لجأت “إسرائيل” بالتوازي مع حرب الإبادة التي تشنها ضد قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر، إلى خوض مواجهة مختلفة مع “حزب الله” اللبناني، الذي أعلن مشاركته بمناوشات “مشاغلة” ضد أهداف إسرائيلية كنوع من النصرة لفصائل المقاومة الفلسطينية، عن طريق إطلاق رشقات صاروخية على الجبهة الشمالية من “إسرائيل”، رشقات منضبطة بـ”قواعد الاشتباك” المعمول بها من الطرفين منذ حرب يوليو/تموز 2006.
وبالإضافة إلى قصف المواقع والبنى التحتية للحزب، نقلت “إسرائيل” هذه العمليات إلى مستوى جديد من خلال عمليات الاغتيال التي طالت عددًا كبيرًا من قيادات الحزب منذ السابع من أكتوبر، إذ لم تقتصر هذه العمليات على الجنوب اللبناني، بل طالت أيضًا عددًا من القيادات في سوريا، ليكون قادة الحزب ضمن بنك الاغتيالات الذي ضم ما يسمى بقيادات “محور المقاومة” من إيرانيين وعراقيين ولبنانين.
وقد تحدث الإسرائيليون عن هذه الاغتيالات بوضوح، وأنها تأتي كرد حازم على القصف النوعي الذي يشنه “حزب الله”، ويصيب فيه أهدافًا عسكريةً واستراتيجيةً، بما يشمل مصانع عسكرية وبطارية قبة حديدية ومواقع للقيادة العسكرية الإسرائيلية في الشمال، وعلى قرار الحزب توسيع نطاق القصف إلى طبريا وخليج عكا.
اغتيالات من الصف الأول
تمكنت العمليات الأمنية الإسرائيلية ضد عناصر من حزب الله منذ 7 أكتوبر من تصفية نحو 10 قياديين لاحقتهم المسيّرات والغارات الجوية، بينهم قياديان من الصف الأول نعاهما حزب الله بصفة “الشهيد القائد” هما: وسام الطويل وطالب عبد الله.
أبرز هذه القيادات كان المسؤول عن وحدة المسيرات والصواريخ الدقيقة في حزب الله طالب سامي عبد الله “الحاج طالب” والذي يعد القيادي الأرفع الذي يقتل منذ بداية التصعيد بين حزب الله و”إسرائيل”، والذي أعلنت الأخيرة، يوم الأربعاء 12 يونيو/حزيران الماضي مسؤوليتها عن اغتياله في غارة جوية على بلدة جْوَيّا جنوب لبنان، وذلك بحسب بيان للجيش الإسرائيلي، الذي أوضح أن الحاج أبو طالب كان قائد “وحدة نصر” التابعة لحزب الله.
ووصفت صحيفة “معاريف” العبرية اغتيال عبد الله بأنه “الأكثر دراماتيكية وأهمية للجيش الإسرائيلي في لبنان منذ بداية الحرب”، وادعت أن “كبار المسؤولين الذين وافقوا على اغتياله كانوا يعرفون أنه سيؤدي إلى إطلاق مئات الصواريخ”.
أما القيادي وسام الطويل فقد كان ـ إلى جانب كونه مسؤولًا في وحدة الرضوان ـ عضوًا في مجلس شورى حزب الله، وكانت تربطه أيضًا علاقة مصاهرة مع نصر الله، حسب ما نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال”.
وإلى جانب الطويل وطالب شملت قائمة الاغتيالات الإسرائيلية كلًا من عباس محمد رعد، وهو نجل رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” البرلمانية النائب محمد رعد، وعلي أحمد حسين (عباس جعفر) الذي كان قائد منطقة الحجير في القوة نفسها، وعلي محمد الدبس من القوة نفسها، ومحمد حسين شحوري الذي قالت “إسرائيل” إنه “قائد وحدة الصواريخ في القطاع الغربي لـ(قوة الرضوان)”.
كذلك، اغتالت “إسرائيل” إسماعيل يوسف باز، وقالت إنه “قائد القطاع الساحلي” في حزب الله، وعلي عبد الحسن نعيم، وهو نائب قائد وحدة الصواريخ والقذائف في الحزب، وحسن محمود صالح، قائد الهجوم في منطقة جبل دوف، وعلي حسين برجي، وهو قائد منطقة جنوب لبنان من الوحدة الجوية في الحزب، فضلًا عن حسن حسين سلامي، القيادي في وحدة نصر.
اختراق أمني أم تفوق تقني؟
أثارت دقة عمليات الاغتيال الإسرائيلية بتوقيتها وزمنها، والمعلومات التي ينشرها الجيش الإسرائيلي عن اسم ولقب ووظيفة القيادي الذي يتم اغتياله (كما في حالة الحاج أبو طالب) أسئلة كثيرة عن وجود خرق استخباراتي في صفوف الحزب، أم أن ما يجري هو نتيجة لتطور التقنيات التجسسية الحديثة لـ”إسرائيل”، إذ يرى الكثير من الخبراء العسكريين أن التدابير الأمنية لحزب الله تبدو عاجزة أمام وسائل الاستطلاع الإسرائيلية ومنظماتها المتطورة.
