في عام 1951 كشف صحفيان شابان بجريدة الجمهور المصري هوية “العسكري الأسود” الذي تم استئجاره لتخويف المعارضين السياسيين بين عامي 1948 و1949 في مصر.
لم يكن أحد يعلم عن حقيقته شيئًا سوى تلك الصفة التي تشير إلى لون بشرته، حتى توصل إليه الصحفيان ونشرا قصته “عباس الزنفلي” وعنوانه الكائن بإحدى المدن التابعة لمحافظة أسوان في صعيد مصر.
أصبحت القصة رمزًا للتعذيب وانتهاك الآدمية الإنسانية ضد المعارضين السياسيين، واستلهم الكاتب المصري يوسف إدريس التفاصيل وجعلها محور روايته التي حملت نفس الاسم عام 1962، وتحولت إلى فيلم سينمائي ظل ممنوعًا من العرض حتى سُمح به عام 1982.
يبدو أن الرواية استهوت الأنظمة العربية فجعلتها نواة لفكرة جيش مُستأجر يشارك جنوده في الحروب مقابل المال، ويكون ولاؤهم الوحيد للقائد الذي يدفع أكثر، على غرار ما كان يفعله “العسكري الأسود”.
جيوش الظل.. أذرع طويلة لمهمات مختلفة
بدأت القصة قبل “العسكري الأسود” بمئات السنين، ففي القرون الوسطى استخدمهم الملوك والباباوات لحماية مصالحهم وصعد نجمهم لقرون طويلة، لكن مع حلول عام 1646 (صلح وسفاليا) تراجع دورهم إلى حد كبير.
وفي القرن العشرين، عاد المرتزقة بقوة إلى المشهد ليشاركوا في حروب وصراعات في كل أنحاء العالم، وظهر ما يُعرف بـ”المرتزقة الجدد”، وفي حرب الخليج عام 1991 جندت أمريكا 1% من قواتها في صفوف المرتزقة، وعند غزو العراق عام 2003، شكل هؤلاء 15% من قوام القوات الأمريكية.
ووسط الغمامة الداكنة لسقوط البرجين في منهاتن (هجمات 11 من سبتمبر)، تناثرت قصص كثيرة ما زالت تجر أذيالها، وفي ذلك اليوم انهار مركز التجارة العالمي لتصعد تجارة جديدة، كان أحد أبطالها إريك برنس ضابط البحرية الأمريكية السابق ومؤسس شركة “بلاك ووتر” الأمنية، أكثر الشركات الأمريكية جدلًا في التاريخ الحديث.
لم يعد المرتزقة الجدد أفرادًا، بل تم تنظيمهم في شركات عابرة للحدود بنت مجدها الحربي الخاص ليفوق دخل بعضها 100 مليار دولار سنويًا، مثل شركة بلاك ووتر سيئة السمعة
وبعد التجاوزات التي ارتكبتها الشركة خلال عملها في العراق وأفغانستان، اختفى برنس لشهور، ودخلت “بلاك ووتر” منطقة رمادية وشحت أخبارها، ثم غيرت في الشعار وبدلت اسمها إلى “بلاك ووتر أكاديمي” وطُردت من العراق عام 2009.
وفي بداية مايو عام 2010 عاد اسم إريك برنس من جديد على لسان جيريمي سكاهيل أحد أكبر الصحفيين الأمريكيين الاستقصائيين، ومؤلف كتاب “بلاك ووتر: ظهور أقوى جيش مأجور في العالم”، حين تحدث عن تسجيل لبرنس يحث فيه الحكومة الأمريكية على إرسال الشركات الأمنية “المرتزقة” للقيام بمهمات خاصة في اليمن والعراق والصومال ونيجيريا.
ومع عودة برنس للظهور لاحقًا بأفكار أخرى وعناوين جديدة، دون أن يغير من جلده تمامًا، لم يعد المرتزقة الجدد أفرادًا، بل تم تنظيمهم في شركات عابرة للحدود بنت مجدها الحربي الخاص ليفوق دخل بعضها 100 مليار دولار سنويًا، مثل شركة بلاك ووتر سيئة السمعة.
