تطور جديد تشهده الساحة السورية في أعقاب إسقاط طائرة إسرائيلية من طراز “إف-16” في منطقة الجليل شمال فلسطين المحتلة غداة تنفيذها غارة داخل العمق السوري، أمس السبت الـ10 من فبراير/شباط الحالي، فيما اعتبره البعض إرساءً لقواعد اشتباك جديدة بين الكيان الصهيوني من جانب، والنظام السوري المدعوم روسيًا وإيرانيًا من جانب آخر.
يأتي هذا التطور وسط أجواء ملتهبة من الأحداث المتسارعة في المنطقة، بدءًا بقصف قوات التحالف الدولي لبعض الميليشيات التابعة لقوات النظام السوري، مرورًا إلى ما يثار بشأن استهداف تل أبيب لبعض الأهداف في لبنان وقطاع غزة، وصولاً إلى تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من تمركز إيران العسكري في سوريا خلال زيارته لموسكو مؤخرًا.
روايات متضاربة
تباينت رواية النظام السوري والميليشيات الإيرانية في تفسيرها للشرارة الأولى التي أدت إلى إسقاط الطائرة الإسرائيلية عن تلك التي ساقتها تل أبيب، حيث تشير الرواية السورية إلى أن “العدو الإسرائيلي قام فجر اليوم (أمس) بعدوان جديد على إحدى القواعد العسكرية في المنطقة الوسطى حيث تصدت له وسائط الدفاع الجوي وأصابت أكثر من طائرة”، و”أن العدو الإسرائيلي عاود عدوانه على بعض المواقع في المنطقة الجنوبية وتصدت له وسائط دفاعاتنا الجوية وأفشلت العدوان”، بحسب وكالة الأنباء التابعة للنظام “سانا” نقلاً عن مصدرٍ عسكري في قوات النظام.
وفي المقابل قالت الرواية الإسرائيلية إن الجيش الإسرائيلي رصد طائرة إيرانية من دون طيار تخترق مجاله الجوي فجر أمس السبت، مما دفع طائرة “أباتشي” إسرائيلية لإسقاطها فورًا، ثم كانت غارة جوية بعدها على أهداف إيرانية داخل سوريا، وهي الرواية التي كذبتها ما تسمى بـ”غرفة عمليات حلفاء سورية” – تضم ممثلي عن حزب الله والحرس الثوري الإيراني – التي قالت إن طائرة حربية إسرائيلية استهدفت قاعدة للطائرات المُسيرة في مطار التيفور العسكري بريف محافظة إدلب، والطائرة المُسيرة التي ضربتها “إسرائيل” لم تدخل المجال الجوي لفلسطين المحتلة، بل كانت تحلق في البادية السورية.
التصعيد بين إيران و”إسرائيل” يصب في النهاية في مصلحة الروس، إذ إن إضعاف الدور الإيراني داخل سوريا من شأنه أن يوسع هوامش دور موسكو
تطور جديد تشهده سوريا بعد استهداف الطائرة الإسرائيلية
تل أبيب تصعد
في أعقاب إسقاط طائرته شن جيش الاحتلال سلسلة من الغارات الجوية استهدف عددًا من المواقع التابعة للنظام السوري في درعا وريف دمشق، كما استهدفت موقعًا للدفاع الجوي التابع للفرقة الرابعة بالقرب من بلدة يعفور في منطقة الديماس في ريف دمشق الغربي، كذلك تدمير الفوج 150 في منطقة تل الصبا، وموقعًا آخر تابعًا لقوات النظام الجوية في اللواء 75 في جبل المانع بمنطقة الكسوة في ريف دمشق الجنوبي، بخلاف موقع للواء 104 التابع للحرس الجمهوري الذي ينتشر بين منطقتي عين الخضراء والدريج شمال غرب دمشق.
جيش دولة الاحتلال أعلن استهداف طائراته لما يقرب من 12 موقعًا تابعًا للنظام السوري منها 4 مواقع تابعة للميليشيات الإيرانية، فيما قال نائب قائد القوات الجوية الإسرائيلية تورمر بار، إن الضربة الإسرائيلية في سوريا هي الأوسع والأكثر فاعلية منذ 1982.
