بلغ بنا التعب مبلغه بعد حلول المساء، فقد كان إرهاق الرحلة الطويلة لا يزال يسيطر علينا رغم ساعات الراحة التي أخذناها بالفندق قبل الجولة الرائعة التي شملت المتحف والحديقة الوطنية إلى جانب مركز المال والأعمال.
قلب نيروبي صاخب في الأمسيات وتشكل الأندية الليلية ملاذًا مفضلًا للشباب الكيني ولزوار المدينة من الجنسيات الأوروبية والإفريقية، لكن يفضل دائمًا عدم الابتعاد عن منطقة الوسط بعد حلول الظلام لانتشار العصابات وحوادث النشل كما في بعض المدن الكبرى حول العالم، لذلك على الزائر اتباع تعليمات السلامة وعدم التجول في المساء إلا برفقة صديق من أهل البلدة رغم أن السلطات اتخذت إجراءات أمنية إضافية في جميع مراكز التسوق الراقية حول العاصمة والمدن الكبرى.
زيارة جامعة نيروبي
في الصباح، وبعد أن تناولنا إفطارًا خفيفًا من الجبن والبيض احتسينا كؤوسًا من الشاي الكيني طيب المذاق، ثم اقترح أحد الشباب أن نزور رئاسة جامعة نيروبي التي تبعد عنا نحو 20 دقيقة فقط سيرًا على الأقدام حسب “خرائط جوجل”.
بالفعل تحركنا مستمتعين بالجو اللطيف والنسمات الشتوية الرائعة تلاطف وجوهنا، والجو غائم معتدل، كما انتبهنا إلى أن الأرض مسطحة في أماكن ومرتفعة في أماكن أخرى، وصلنا رئاسة الجامعة في وقت قياسي إذ لم يأخذ منا الطريق سوى 16 دقيقة فقط.
لكن المفاجأة غير السارة التي كانت في انتظارنا أنه لا يسمح للزوار بدخول جامعة نيروبي إلا بإذن مسبق من أمن الجامعة، وربما يفسر ذلك بأحداث العنف التي تشهدها الجامعة من وقت لآخر، حيث تُتهم حكومة أوهورو كينياتا باستخدام العنف الفرط ضد الطلاب المعارضين.
وتمتد جامعة نيروبي على مساحة خضراء ضخمة، فهي أكبر مؤسسات التعليم العالي الكينية، يعود تاريخها إلى العام 1956 عندما كانت جزءًا من جامعة شرق إفريقيا التي انقسمت إلى جامعة ماكيريري في كمبالا، وجامعة دار السلام في تنزانيا وجامعة نيروبي في كينيا.
يبلغ عدد طلاب جامعة نيروبي نحو 58000 ألف طالب منهم 42000 طالب جامعي والبقية يدرسون ببرامج الدراسات العليا، وتحتوي الجامعة على 15 كلية ومعهد للدراسات الإفريقية.
بعد زيارتنا للجامعة من أسوارها الخارجية ومشاهدة مجمع الدراسات العليا، كان لدينا موعد مع أحد الأصدقاء الكينيين يعمل في مجال التكنولوجيا، فحكى لنا أن شركات التكنولوجيا الناشئة في كينيا حققت ما يربو على 129 مليون دولار عام 2016، بزيادة قدرها 17% عن العام الذي سبقه، وأن كينيا تجتذب ثاني أكبر عدد من الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا بعد جنوب إفريقيا.
وأفادنا إليكس بأن نيروبي تحتل مرتبة متأخرة (186) في تصنيف “ميرسر” لجودة المعيشة في المدن لعام 2017، مما يسلط الضوء على موضوعات مثل الاختناق المروري وسوء جودة المواصلات العامة ومستويات الجريمة ومشكلة السكن وإمكانية الالتحاق بالمدارس الجيدة وإمدادات الكهرباء التي تتوفر في العاصمة بشكل متقطع، حيث تنتظر كينيا اكتمال سد النهضة الإثيوبي لتشتري كمية من الكهرباء تسد حاجة العاصمة والمدن الكبرى بالبلاد.
السياحة والزراعة عمودا الاقتصاد الكيني
تُعد كينيا الوجهة المفضلة عندما يتعلق الأمر برحلات السفاري في إفريقيا، وفي عام 2011 بلغت أعداد السياح ذروتها بقرابة مليوني زائر، غير أنها شهدت هبوطًا ملحوظًا بين عامي 2013 و2014 بسبب الهجمات الإرهابية التي دفعت بعض الدول الغربية إلى فرض قيود وتحذيرات سفر إلى كينيا.
لكن الحكومة الكينية تبذل جهودًا مضنية لإنقاذ القطاع من التدهور، حيث وعد الأمين العام للمجلس السياحي “نجيب بلالا” أن القطاع السياحي سيشهد تغيرات إيجابية قادمة، مشيرًا إلى أن تركيزه في الوقت الراهن – كأمين المجلس – يتمحور حول الأمن وتطوير المنتجات السياحية وتسويقها.
