لا تنجو الإدارات الأمريكية في الغالب من كشف الأستار السياسية على يد صحفيين أو مؤرخين أو مسؤولين سابقين وحتى شخوصها أنفسهم، وذلك من خلال مقالات أو تقارير صحفية أو سير ذاتية أو تصريحات لمسؤولين سابقين في فترة تولي الإدارة أو بعدها، إلا أن إدارة الرئيس ترامب تعرضت لكل ذلك في فترة قياسية لا تتجاوز العام، من الإقالات والاستقالات المبكرة التي ترافق بعضها بتصريحات عن سخط تجاه الإدارة، إلى التسريبات التي يكاد لا يخلو أسبوع واحد منها، ويرجح ألا يكون آخرها كتاب “النار والغضب: داخل البيت الأبيض لترامب” للصحفي في نيويورك تايمز مايكل وولف.
سجل الكتاب انتشارًا واسعًا وصل إلى وضع نسخ منه في مكان رفوف السجائر والحلوى بجانب صناديق الكاشير في متاجر وول مارت في الولايات المتحدة، وانتشار نسخة “بي دي إف” مجانية منه ترجمت إلى عدة لغات في فترة قياسية، حتى إن كتابًا لمؤلف كندي من إصدار 2009 يحمل نفس النصف الأول من اسم “النار والغضب” بدأ يباع بأعداد كبيرة لمشترين جهلوا الاسم الكامل لكتاب وولف، وقدرت شبكة بلومبيرغ أن تصل أرباح وولف من كتابه إلى 7.4 مليون دولار، بعد مبيع أكثر من 380 ألف نسخة ورقية وإلكترونية.
لا شك أن تناول الكتاب لسيرة فاضحة لرئيس أمريكي كافٍ بحد ذاته لانتشار الكتاب، إلا أن شخصية ترامب وسلوكه المثيرين للجدل أضافا إلى جاذبية الكتاب، فضلًا عن تراكم الجدل والفضائح والقصص الخبرية المثيرة التي جعلت ترامب محورًا لاهتمام الإعلام في أمريكا والعالم؛ الأمر الذي كان وما زال ترامب مهووسًا بأحد جوانبه وهو الشهرة.
وهنا يجدر تسليط الضوء على أحد أهم العوامل التي ساهمت في إيصال الرئيس الأمريكي الـ45 إلى هذا المستوى من الشهرة وهي فورة المعسكر الليبرالي الأمريكي التي تلت صدمته بفوز ترامب بمنصب الرئاسة في نوفمبر 2016.
لماذا انتشر الكتاب؟ مراجعة لسجل الإعلام الليبرالي
أشعل الأخذ والرد بين الرئيس ترامب والإعلام الليبرالي دورة اتصالية شديدة الكثافة، من ردود الفعل الغاضبة على فوزه بالرئاسة الذي لم يتوقعه الإعلام، وردود ترامب على هذا الغضب عبر تغريداته، إلى انشغال الإعلام بهذه التغريدات، وانخرط بهذه الدائرة عدد كبير من السياسيين والإعلاميين والمشاهير حول العالم، وتتربع على قمة الإعلام الليبرالي المقصود صحف نيويورك تايمز وواشنطن بوست وقناة سي إن إن.
تدخل مهاجمة الإعلام في مصلحة ترامب وذلك لأن الدورة الإعلامية تناسبه
في خطاب له مطلع العام الماضي، أشار الكاتب في صحيفة نيويورك بوست مايكل غودوين إلى أن اليسار الليبرالي الأمريكي لم يتعرض منذ انخراطه في عالم الصحافة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى ضربة أسوأ من التي تعرض لها عام 2016، وكما يحدد علم النفس مراحل للحزن فقد مرت التغطية الإعلامية لترامب بمراحل.
في البداية تعامل الليبراليون مع ترامب على سبيل النكتة، إلا أنهم سرعان ما أخِذوا بموجة غضب عارمة فور انتصار ترامب بالرئاسة، خاصة لأن معركته مع الإعلام كانت عاملًا رئيسيًا في انتصاره، حاول الإعلام الليبرالي التعافي من الهزيمة من خلال المطالبة بمحاكمة ترامب دون أي دليل، ظانًا أن باستطاعته الإطاحة بالشخصية المشهورة التي أوصلها للرئاسة، وكما يقال: قد يكون من السهل استدعاء الشيطان، ولكن إبعاده مرة أخرى أمر مختلف تمامًا.
تلاقي رسائل ترامب رواجًا لوجود أدلة واضحة على تحيز الإعلام ضده، لا يتوانى الإعلام الليبرالي بإطلاق تغطية محمومة لنسب القبول المتدنية القياسية للرئيس الأمريكي، مثل استطلاع إي بي سي نيوز وواشنطن بوست في يوليو 2017 الذي أعطى النسبة الأقل منذ 70 عامًا وهي 36%، إلا أن الاستطلاع نفسه فشل بالتنبؤ بالرئيس الأمريكي الخامس والأربعين بنقطتين مئويتين في نوفمبر 2016.