سياسيًا.. أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عددًا من الاتصالات بموسكو وواشنطن في محاولة لتجنب التصعيد في المنطقة، متهمًا طهران بزعزعة الأمن في منطقة الشرق الأوسط وإثبات سيطرتها الكاملة على القرار في سوريا، كما أعطى أوامره لوزراء حكومته بعدم التعليق على أحداث الشمال.
من جانبها قالت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر ناورت: “الولايات المتحدة قلقة للغاية من تصاعد العنف على حدود “إسرائيل” وتدعم بقوة حق “إسرائيل” السيادي في الدفاع عن نفسها”، مضيفة أن تصاعد التهديد المتعمد الذي تمثله إيران وطموحها لاستعراض قوتها وهيمنتها يعرض للخطر كل الشعوب في المنطقة من اليمن إلى لبنان.
تباينت رواية النظام السوري والميليشيات الإيرانية في تفسيرها للشرارة الأولى التي أدت إلى إسقاط الطائرة الإسرائيلية عن تلك التي ساقتها تل أبيب
وطهران ترد
نفى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، المزاعم الإسرائيلية بشأن تحليق طائرة إيرانية في الأجواء الفلسطينية، واصفًا إياها بأنها “مثيرة للسخرية”، مؤكدًا أن سوريا بوصفها بلد مستقل لديها الحق بالدفاع عن سيادة أراضيها ومواجهة أي اعتداء خارجي، منوهًا إلى أن إيران توجد بشكل استشاري في سوريا بطلب من حكومة الأسد.
وفي المقابل كان بيان حزب الله الأكثر حدة، حيث حمل ملامح تخلي النظام السوري عن سياسة عدم الرد التي كان ينتهجها طيلة السنوات الماضية، إذ أعلن الحزب أن إسقاط مقاتلة من طراز إف-16 هو إعلان “بداية مرحلة إستراتيجية جديدة تضع حدًا لاستباحة الأجواء والأراضي السورية”، مضيفًا أن “تطورات اليوم تعني بشكل قاطع سقوط المعادلات القديمة”.
من جهة أخرى، اعتبرت وزارة الخارجية اللبنانية “السياسة العدوانية التي تمارسها “إسرائيل” تهدد الاستقرار في المنطقة”، مطالبة “الدول المعنية بكبح جماح “إسرائيل” لوقف اعتداءاتها”، منندة في بيان لها بالغارات الإسرائيلية على سوريا.
الوزارة في بيانها أشارت إلى تعليمات أرسلها وزير الخارجية جبران باسيل، إلى بعثة لبنان الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك لتقديم شكوى إلى مجلس الأمن بحق دولة الاحتلال لإدانتها وتحذيرها من مغبة استخدامها الأجواء اللبنانية لشن هجمات على سوريا، كما أفادت قيادة الجيش اللبناني في بيان السبت بالعثور “على بقايا صاروخين مجهولي النوع والمصدر” في قريتين في منطقة البقاع (شرق) وحاصبيا (جنوب).
تهدئة روسية
حرصت موسكو في البداية على التزام الصمت حيال هذا التصعيد رغم ما يحمله من دلالات، وهو ما أثار عددًا من التساؤلات عن بواعث هذا الموقف غير المتوقع، إلا أنها في نهاية الأمر اكتفت ببيان صادر عن خارجيتها طالب الجميع بضبط النفس تجنبًا لمزيد من تفاقم الأوضاع.
البيان حث جميع الأطراف المعنية على تجنب أي خطوات من شأنها أن تؤدي إلى تردي الوضع، مضيفًا “من الضرورة الاحترام الكامل لسيادة وسلامة أراضي سورية وغيرها من دول المنطقة، ومن غير المقبول على الإطلاق خلق تهديدات على حياة وأمن العسكريين الروس الموجودين في سورية تلبية لدعوة من حكومتها الشرعية من أجل مساعدتها في الحرب ضد الإرهابيين.