وكان من المتوقع أن يساهم قطاع السياحة والسفر في نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.2% في كل سنة إلى نحو 314 مليار شلن خلال عام 2024. (الدولار = 102 شلن كيني).
وللقطاع الزراعي في كينيا أهمية قصوى في اقتصاد الجمهورية، إذ إن نحو 15-17% من إجمالي مساحة الأراضي الكينية تتمتع بالخصوبة وهطول الأمطار الكافية لإتمام العملية الزراعية، كما أن ما يقدر بـ7- 8% من تلك الأراضي تعتبر صالحة للزراعة من الدرجة الأولى، ولذلك فإن ما يقارب من 75% من الكينيين يكتسبون معيشتهم من المزارع في عام 2006.
لقد ساهمت الزراعة بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي لكينيا، ففي عام 2005 كانت الزراعة بالإضافة إلى صيد الأسماك والغابات تمثل نحو 24% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ونحو 50% من إيرادات الصادرات.
فهي – أي كينيا – منتج رئيس للشاي والقهوة، ولديها خبرة طويلة في تصدير الفواكه والخضراوات الطازجة مثل الملفوف والبصل والمانجو مع البطاطس والموز والفول والبازلاء، بالإضافة إلى تصدير اللحوم الحية والمجمدة ومنتجات الثروة الحيوانية بأنواعها.
الصباح في نيروبي
إنها السادسة والنصف صباحًا، وها هي الشمس تبزغ من الأفق الشرقي فيُخيّل إليك أنها جوهرة قرمزية كبيرة تتألق بلمعانٍ فريد، وإذ تعلن فجر يوم جديد، تخترق أشعتها النوافذ الزجاجية لأبنية المكاتب الشاهقة في قلب العاصمة، مضفيةً عليها لونًا ذهبيًا رائعًا.
عصافير ملونة تمرح بين الأغصان، وتحت الأشجار الضخمة الوارفة تسرح طيور الطاووس في خيلاء، تتباهى بألوانها الزاهية مستمتعة بالحماية التي توفرها السلطات.
وعلى مقربة من نيروبي تبدو محميات طبيعية باذخة الخضرة والجمال، في كل صباحٍ تستيقظ المدينة بكل همة ونشاط في طبيعة فاحشة الثراء، رحبة لا حدود لها ولألوانها، فالأشجار مثقلة بالأغصان يتنقل عليها بخفة طير المرابوت وكأنه يشارك سكان نيروبي همومهم وأفراحهم، فهو يحلق بحريّة من دون أن يقلق من صياد ماهر يتربص به.
توغلنا في الأفق نحو الجنوب الجغرافي حتى وصلت إلى نيفاشا عروس الجمال والخيال الجامح، المدينة التي احتضنت المفاوضات الشاقة بين حكومة السودان والحركة الشعبية المتمردة حتى أثمرت في العام 2005 عن اتفاقية السلام الشهيرة التي تحمل الاسم ذاته، تطل المدينة على بحيرة نيفاشا مباشرة واشتهرت منذ القدم بالزهور والورود التي تصدرها كينيا إلى الخارج.
على مشارف نيفاشا يتراءى لنا من بعيد سرب من الطيور، وقطعان من الجاموس الإفريقي المتميز، وأسود رابضة قرب الجداول والترع، وزرافات تعبر الطرقات بزهوٍ وخيلاء، تسابُق الحمار الوحشي نحو الأشجار الباسقات، وجبال كساها الربيع حلله، وهضابٍ خضراء، وحقولٍ من الورود الصفراء والحمراء تتراقص على وقع الرذاذ الخفيف وصوت الطبيعة المتموج.
في غابات نيفاشا يعيش جميع أنواع الحيوانات والطيور والزواحف البرية، ويتجلى فيها التناقض الكبير بين الطبيعة والشعب، الشعب الغارق في وحل الفقر وأوكار الفاقة، وطول مأساة الإنسان الإفريقي الذي لم يجد منذ خروج الاستعمار إرادة حقيقة من أجل القضاء على الفقر.
وتضم المدينة معظم القبائل والقوميات الكينية وتتمتع باهتمام كبير؛ مما جعلها معقل السياسة والسياحة ومدينة نظيفة فائقة الجمال، حيث الشوارع نظيفة والمرافق العامة تقدم خدمات معقولة إلى حدٍ ما والبنية التحتية متكاملة، وفي وسطها يتربع المسجد الجامع الذي بني بطريقة أفروعربية معروفة في شرق إفريقيا.
استمتعنا بيومنا في نيفاشا التي تبعد ما يقارب 90 كيلومترًا عن العاصمة نيروبي التي عدنا إليها مع مغيب الشمس لنأخذ قسطًا من الراحة حيث نستعد صباح اليوم التالي للرحيل ومغادرة العاصمة الخضراء الجميلة.