أينما نذهب ونتسوق فلا بد أن نلاحظ اللافتات التي ترشدنا إلى رفوف الأغذية العضوية في الأسواق، والتي تخبرنا بإنها أكثر الأطعمة فائدة وأقلها خطرًا على صحتنا، لكن الوجه الآخر للحقيقة يذكرنا بالشكوك العلمية حول هذه المأكولات التي يلفها ضجيج سياسات التسويق التي غالبًا ما تنجح الشركات التجارية الربحية في الترويج لها، فهذا النوع من الأطعمة يلقى رواجًا صاخبًا ويتمتع بشعبية متزايدة بين المستهلكين، مقارنة مع الأطعمة الأخرى، ويرجع ذلك إلى أن غالبية الناس مهتمين في اتباع نمط صحي، فلقد ازدادت المبيعات بمقدار خمسة أضعاف على مدى السنوات ال 15 الماضية، ففي عام 2017، وصلت قيمة سوق الأغذية العضوية إلى 77.4 مليار دولار أمريكي، ومن المرجح أن تزيد هذه النسبة إلى 320.5 مليار دولار عام 2025، بالرغم من بعض الدراسات العلمية التي تنفي المثالية عن الأغذية العضوية التي قد لا تزيد فائدة أو تقل خطرًا عن الأغذية التقليدية.
ظهر مصطلح “الطعام العضوي” كرد فعل للطفرة الصناعية التي غيرت أساليب الزراعة، وسميت هذه المنظومة الغذائية الجديدة ب”الثورة الخضراء” نسبة إلى الأطعمة التي خضعت إلى قوانين بيئية تفصيلية عملت على مراقبة عملية زراعتها ونموها، وقلصت من كمية المبيدات الحشرية والمواد الصناعية المستخدمة في رشها، وخصصت لها مساحة منفصلة عن بقية المأكولات في قطاع الأغذية من نواحي عديدة.
يعود ارتفاع أسعارها إلى عدة أسباب، ومنها أن عدم استخدام المزارعين للمواد الكيميائية والمبيدات الحشرية يجبرهم على توظيف المزيد من العمل للقيام بمهمات إزالة الأعشاب الضارة وتنظيف التربة والمياه بطريقة يدوية، وهذا يطيل من ساعات العمل وبالتالي يزيد من تكاليف الإنتاج، وعامل آخر، هو أن العرض والطلب على الأغذية العضوية أقل نسبيًا من الأغذية التقليدية، ومع زيادة الطلب على الأغذية العضوية فإن تكاليف الإنتاج والتجهيز والتوزيع والتسويق سوف تنخفض، مما سيقلل من سعرها في السوق، هذا بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة السماد العضوي والحيواني، واستغراق المحاصيل العضوية وقتًا أطول لنمو لأنها لا تستخدم الهرمونات المعززة للنمو، هذا وتعد الاجراءات اللازمة للحصول على شهادة العضوية رسوم إضافية على تكلفتها.
كيف وجدت المبيدات الكيمائية طريقها إلى مجال الزراعة؟
اكتشفت المواد الكيمائية الصناعية في الأربعينيات خلال الحرب العالمية الثانية، عندما تم اختراع مركب فسفوري في ألمانيا باسم “سارين” وهو سائل سام استخدم كسلاح كيميائي في الحروب لمهاجمة الجهاز العصبي وقتل المستهدف خلال عشر دقائق، تم تطويره لاحقًا لقتل الحشرات الضارة بالمحاصيل الزراعية، ومنذ ذلك الحين تم تأييد استخدام المواد الكيمائية الصناعية بشدة، إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتحويل مصانع أسلحتها إلى مراكز خاصة بإنتاج المبيدات الحشرية الكيميائية، وشجعت الحكومة بشكل خاص المزارعين على استخدام هذه المواد لتحسين جودة محاصيلهم، وبالفعل ازدادت الانتاجات الزراعية لكنها بالمقابل لوثت المياة وقلصت من التنوع البيولوجي في التربة وقتلت الحشرات النافعة والطيور والحيوانات التي تتغذي عليها، وعلى المدى البعيد، ظهرت بعض الأعراض الجانبية السلبية على صحة الإنسان.