هؤلاء قدموا خدمات للحكومات في كل أنحاء العالم والحال ليس بعيدًا عن الحكام العرب الذين دفعوا ثمن القتلة المأجورين بنفس راضية.
مرتزقة الإمارت.. غيض من فيض
لم تكن حرب اليمن قد بدأت بعد، حين اختار إريك برنس الخليج العربي ميدان رمايته الجديد، وهناك وجد في إمارة أبو ظبي المستقَر الأفضل، وهو ما أشارت إليه صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أواسط أغسطس عام 2010، فعدم ثقة ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد بولاء جيشه دفعه للبحث عمن يحفظ أمن البلاد مبكرًا، فعمد إلى توظيف جنرالات وجنود أجانب ضمن صفوف قوات أمنها الداخلي وحرسها الرئاسي.
مهمة المرتزقة الأجانب تمثلت – بحسب الصحيفة – في حماية القصور والأبراج الشاهقة والمنشآت النفطية ومواجهة أي تمرد داخلي من العمال الأجانب وتعذيب المعارضين وخوض الحرب في ليبيا واليمن.
وفي 14 من مايو عام 2011، نشرت “نيويورك تايمز” التفاصيل الكاملة عن قوة قوامها 800 رجل جاءوا إلى أبو ظبي على أنهم عمال بناء، لكن الصحيفة كشفت أنهم يتدربون في مدينة زايد العسكرية عن طريق شركة يديرها إريك برنس المتابع جنائيًا في أمريكا، ويخضع خمسة من كبار المسؤولين في شركته لاتهامات أمام القضاء الأمريكي.
تحدث المقال عن إنشاء شركة “Reflex Responses“أو ما تُعرف اختصارًا بـ”R2” لتدريب المرتزقة، وتمتلك الإمارات 51% من أسهمها، ويأتي غالبية المرتزقة من الجنسية الكولومبية التي يمتلك رجالها خبرة طويلة في حرب العصابات.
في أواخر العام 2015، كشفت وسائل إعلام أمريكية وبريطانية إرسال الإمارات قوة عسكرية إلى اليمن كوَّنها إريك برنس قبل أن تتسلم الإمارات إدارتها بنفسها
تزامن ذلك مع اندلاع ثورات الربيع العربي التي تُكِن لها عدة أنظمة عربية – على رأسها الإمارات والسعودية – عداءً استثنائيًا خوفًا من رياح التغيير، واستعدت أبو ظبي جيدًا لإفشال أي مطالب شعبية، فعمدت إلى زيادة جرعة التأهب الأمني وشنت حملات أمنية واسعة داخل البلاد وخارجها.
في اليوم التالي، أوردت نيويرك تايمز أن قيمة التعاقد مع شركة “ Reflex Response” بلغت 529 مليون دولار، لكن الشركة ردت بأن برنس لا يدير الشركة ولا يملكها، غير أن الصحيفة لم تنفِ بقية التحقيق المنشور.
تحركت وسائل الإعلام العالمية من كشف النيويورك تايمز، وأكدت قناة “سي إن إن” الأمريكية أن أبو ظبي تحتضن شركات عدة لتجنيد المرتزقة أشهرها “ساراسن إنترناشيونال” المتعاقدة مع مؤسس بلاك ووتر، مشيرة إلى حرص برنس على تفادي الكاميرات التي كانت تلاحقه، مثلما حدث في في معرض للسلاح في العاصمة الإماراتية.
تقرير”سي إن إن” ذكَّر أيضًا بدور الإمارت وبرنس في إنشاء قوة من المرتزقة في الصومال قوامها ألفي جندي عام 2010 بحجة كبح جماح عصابات القراصنة الصوماليين.
وفي خريف عام 2012، ذكر تقرير لـ”نيويورك تايمز” أن قوات المرتزقة في الصومال تُركت لاحقًا لمصيرها بعد أن تخلى عنها الممولون الذين باتت تؤرقهم ثورات الربيع العربي أكثر من قراصنة الصومال.
الجنرال الأسترالي عمل على تجنيد مرتزقة من دول عدة، لتدفع أبو ظبي ما بين 2800 و18 ألف دولار شهريًا للمرتزق الواحد حسب رتبته
المفاجآت في هذا الملف لا تكاد تقف عند هذا حد، ففي أواخر العام 2015، كشف وسائل إعلام أمريكية وبريطانية إرسال الإمارات قوة عسكرية إلى اليمن كوَّنها إريك برنس قبل أن تتسلم الإمارات إدارتها بنفسها.
