توالت التقارير، وهذا المقال يكتب، حول نجاح قوات نظام دمشق، بمساندة من حزب الله والميليشيات الشيعية، في السيطرة على مدينة يبرود. قاتل الثوار في المدينة طوال أسابيع ببسالة نادرة، ولكن مصير يبرود كان محتوماً، منذ بدأت قوات النظام وحزب الله في استهدافها، بدون أن يتوفر للثوار فيها طريق امدادات وتعزيزات منتظمة، يمكن أن يساعد على استمرار القتال في مواجهة قوة تتمتع بتفوق هائل في العدد والنيران، ولا تتقيد بأي قيم أخلاقية للحرب. ولكن، وبغض النظر عن الحسابات العسكرية، فليس ثمة شك أن سقوط المدينة المجاهدة يمثل ضربة معنوية للشعب السوري وثورته. هذه أوقات صعبة في مسيرة الثورة السورية، بالتأكيد، وكما في مسيرة كل الثورات في التاريخ الحديث، تستدعي الأوقات الصعبة مراجعة، أحياناً، وجلداً للذات، في أحيان أخرى. ولأن زمناً ملموساً قد مر اليوم على انطلاق الثورة، فليس من الغريب أن تستند هذه المراجعات إلى بعض من الحقائق، وبعض من الأساطير، وأن يؤسس لجلد الذات على الاثنين معاً.
لم تنطلق الثورة السورية، في 15 أو 18 آذار/ مارس 2011، بإرادة أو قرار قوة سياسية محددة. كان مناخ من الثورة والأمل في التغيير وإعادة بناء الذات السياسية قد اجتاح المجال العربي منذ سقوط وهرب الرئيس التونسي السابق بن علي في كانون الثاني/يناير 2011، وجاء التحاق سوريا بحركة الثورة العربية بصورة طبيعية. في البداية، كان ثمة حراك شعبي، محدود أو واسع النطاق، في عدد من المدن الكبيرة، مثل درعا وحمص وحماة وبعض أحياء دمشق وحلب، كما في دير الزور والقامشلي والرقة، وفي عدد آخر من المدن والبلدات الأصغر في ريف دمشق والساحل والشمال. ولكن النظام سارع، ومن الأيام الأولى للثورة لاستخدام اقصى وسائل القمع مع الشعب، وإلى تصنيف الحراك الشعبي طائفياً. من آذار/مارس إلى منتصف الصيف، اشتغلت آلة النظام الإعلامية، معززة بوسائل إعلام حلفائه، لوصف الحركة الشعبية بالإرهاب، والسلفية، والاندساس من الخارج، في تسويغ سابق التصميم والتصور لآلة القتل الجامحة التي أخذت في حصد أرواح السوريين، ونشر قوات الجيش في أنحاء البلاد، وبناء تماه صلب بين مصير العلويين، وأبناء الأقليات الأخرى، ومصير النظام. النظام، وليس أي قوة أخرى، من عمل من أجل دفع الشعب إلى التسلح، ومن أجل الانتقال بالحركة الشعبية إلى مربع الصراع الطائفي.
في نهاية آب/أغسطس، وعلى نطاق محدود، وبصورة غير ملموسة على الإطلاق، أخذ شعور متزايد وواسع بالإهانة يدفع قطاعات من السوريين إلى حمل السلاح، بداية ببلدات ريف دمشق وحمص. حتى الانشقاقات عن الجيش كانت لم تزل محدودة آنذاك، ولم يكن لأحد أن يأخذ إعلان حفنة الضباط المنشقين الصغيرة عن تأسيس الجيش الحر بأي درجة من الجدية. وفي شوارع المدن والبلدات، استمرت الحشود الشعبية في التوكيد على سلمية الثورة وعلى وحدة الشعب. وليس ثمة دليل على وجود تغيير جوهري في وضع النظام العربي والإقليمي؛ ليس حتى نهاية العام، على أية حال. كان المبعوثون الأتراك والقطريون والسعوديون (الدول التي ستتهم بعد ذلك بالتآمر على النظام) يتوافدون على دمشق، سراً وعلناً، يرجون أن يقوم النظام بمقابلة شعبه في منتصف الطريق، ويعدون بتقديم كل وسائل الدعم الإداري والمالي لإصلاح أحوال الدولة السورية والنهوض بالاقتصاد السوري. في الشارع العربي، السني والشيعي، طالما أصبح التصنيف ضرورياً، كان ثمة رغبة وأمل في أن يصل السوريون لحل، يضع حداً لنزيف الدماء، ويضع سوريا على طريق الإصلاح. مع نهاية 2011، كانت سوريةتأخذ انعطافة ثانية، بعد انعطافة اندلاع الحركة الشعبية في آذار/مارس.