لم يبدِ الإعلام الليبرالي الحماسة نفسها في نشر نتائج الاستطلاع القائل بتأييد 79% من الناخبين الجمهوريين لقرار ترامب إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، واستطلاع آخر أظهر أن 60% من الناخبين الجمهوريين لم ينزعجوا من اللقاء المثير للجدل الذي جمع ابن الرئيس دونالد ترامب جونيور بمحامٍ روسي وعد بإطلاق حملة لتشويه سمعة هيلاري كلينتون في 2016.
كما ضجت نيويورك تايمز وواشنطن بوست وسي إن إن بشهادة المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” جيمس كومي أمام مجلس الشيوخ في يونيو 2017، إلا أنها لم تشِر إلى عدم وصفه سلوك ترامب بـ”عرقلة العدالة” الذي يشترط لمحاكمة ترامب.
تدخل مهاجمة الإعلام في مصلحة ترامب وذلك لأن الدورة الإعلامية تناسبه، فيصف ترامب في تغريداته مذيعي برنامج “مورننغ جو” على شبكة “إم إس إن بي سي” بـ”ميكا المجنونة قليلة الذكاء” و”جو المختل نفسيًا”، ويصف سي إن إن بـ”شبكة الخداع” و”شبكة الأخبار المزيفة”.
أوجد التراشق بين ترامب والليبراليين شراهةً لمزيد من المواد الخبرية والفضائح بغض النظر عن طبيعتها وموثوقيتها وأهميتها السياسية
يرد الإعلام بوصفه بـ”الصبياني” و”مشجع العنف” و”التافه” و”عدم الرئاسي”، ويصفه كوميدي ليبرالي بأنه “مدير رياض أطفال يتهم طفلًا بلكمه في وجهه”، وتطالب الممثلة الأمريكية ميا فارو بـ”وقف هذا الكلام الفارغ”، في حين تقول كاتبة سلسلة أفلام هاري بوتر الشهيرة جي كي رولنغ إن الصمت أفضل رد عليه.
يرد ترامب بمزيد من الهجوم الذي يواجهه الإعلام بهجوم أكثر، وعن غير قصد يتحول الإعلام الغاضب والمشاهير إلى ألعوبة بيد ترامب الذي يحول اشمئزازهم منه إلى مزيد من الرسائل عن تحيز الإعلام ضده وبعد المشاهير عن الحقائق، وفي ظل عدم وجود أدلة على احتمال محاكمة ترامب أو استقالته، ربما يخرج من سنواته الأربعة منتصرًا على الإعلام الليبرالي الذي لاعبه كمسرح للدمى.
ورغم أن الأخذ والرد بين المعسكر الليبرالي وترامب ليس مباراة صفرية ولم يتمخض حتى الآن عن تهديدٍ مباشر لترامب الذي يتملص من فضائحه غير المسبوقة، إلا أن هذا التراشق المتبادل بات حديث العالم كله، وقد بذل الإعلام الليبرالي وحده تغطيةً إعلاميةً لترامب قدرت في فترة الحملات الانتخابية فقط بأكثر من ملياري دولار.
أضف إلى ذلك التحشيد الصريح للمعسكر الليبرالي لأتباعه على لسان السياسيين والإعلاميين الذين ينشغلون في الفترة الراهنة بالدعوات للتصويت في انتخابات 2019، ومع شمول المناوشات التي حظيت بأعلى نسب المتابعة في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي مواضيع تخص الساحة السياسية الأمريكية والعالمية على حد سواء، باتت أنظار العالم مسلطة على ترامب خاصةً بعد انخراط الإعلام والمشاهير حول العالم في هذه اللعبة.
أوجد التراشق بين ترامب والليبراليين شراهةً لمزيد من المواد الخبرية والفضائح بغض النظر عن طبيعتها وموثوقيتها وأهميتها السياسية، ومن هنا سجل كتاب “النار والغضب” انتشاره غير المسبوق بمادته الدسمة التي ربما لم تضِف الكثير من المعلومات إلا أنها حولت كثيرًا مما كان يعتقد أنه مادة صحافة صفراء إلى ما يشبه الحقائق.
بانون بطلًا للكتاب
يجذب “النار والغضب” القارئ منذ البداية، ويغوص به في دراما رئاسة ترامب، بدءًا بالعشاء بين مدير فوكس نيوز روجر إيلز وكبير إستراتيجيي ترامب ستيف بانون قبل أسبوعين من تولي ترامب الرئاسة، ويغطي قرابة العام منذ الأيام الأولى للمرحلة الانتقالية بأسلوب مشوق.
لم يسلم أي فرد من إدارة ترامب من كتاب وولف
لا يشرح الكتاب أيًا من القرارات الكبرى المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية، ولا يحلل أسلوب ترامب في إدارة البلاد، فهو يركز على الشخصيات التي تقيم في البيت الأبيض، وعلى الرغم من أن مزاعم الكتاب عن سلوك دونالد ترامب ملأت الصفحات الأولى في الصحف والمواقع إلا أن ستيف بانون كان البطل الحقيقي للكتاب منذ بدايته التي يعبر عنها وولف في الصفحات الأولى للكتاب بقوله: “وفور قدومه أمسك بانون بزمام الحوار”، واصفًا لحظة قدوم بانون إلى العشاء مع إيلز، وقد أقر بانون نفسه بأنه عاون وولف في تأليف الكتاب.