من جهتها، أوردت شبكة فوكس نيوز الأمريكية أن القوة التي أُرسلت في مهمة غامضة إلى اليمن تتشكل من 450 مُرتزقًا أغلبهم كولومبيين، ولكن أيضًا من جنسيات أخرى كالسلفادور وبنما وتشيلي.
وفي وقت كانت فيه غالبية القوات الإماراتية تعود من اليمن بعد ارتفاع عدد القتلى في صفوفها، أوضحت نيورك تايمز في تقرير ترجمه نون بوست أن المرتزقة نُقلوا من معسكر تدريبي في الإمارات يضم 1800 جندي من أمريكا اللاتينية.
وقبيل نهاية العام 2015، كشف موقع “ميدل إيست آي” المعني بشؤون الشرق الأوسط أن الضابط الأسبق في القوات الأسترالية مايك هندمارش هو قائد النخبة الإماراتية في اليمن وقدم نفسه على أنه قائد الحرس الرئاسي الإماراتي، ويعتبر من المقربين إلى ولي عهد أبو ظبي.
الجنرال الأسترالي عمل على تجنيد مرتزقة من دول عدة، لتدفع أبو ظبي ما بين 2800 و18 ألف دولار شهريًا للمرتزق الواحد حسب رتبته، حتي أصبح ثمن القتلة المأجورين الذي دفعته أبو ظبي حتى الآن، أكثر من مليار و500 مليون دولار.
هوس الحكم يفعل أكثر من ذلك
ليست رحلة أبو ظبي مع هذا العالم المظلم إلا استمرارًا لنهج خليجي قديم أساسه الاعتماد على ضباط الأمن البريطانيين كما هو الحال في البحرين التي منحت البريطاني إيان هندرسون منصب رئيس المديرية العامة لأمن الدولة بين عامي 1966 و1998.
وفي ليبيا قصة أخري عن بنادق “بلاك ووتر” تفضحها التقارير الجديدة لوسائل الإعلام الغربية، فقد أكدت مجلة “إنتليجنس أونلاين” المتخصصة في متابعة أجهزة الاستخبارات في العالم أن إريك برنس يعمل حاليًّا لصالح عمليات إماراتية خاصة في ليبيا.
ووفقًا لمصادر المجلة، فإن الطائرات المتمركزة في قاعدة سرية إماراتية في ليبيا يقودها طيارون يوظفهم إريك برنس الذي يعمل في ليبيا رغم أنه قيد التحقيق من وزارة العدل الأمريكية في محاولة بيع عتاد عسكري في ليبيا، بمساعدة وزارة الأمن الصينية.
تتزامن المعلومات عن دور بلاك ووتر في الأحداث الجارية في ليبيا، مع أخرى تفيد بوجود المئات من عناصر هذه الشركة في الرياض بطلب من ولي العهد محمد بن سلمان، وإشرافها على استجواب وتعذيب المعتقلين من الأمراء ورجال الأعمال في فندق الريتز كارلتون، وفق ما كشفته صحيفة “ديلي ميل” البريطانية.
أشارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية إلى أن نحو عشر شركات أمنية إسرائيلية خاصة وأخرى تابعة لوزارة الأمن وجدت طريقها إلى السوق الإماراتية، لكن بأسماء غربية
هكذا أضحت السعودية “الزبون” الجديد الواعد، خاصة مع صعود محمد بن سلمان، وقبل انتقال عمليات بلاك ووتر إلى الداخل السعودي لحماية ابن سلمان ومشروعه – كما تقول الصحيفة – استعانت الرياض قبل ذلك بإيريك برنس وشركاته الأمنية لتوفير مقاتلين من أجل حربها في اليمن، في محاولة لحسم الحرب.
وأشارت صحيفة “إل تمبو” الكولومبية إلى أن 400 عنصر من الشركة، بينهم كولومبيون وأميريكيون ومكسيكيون، يقاتلون في بعض الجبهات في اليمن لمصلحة القوات السعودية، وبعضهم قتل في المعارك، خاصة في تعز.