كذب النظام المستمر على شعبه وعلى حلفائه الإقليميين، واستمرار القمع الوحشي، سيما بعد الاقتحام الدموي لحمص وحماة، وإخماد الحركة الشعبية في مدن الساحل بأقصى درجات العنف، أسس لقطيعة كاملة في العلاقات مع تركياوالسعودية ودول الخليج، إقليمياً، وإلى توجه متزايد لحمل السلاح، من جهة، وإلى تصاعد حركة الانشقاق في صفوف الجيش، داخلياً. لم تتوجه الثورة نحو التسلح بقرار من حركة سياسية معينة، ولا بتشجيع من قوة عربية أو إقليمية. ولدت جماعات مسلحة، وبصورة متشرذمة، في كافة أنحاء البلاد، سيما في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة، حيث التقاليد الإسلامية لم تزل عميقة الجذور، وحيث الشعور بالإهانة في أعمق صوره، وحيث الاغتراب عن الدولة في أشد درجاته. ولكن، هذا التوجه للتسلح لم يجد تأييداً من المجلس الوطني السوري، الذي كان يمثل المظلة الوحيدة للقوى السياسية المؤيدة للثورة آنذاك، قبل أن يولد الإئتلاف الوطني. والذي تعرفه أجهزة النظام ويعرفه حلفاؤه أن الجماعات المسلحة لم تتلق دعماً من الخارج، بأي درجة من الدرجات، طوال الفترة من نهاية 2011 وحتى صيف العام التالي، عندما أخذت تقارير في الإشارة إلى بداية تنسيق سعودي قطري تركي لمد يد العون الإغاثي والمالي والتسليحي للثوار. كان قرار التسلح، باختصار، قراراً شعبياً، كما قرار الثورة نفسها، وهو قرار رسبته سياسات النظام ووسائله القمع الفاشي التي وظفها للتعامل مع شعبه، وعجزه عن تقديم ولو دليل واحد على جدية بحثة عن مخرج سياسي للأزمة الوطنية السورية.
وهنا، تبرز أسطورة الثورة الثانية: أسطورة وجود خيار تفاوضي لم تتعامل معه قوى المعارضة بالجدية الكافية. تصور النظام في البداية أن بإمكانه بالفعل القضاء على الحركة الشعبية، وأنه لا يحتاج للتفاوض مع أحد. ولكن استمرار الحراك واتساع نطاقه، إلى جانب الضغوط المتزايدة من الحلفاء، دفعت النظام إلى اتخاذ جملة من الإجراءات، التي اتضح سريعاً أنها لا تمثل سوى إصلاحات شكلية، لا أثر حقيقاً لها على أرض الواقع. لا إلغاء قانون الطوارىء ولا تعديل الدستور، أشار إلى نهج سياسي جديد. عندما يواجه نظام حكم ما، أي نظام حكم، معارضة شعبية بالمستوى الذي واجهه النظام السوري في 2011، وفي سياق حركة تغيير وإصلاح سياسي عربية، يصبح من الضروري أن يبدي قادة النظام مستوى كافياً للقبول بالتغيير، درجة ملموسة من التغيير. في سوريا، طوال أشهر 2011، كانت دعوات التفاوض الصادرة عن بعض قادة النظام تصدر جنباً إلى جنب مع صيحات ‘ الأسد للأبد أو نحرق البلد’، التي يطلقها شبيحة النظام في شوارع المدن والبلدات السورية. كل القوى السياسية وأغلب الشخصيات العامة داخل البلاد أرادت بالفعل الحوار والتفاوض، حتى عندما أبدى المجلس الوطني تردداً في الذهاب إلى خيار التفاوض. ولكن النظام، على أية حال، لم يطرح الحوار مع المجلس الوطني، ولم يكن يريده. الجلسة الرسمية