موسكو في بيان خارجيتها أكدت أن أكثر ما يبعث على القلق حيال هذا التصعيد هو خطر تصاعد التوتر داخل مناطق تخفيف التصعيد في سوريا، التي أصبح إنشاؤها عاملاً مهمًا في الحد من العنف داخل الأراضي السورية، مشيرة أن القوات الحكومة الروسية تراقب الترتيبات القائمة لضمان التشغيل الدائم لمناطق تخفيف التصعيد في جنوب غرب البلاد.
تهدف “إسرائيل” إلى تقليل النفوذ الإيراني في سوريا
من أسقط الطائرة الإسرائيلية؟
تصاعدت بورصة التكهنات عن هوية من أسقط طائرة “إف-16” الإسرائيلية أمس السبت، فهناك من أشار إلى إسقاطها عبر واحدة من منظومات الدفاع روسية الصنع، فيما ذهب آخر إلى أن العملية تمت من خلال كمين إيراني لاستدراج سلاح الجو الإسرائيلي، فيما أشار ثالث إلى أن إسقاط الطائرة جاء بصاروخ سوري مضاد للطائرات.
التقارير الواردة عن مصارد عسكرية تشير إلى أن النظام السوري ليس لديه سوى عدد محدود جدًا من أنظمة الدفاع الجوي الحديثة، ومن الأنظمة بعيدة المدى لديه فقط “إس – 200″، وهي لن تستطيع حماية سوى مناطق محددة من الأراضي السورية، هذا بخلاف أنظمة دفاع جوي حديثة بعيدة المدى من طراز “إس – 400″ و”إس – 300” جلبتها القوات الروسية.
الخبراء يستبعدون تورط موسكو في هذه العملية نظرًا إلى الاتفاقات عالية المستوى من التنسيق بين روسيا و”إسرائيل” في المنطقة التي بموجبها يصبح من الصعب قيام الجانب الروسي بمثل هذه العملية، خاصة أنه يعرف تحديدًا أهدافه من خلال وجوده داخل سوريا التي ليس من بينها قطعًا تهديد علاقته بتل أبيب.
نفى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، المزاعم الإسرائيلية بشأن تحليق طائرة إيرانية في الأجواء الفلسطينية، واصفًا إياها بأنها “مثيرة للسخرية”
تغير قواعد الاشتباك
تغير نوعي ربما تحدثه التطورات الأخيرة على خريطة المواجهات في سوريا، غير أنه من المستبعد – وفق بعض المراقبين – أن ينطوي على ذلك تفاقم للتصعيد الحاصل بالصورة التي تعيد رسم تلك الخريطة مستقبلاً، فما حدث ليس أكثر من اشتباك للرد على التوغل الإيراني، إذ يشير محللون إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية وما سبقها داخل العمق السوري تهدف إلى إبعاد المليشيات الإيرانية الموجودة في سورية عن حدودها الشمالية من جانب، وإضعاف النفوذ الإيراني داخل سوريا بالكلية من جانب آخر.
التصعيد بين إيران و”إسرائيل” يصب في النهاية في مصلحة الروس، إذ إن إضعاف الدور الإيراني داخل سوريا وإرهاقه من خلال مواجهات، بعضها سياسية، عبر ضغوط هنا وهناك، والأخرى عسكرية، من خلال العمليات التي تستهدف مناطق تمركزها فوق الأراضي السورية، من شأنه أن يوسع هوامش دور موسكو التي ينتاب علاقتها بطهران بعض التوتر بسبب تباين وجهات النظر بشأن سير العمليات داخل سوريا ومسارات حلحلة الأزمة عبر الخيارات السياسية، بدءًا بجنيف مرورًا بأستانة وصولاً إلى سوتشي.
وهكذا فإن الأيام القادمة ربما تحمل مواجهات بين أطراف متعددة، تكون فيها طهران الأكثر تضررًا، إذ إن التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير وتفعيل الضربات الجوية ضد أهداف إيرانية بعد إسقاط الطائرة الإسرائيلية تعني أن ملف التوغل الإيراني داخل سوريا أصبح على الطاولة، إسرائيليًا وأمريكيًا، في الوقت الذي قد تقف فيه موسكو في مكان أبعد مما يأمله الإيرانيون.