ومع فتح الإمارات والسعودية المجال للشركات الأمنية في معارك الداخل والخارج، لم تعد بلاك ووتر اللاعب الوحيد – وإن كانت الأكثر نفوذًا حتى الآن -، فقد أشارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية إلى أن نحو عشر شركات أمنية إسرائيلية خاصة وأخرى تابعة لوزارة الأمن وجدت طريقها إلى السوق الإماراتية، لكن بأسماء غربية.
وبالنسبة للعديد من المحللين والمتابعين، يطرح التعاون المطرد من الإمارات والسعودية مع بلاك ووتر بتاريخها الملتبس وأداورها الملطخة بالدم وبشخصية مؤسسها إريك برنس الذي ينتمي إلى التيار اليميني المسيحي، الكثير من الأسئلة عن الجدوى والأبعاد والتأثيرات المستقبلية على الأحداث والأوضاع في المنطقة.
للمرتزقة مآرب أخرى
بينما يزيد عدد منظمات الارتزاق في العالم على 300 ألف منظمة تحت مسميات مختلفة مثل الشركات الأمنية والحماية وغيرها، بحسب الباحث باسل يوسف النيرب في كتابه “المرتزقة جيوش الظل” الصادر عام 2008، بلغ عدد المرتزقة الأجانب في العراق ما بين 15 و20 ألفًا، منهم ما بين 5 و10 آلاف مرتزق من جنوب إفريقيا.
كذلك كان الأفارقة – إلى جوار الأجانب – أداة طيعة في نظام العقيد الراحل معمر القذافي، فقد سلطت الأزمة الليبية الضوء على ظاهرة الارتزاق بعد أن ترددت أنباء من مصادر مختلفة عن استخدامهم في جرائم وحشية قاموا بها في مختلف المناطق التي شهدت احتجاجات ضد المدنيين.
وفي سوريا، يسير بشار الأسد على نهج السلاطين حين استخدموا المرتزقة لأن تعداد جيوشهم لا يكفي لمواجهة خصومهم، فقد مثلت الشركات العسكرية الخاصة جيش موسكو الآخر في سوريا، ولم تخل التقارير الأجنبية عن مقتل متعاقدين مع روسيا من الشركات الخاصة في الاشتباكات.
ورغم عدم وجود تصريحات رسمية تشير إلى ذلك، يرى بعض المراقبين أن روسيا استعانت بمصادر خارجية إضافية مثل الشركات العسكرية الخاصة ذات القدرات التكتيكية الحربية، وتلك التي اعتمدت عليها بالفعل منذ عام 2013، مشيرين إلى استخدامها “الفيق السلافي” في سوريا الذي أرسلته مجموعة “توران” الأمنية، بالإضافة إلى مجموعة “فاغنر” التي قيل إنها قامت بعمليات أمنية في أوكرانيا، وهي واحدة من أكبر الشركات الروسية العاملة في سوريا التي يعتبرونها مسؤولة عن استقطاب وتجنيد مئات المرتزقة الروس لحساب موسكو في الدول العربية.
هكذا استخدمت الأنظمة العربية “العسكري الأسود”، لكنهم أغفلوا مشهد الذروة الذي انتهي بوصول المدعو “عباس الزنفلي” إلى حالة الجنون، حيث التوحش الكامل الذي اندفع به في العواء والهبهبة، وغرس أظافره وأسنانه في كل من حوله، منتهيًا بالانقضاض على لحم ذراعه نفسه، مواصلًا النهش دون شعور بالألم، كأنما كان يدفعه الألم إلى مزيد من الهياج وغرس الأسنان في اللحم.
كانت تلك النهاية ذروة البُعد التمثيلي في تصوير “العسكري الأسود” الذي أحاله السرد القصصي إلى إمثولة دالة تنطق ببعض دلالاتها المباشرة امرأة عجوز من الجيران حضرت على أصوات الصراخ الفظيع مع الجارات، ولم تملك سوى أن تهمس للواقفة جوارها، وهي ترى ما انتهى إليه حال “الزنفلي”: “لحم الناس يا بنتي، اللي يدوقه ما يسلاه يفضل يعضّ إن شاء الله ما يلقاش إلا لحمه“.