كان من أهم نقاط قوة الكتاب تسليطه الضوء على الخلاف بين ترامب وبانون، خاصة لحظة اتخاذ ترامب قرار توجيه الضربات الجوية على سوريا، الذي لم يرق لبانون صاحب الرسالة القومية الانعزالية التي اتسمت بها الحملة الانتخابية لترامب التي أدارها بنفسه، وبالمثل، يشير الكتاب إلى الخلاف بين بانون و”جارفانكا” الاسم الذي أطلقه بانون على ثنائي ابنة ترامب إيفانكا التي وصفها بـ”غبية مثل الحجر” وزوجها جاريد كوشنر الذي نعته بـ”كبير الخدم”.
فضائح وقنابل “النار والغضب”
لم يسلم أي فرد من إدارة ترامب من كتاب وولف، فترامب “طفل لا يمكنه ضبط نفسه” و”ذو مزاج بركاني” يحب أن يأوي إلى فراشه في 6:30 حيث يتناول التشيزبرغر ويتابع قناة الأخبار ويهاتف رفقاءه المليارديرات للشكوى إذا أذت سي إن إن مشاعره، أما مستشارته كيليان كونوي فيصفها الكتاب بمهووسة كاميرات الأخبار، كما يصف المتحدث السابق باسم البيت الأبيض أنتوني ساكراموتشي بـ”الوقح الذي يروج لذاته”.
أضاف الكتاب إلى الفضائح الأخلاقية للسياسيين الأمريكان التي انتشرت في العامين الأخيرين، مثل حديثه عن رغبة ترامب في مضاجعة زوجات أصدقائه، كما ساق الكاتب تفاصيل صادمة عن بعض الحوادث المعروفة مثل وصفه بالتفصيل إملاء ترامب بيانًا ينفي لقاء ابنه المصيري مع محامٍ روسي في ترامب تاور بشهر يونيو 2016.
تشير مراسلة صحيفة آيريش تايمز في واشنطن إلى أن المنهجية التي اعتمدها وولف في كتابه كانت إشكالية منذ البداية
ووراء صورة الرئيس الأمريكي الهمجي والمرح أحيانًا، قدم وولف صورة لشخص عاطفي جدًا وعفوي يفتقر إلى العطف والحنان يتألم بشدة من تعامل الإعلام معه، ويتسم بالتفاؤل الساذج والمدهش في آن معًا حتى في أحلك الظروف.
الكاتب معروف بالمبالغة
يعد مؤلف الكتاب مايكل وولف شخصية إشكالية، فقد رافق جدال كتابه الصادر عام 2008 عن روبرت مردوخ، حين وصف بأنه بالغ في سرد الحقائق، وبالمثل تمكن القراء في الساعات الأولى لنشر “النار والغضب” من الإشارة إلى أخطاء واضحة، اعتمد الكاتب على سبيل المثال رواية زعمت عدم معرفة ترامب من السيناتور الجمهوري ورئيس مجلس الشيوخ السابق جون بينر الذي لعب في الحقيقة الغولف مع ترامب سابقًا كما ذكره ترامب عدة مرات في تغريداته.
في مقدمة الكتاب، يشرح وولف هدفه ومنهجيته التي اعتمدها في الكتاب ويقول إنه حاول “رؤية البيت الأبيض تحت إدارة ترامب من عيون أقرب الناس إليه”، يدعي وولف أنه أجرى 200 مقابلة، بعضها مع الرئيس نفسه، وأنه حجز لنفسه “ما يشبه مقعدًا دائمًا على أريكة في الجناح الغربي للبيت الأبيض”، الأمر الذي نفاه البيت الأبيض.
وهنا تجدر الإشارة إلى كتب الصحفي المرموق في واشنطن بوست بوب وودوارد الذي يعتمد في كتبه على مقابلات مع مسؤولين يورد ذكرهم كلهم في الصفحات الأولى لكتبه مثل “حروب أوباما” و”خطة الحرب”، الأمر الذي لم يفعله وولف في كتابه الأخير.
تشير مراسلة صحيفة آيريش تايمز في واشنطن إلى أن المنهجية التي اعتمدها وولف في كتابه كانت إشكالية منذ البداية، إذ اعتمد مجازًا أدبيًا عفا عليه الزمن لراوٍ غير موثوق، وفي صياغته لحبكة قصة رئاسة ترامب، ناسجًا قصته من خلال ضمير مصادر “غير مسماة”، يبدو من المستحيل تتبع بداية سرد رواية وولف ونهاية الحقائق الموضوعية، ففي حين تحتمل الروايات والكتب الخيالية وجود راوٍ عارف بكل شيء، إلا أن الكتب التي تتحدث عن الحقائق لا تحتمل ذلك.