وفي عام 1962، كانت الضربة الأولى لهذه المواد من طرف عالمة الأحياء والكاتبة الأمريكية، راشيل كارسون، في كتابها “الربيع الصامت” الذي وثقت فيه الآثار السلبية للاستخدام العشوائي لمبيدات الآفات الكيميائية، واتهامها للمسؤولين عن تصنيع هذه المواد بنشر معلومات خاطئة لضمان قبول تصنيعها، ونتيجة لهذه الحقائق، حدثت ضجة عارمة في البلاد أيقظت مخاوف العالم حول تصرفات الشركات الصناعية لهذه المواد.
ظهرت حركات مختلفة تهتم بمتابعة الأغذية ومنها “اعرف مزارعك”، حيث ساهمت هذه المجموعات بارتفاع القلق العام حول طريقة الزراعة وصحة منتجاتها، والمطالبة بمعرفة تاريخ هذه الأغذية، حتى اضطرت الوزرات الزراعية إلى الحد من استخدام المواد الكيميائية
حفزت هذه الهواجس على المطالبة بإصدار تشريعات بيئية حول نظافة المياه والهواء وصحة الغذاء، خاصة بعد التحقق من وجود مئات الحوادث البشرية والبيئية بسبب تعرضها لهذه المبيدات، وخلال سبعينيات القرن الماضي ظهرت حركات مختلفة تهتم بمتابعة الأغذية ومنها “اعرف مزارعك”، حيث ساهمت هذه المجموعات بارتفاع القلق العام حول طريقة الزراعة وصحة منتجاتها، والمطالبة بمعرفة تاريخ هذه الأغذية، حتى اضطرت الوزارات الزراعية إلى الحد من استخدام المواد الكيميائية، ومع هذا القرار زاد الحماس نحو الأغذية العضوية، مع العلم استمرت عملية فرض معايير دولية محددة وواضحة لهذا النوع من الأغذية لأكثر من 10 سنوات.
كما دفع هذا الكاتب الرئيس الأميركي جون كينيدي عام 1963 إلى الطلب من اللجنة الاستشارية العلمية التابعة لإدارته تقصي ادعاءات كارسون، فكانت النتيجة ثبوت صحة تحذيراتها. وأدى ذلك الى فرض قيود حول استخدام المبيدات الكيميائية، وتواصل تأثيرها كتابها عندما فرضت الولايات المتحدة حظراً على بيع الـ«د.د.ت» عام 1972، وهي السنة التي تأسس فيها برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وصدور قانوني الهواء النظيف والمياه، وتكريس “يوم الأرض”، وتأسيس وكالة حماية البيئة عام 1970 في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.
الاعتقادات السائدة حول الفلاحة والتربية العضوية
خلافًا للأساطير التي يؤمن به العديد من الأفراد، فإن الزراعة والتربية العضوية لا تعني عدم استخدام المبيدات بشكل مطلق، فهناك بدائل طبيعية للحفاظ على المزارع النباتية أو الحيوانية، وهي مبيدات من مصادر طبيعية وخالية من المواد الاصطناعية الكيميائية، لكن هذا لا يعني أن هذه المواد خالية من أي أضرار، فالزراعة العضوية تعتمد على محلول كبريتات النحاس للقضاء على الفطريات وهي مادة سامة بالأصل وله تأثيرات خطيرة على الإنسان، قد تؤدي إلى أمراض في الكبد.
هذا بالإضافة إلى استخدام بيرمثرين الذي يساهم في الحفاظ على المحاصيل وقتل الطفيليات الحيوانية، لكنه من ناحية أخرى يساهم بالإصابة بسرطان الدم وله تأثيرات عصبية سلبية على الإنسان، وليس هذا فقط، فهناك نحو 20 نوعًا من المبيدات الكيماوية المعتمدة من وزارة الزراعة الأميركية للمزارع العضوية، ولا تسجل أي هيئة حكومية أميركية نسبة المبيدات التي تستخدم في المزارع العضوية.