الوحيدة للحوار الوطني مع طيف واحد من السوريين تقريباً، الذي ترأسه فاروق الشرع، لم تتلوها جلسة ثانية؛ وما إن طرح اسم الشرع كأحد مخارج الأزمة، أخفي نائب الرئيس عن الأنظار كلية، ثم أخرج نهائياً من هيكل الحزب والسلطة. كان بإمكان النظام، لو كان جاداً في دعوة التفاوض، أن يعقد حواراً مع هيئة التنسيق، التي لم تخف أبداً خلافها مع معارضة الخارج ورغبتها في التوصل لتسوية تفاوضية. ولكن النظام لم يتلفت لا لهيئة التنسيق ولا لغيرها. وعندما أجبره الضغط الدولي أخيراً على الالتحاق بمفاوضات جنيف، بذل وفده كل جهد ممكن لإجهاض المسار التفاوضي ومنع تقدمه ولو خطوة واحدة باتجاه الحل. الحقيقة، أن تصور النظام للمسار التفاوضي لم يتغير مطلقاً منذ 2011: أن المقصود بالتفاوض عودة سورية إلى ما كانت عليه قبل آذار/مارس 2011.
ينظر البعض، من جهة ثالثة، إلى حدث الثورة السورية، مقارنة بما شهدته دول الثورة العربية الأخرى، مثل تونس ومصر وليبيا. في ظاهر هذه المقارنة، تبدو سوريا وكأنها غرقت في نزاع أهلي مسلح، ليس له من نهاية، وتبدو الثورة السورية، بآلام لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ الحرب الفيتنامية، وكأنها حدث مديد، لم يعد من الممكن أن يصل إلى نتيجة. حقيقة الأمر، أن ليس ثمة دولة عربية واحدة من دول الثورة يمكن أن يقال بأنها وصلت إلى نهاية الطريق، أو أن عملية الانتقال إلى الحرية والديمقراطية والعدل قد أنجزت بالفعل. كل دول الثورة العربية لم تزل في قلب المعركة على المستقبل، وكلها مهددة بالردة على مكاسب السنوات القليلة الماضية، بينما دول عربية أخرى توشك هي الأخرى أن تنفجر. في هذا التدافع التاريخي الكبير، سيتغير المجال العربي كله، أو لن يتغير. وكان قدر سوريا أن تتحمل العبء الأكبر، والأثقل وطأة، لعملية التغيير؛ ليس فقط لموقعها، فلكل من الدول العربية خصوصياتها الاستراتيجية، ولا لما تختزنه من ميراث تاريخي، فكل بلاد المشرق ترتكز إلى مواريث تاريخية عميقة الجذور، ولا حتى لتعدديتها الإثنية والطائفية، لأن العراق وتركيا وإيران لا تقل عنها تعددية؛ ولكن لسبب آخر، ربما هو الأكثر أهمية من ذلك كله: أن سوريا كـــانت ولا تــزال مفتاح النظام الإقليمي الذي ولد في نهـــاية الحرب الأولى، النظام الذي أسس لقرن كامل من الإهانة والبؤس وعدم الاستقرار.
ليس لأحد أن يتنبأ، على وجه اليقين، بما يمكن أن يؤول إليه مصير سوريا في المدى القصير، ولكن المتيقن أن النظام الفاشي في دمشق، ومهما بلغت قدرته على التدمير والقتل، ومهما كان حجم الحشد الطائفي الإقليمي، والاستبدادي الدولي، الذي يسانده، لن يستطيع أن يعيد تأسيس سيطرته على سوريا، ولن يستطيع إعادة بناء نظام تحكمه بالسوريين. أثبت النظام مصداقية بالفعل عندما هدد الشعب بالعودة إلى زمن الخضوع أو التدمير الشامل، وسيثبت السوريون مصداقية أكبر لإعلانهم بأنهم لن يركعوا بعد اليوم إلا لخالقهم.