء للتنفيذ، ظهرت جدلية بين التنمية الاقتصادية وتوطيد الديمقراطية، في هذا الشأن يقول الخبير السياسي رشيد لزرق: “الأحداث الاجتماعية في بعض أقاليم المملكة، جعلت بعض الأصوات تتجه إلى المناداة بإعطاء أسبقية التنمية الاقتصادية على الديمقراطية، وفق رؤية اختزالية تميل إلى تبني فصل تعسفي بين الديمقراطية والتنمية، والحال أن عدم بلوغ مرحلة التنمية وتحقيقها يعود أساسًا إلى تعثر في تكريس الديمقراطية، كحمولة وثقافة”.
المحلل السياسي المغربي رشيد لزرق
عرف المغرب السنة الماضية وبداية السنة الحاليّة موجة احتجاجات وتحركات شعبية كبيرة، بداية من حراك الريف، حيث تشهد مدن الشمال احتجاجات متواصلة للمطالبة بالتنمية ورفع التهميش ومحاربة الفساد، وصولًا إلى احتجاجات منطقة “جرادة” المطالبة هي الأخرى بالتنمية، مرورًا بـ”حراك العطش”، في مدينة زاكورة، للمطالبة بتوفير الماء الصالح للشرب في المنطقة التي تعاني منذ فصل الصيف نقصًا شديدًا في المياه، فضًلا عن الانقطاعات المتكررة.
في وقت سابق، حذرت العديد من التقارير المحلية والدولية من تنامي موجة الاحتجاجات الشعبية في المغرب بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إذ صنفت المملكة من الدول العربية المرشحة لأن تشهد اضطرابات محتملة، وأشار تقرير صادر عن منظمة العدل والتنمية لدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن عامل الاقتصاد سيكون المحور الأساسي للحركية الاجتماعية المحتملة، خاصة مع ارتقاء وعي المواطنين الجمعي، وإعلان رغبتهم في القطيعة المطلقة مع مشاكل الفساد والبطالة والتهميش التي تعانيها فئات شعبية عريضة.
كشفت احتجاجات الريف، التهميش الذي تعيشه المنطقة ومناطق أخرى، ومعاناة سكانها من ضعف الخدمات الأساسية
يعتبر لزرق أن القول بضرورة تعجيل التنمية الاقتصادية، في ظل غياب مؤسسات ديمقراطية قوية، من قبيل الوهم، وقال في هذا الإطار: “أعتقد أن بلوغ مرحلة التنمية سيبقى مرهونًا بتوطيد الخيار الديمقراطي، وتقوية الدولة الاجتماعية التي ترسخ المعايير والقوانين والسياسات الشفافة في جمع الموارد المالية وتوزيعها، وفي صياغة البرامج الاجتماعية ومراقبتها من أجل ضمان عدالة اجتماعية شاملة.
وسبق أن طالب نواب مغاربة من أحزاب الأغلبية والمعارضة الحكومة بتسريع تقليص الفوارق الاجتماعية بين مناطق المغرب، عبر تمكينها من الاستفادة بشكل متساوٍ من برامج التنمية، وذلك بعدما كشفت احتجاجات الريف التهميش الذي تعيشه المنطقة ومناطق أخرى، ومعاناة سكانها من ضعف الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، وتدهور البنى التحتية، وتقلص فرص الحصول على العمل للعاطلين.
منوال تنموي جديد
أمام هذه الجدلية بين التنمية والديمقراطية، ذهب رشيد لزرق إلى ضرورة صياغة مخطط تنموي يقوم على تقوية الدخل القومي وبلورة رؤية مستقبلية قوامها رفع تحديات العولمة واقتناص فرصها، يتطلبان توفير شروط كثيرة، تأتي في مقدمتها توفير مؤسسات ديمقراطية تمكن المواطنين من المشاركة في صياغة مستقبل وطنهم والاختيار الواعي والمسؤول بين الخيارات التنموية المتاحة وطرق ووسائل بلوغها، وبالتالي إجراء مفاضلة صحيحة بين التكاليف والمردودية المتوقعة لكل من هذه الخيارات.
ويواجه منوال التنمية المغربي انتقادات لاذعة من المعارضة والسلطات الحاكمة على حد السواء، وفي شهر أغسطس الماضي، أعلنت الحكومة المغربية برئاسة سعد الدين العثماني، خطة تصحيح تتضمن ستة إجراءات عملية تتعلق بإصلاح الإدارة وتشجيع الاستثمار وتبسيط الإجراءات الإدارية، وقال رئيس الحكومة حينها: “قررنا وضع برنامج واقعي عملي وسريع لتصحيح الاختلالات”، وأضاف أن الإدارات الحكومية ستكون مضطرة في الأشهر المقبلة لتقديم اقتراحات ملموسة إلى مكتبه لتنفيذ المبادئ التوجيهية.
يطالب المغاربة بنموذج تنموي جديد
اعتبر الخبير السياسي المغربي رشيد لزرق أن “ضمان رقابة شعبية فعالة لمواطن غيور ومشارك في القرار، وحدها التي تستطيع القيام بمهمة الكشف عن جوانب القصور ومواطن الفساد والممارسات المنحرفة بفعالية، فآليات الرقابة، سواء البرلمانية أو الحكومية، على أهميتها تظل غير فعالة، بالنظر للمزايدات السياسية، والاتجاه إلى التسييس الدائم لكل الآليات، مما يجعلها تزيغ عن الحيادية والنزاهة”.
وتابع بقوله “العديد من المقصرين والمنتفعين من الفساد، لهم حماية سياسية، وهذا ما يجعل المؤسسات التمثيلية والتنفيذية غير قادرة على كشف الحقائق وإدانة المقصرين والمفسدين”، واعتبر لزرق أن بلوغ مرحلة التنمية، يظل مرهونًا بإرادة سياسية وقوانين واضحة ومؤسسات قوية ومؤسسة قضائية مستقلة ومجتمع مدني فاعل وإعلام قوي، لأن التنمية لا تختزل في زيادة المعدلات الحسابية وارتفاع الدخل القومي فقط، بل بمنظورها الشمولي، الذي يشمل الجوانب الاجتماعية والبيئية للتنمية، إضافة إلى الحقوق السياسية للمواطنين، وصولًا إلى الحرية والديمقراطية.
ويرى الخبير المغربي ضرورة اجتماع كل هذه المؤشرات حتى تتحقق التنمية، وقال في هذا الشأن: “إن لم يتم إرفاق النمو الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والحفاظ على البيئة للأجيال القادمة وتأمين الحقوق المدنية للمواطنين وتمكينهم من تطبيق مبادئ الديمقراطية بما فيها حرية الاختيار وخضوع السلطة السياسة للمساءلة، فإن التنمية، بمعناها الشمولي، تعتبر تنمية ناقصة أو محدودة الجانب”.