دراسات تتحقق من مثالية الأغذية العضوية
على مر السنوات الماضية، أجريت العديد من الدراسات على المحتوى الغذائي للطعام العضوي مقارنة بالأطعمة التقليدية، ولم يلاحظ الخبراء أي فروق جوهرية بين نسب الفيتامينات والمعادن في كلا النوعين، فلقد أوضحت هيئة المعايير الغذائية التي قدمت البحث بواسطة كلية لندن للصحة والطب أنه لا يوجد سبب لشراء الطعام العضوي الباهظ الثمن لأسباب غذائية، الأمر الذي قد يكلف الصناعة العضوية خسارة مليارات الدولارات.
ففي عام 2012، قام مركز جامعة ستانفورد للصحة بأكبر مقارنة للأغذية العضوية والتقليدية، ولم يجد دليلًا قويًا يؤكد الفرق بينهما، إذ ذكرت نتائج البحث إنه “لا تبين الدراسات العلمية أن المنتجات العضوية تحتوي على قيمة غذائية أعلى أو أكثر أمانًا من الأطعمة التقليدية”، وأظهرت الدراسة النتائج نفسها بالنسبة إلى الحيوانات وقالت “النتائج الصحية للمنتجات الحيوانية العضوية تشبه منتجات الألبان التقليدية”.
فلقد أجرت وزارة البيئة في بريطانيا دراسة على إنتاج الألبان العضوية، وأشارت النتائج إلى أن صناعة الألبان مصدر من مصادر انبعاثات الغازات الضارة، وأن إنتاج اللتر الواحد من الحليب العضوي يحتاج إلى 80% من مساحة الأراضي الإضافية بالمقارنة مع الحليب غير العضوي، ويفرز 20% إضافية من غازات التأثير الحراري، ويساهم في زيادة الأمطار الحمضية بنسبة 70% إضافية.
تحتاج إلى استخدام أراض خالية من أي مبيدات كيمائية كالأراضي البرية والمحميات الطبيعية والغابات، لذلك يعتقد بإن حدوث ثورة عضوية واسعة النطاق سوف تزيد من الضرر البيئي، وتقلل من الغابات العالمية.
وبما يتعلق بإن الزراعة العضوية أكثر نظافة من الزراعة التقليدية، فإن هذا صحيح بالنسبة إلى جانب الغازات المنبعثة، فالزراعة العضوية تنبعث منها غازات دفيئة أقل وتتسبب في انخفاض نسبة النيتروجين من الحقول التقليدية، لكن المشكلة تكمن في حاجة الحقول العضوية إلى مساحات واسعة من الأرض لتنمو عليها حتى تنتج الكمية المطلوبة، هذا يعني أن متوسط الناتج العضوي ينتج عنه انبعاث أكبر من الغازات الدفيئة من النييتروز والأمونيا، كما إنها تحتاج إلى استخدام أراض خالية من أي مبيدات كيمائية كالأراضي البرية والمحميات الطبيعية والغابات، لذلك يعتقد بإن حدوث ثورة عضوية واسعة النطاق سوف تزيد من الضرر البيئي، وتقلل من الغابات العالمية.
وبصفة عامة، هذا لا يعني أن الأطعمة العضوية خالية من الفوائد الغذائية، لكن يعني أنه لا يوجد اختلاف كبير بين المنتجات العضوية والتقليدية، وليس هناك دلائل على الفوائد الإضافية للأكل العضوي، كما قد يقودنا وعينا الأعمق لهذه الصناعة إلى فهم العواقب البيئية التي قد تكون الدعايات التجارية تجاهلتها وسارعت في المبالغة قليلًا في تعظيم القيمة الغذائية للأطعمة العضوية.