هذا الخرق الأمني أشار إليه حسن نصر الله عقب عملية اغتيال القيادي في حماس صالح العاروري، حين أكد وجود خرق كبير وخطير للضاحية الجنوبية لبيروت، مشيرًا إلى أنه (الخرق) “لا يمكن أن يمر ولن يكون بلا رد وبلا عقاب والقرار هو للميدان”.
وفي هذا السياق، كشف الباحث في شؤون الأمن والاستراتيجيات العسكرية، سامي أبي أفرام، في تصريحات صحفية أن تركيز “إسرائيل” على استهداف قادة حزب الله الميدانيين يثبت التفوق التكنولوجي والاستخباراتي على الحزب الذي يبدو عاجزًا عن حماية مسؤوليه أو الرد بالفاعلية نفسها، معتبرًا أن “إسرائيل” تنفذ هذه الاغتيالات وفق خطة مبرمجة، أطلق عليها اسم “النسر والزواحف”، وهي تعتمد استراتيجية عسكرية تشبه ما يفعله النسر عندما يرى فريسته.
وكشف عن أن الجيش الإسرائيلي يستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في عملياته الاستخباراتية وفق بنك أهداف، ترصده الطائرات المسيرة فتكشف وجهه بالصور حتى لو كان في سيارة بزجاج داكن، لأن التقنية الإسرائيلية قادرة على اختراق عظام الوجه وبصمات الصوت، عبر النظام التكنولوجي “غوسبل” الذي يعتمد أيضًا على عملاء أرضيين وصور جوية وبصمات الصوت وكل إشارة تصدر عن الأجهزة اللاسلكية.
وفي 4 يونيو/حزيران الجاري، كشف الجيش الإسرائيلي، في بيان، عن دور وحدة الاستخبارات الميدانية 869 التابعة للفرقة 91، لافتًا إلى أنها المسؤولة عن جمع المعلومات الاستخبارية متعددة الأبعاد في منطقة الحدود اللبنانية، وتحديد عناصر حزب الله، وأخيرًا تحقيق مهمتها المتمثلة في القضاء على التهديدات الإرهابية.
وأوضح أنه “منذ بداية الحرب، حددت الوحدة هوية أكثر من 100 إرهابي ومن خلال معلومات استخباراتية دقيقة وعالية الجودة، تم القضاء عليهم بالتعاون مع القوات العاملة على الأرض وسلاح الجو الإسرائيلي والمدفعية.
وعن علاقة الجبهة السورية بهذه الاغتيالات كشف الخبير العسكري السوري عبد الله الأسعد في وقت سابق أن “تواجد حزب الله في سوريا وحرصه على الاستمرار في تلك الجبهة المفتوحة لسنوات طويلة، جعل قياداته وعناصره وخططه وتحركاته مكشوفة لقدرات الكيان الإسرائيلي الاستخباراتية، وتبقى في ظل أضواء المسرح العملياتي هدفًا محتملًا”.
ويرى الأسعد أن “ما حدث لطالب عبد الله وغيره هو جزء من بنك أهداف لدى الكيان الإسرائيلي تم جمع معلوماته وإحداثياته لا سيما مع تواجد حزب الله في الجبهة السورية”.
ما تأثير ذلك على قدرة الحزب العسكرية؟
يرى الكثير من الخبراء العسكريين أن غياب القادة الميدانيين الذين تغتالهم “إسرائيل” يؤثر في قدراته وفعالية الاستجابة بين القيادة السياسية-العسكرية العليا وترجمتها ميدانيًا بسبب الاغتيالات التي تطال المسؤولين الوسطيين، ويؤدي إلى تخفيض قدرة الحزب على القتال الذي قد يحصل في حال شنت “إسرائيل” أي هجوم بري في الجنوب، بالمقابل يعتقد البعض أن الحزب لديه قدرات لوجيستية ومخزون كبير من العناصر المؤهلة لتولي المواقع التي تشغر بسبب الاغتيالات، لذا هذه الاستراتيجية غير قادرة على إضعافه.
من ناحيته يرى الباحث في مركز كارينجي للشرق الأوسط، مهند الحاج علي، أن هذا النوع من التنظيمات لا بد أن تكون هذه الاغتيالات جزءًا من توقعاته، وعنده قدرة على التأقلم مع هذه الاغتيالات سواء كان منذ زمن اغتيال الأمين العام لحزب الله عباس الموسوي في التسعينيات وصولًا إلى اغتيالات كبرى طالت التنظيم منها عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، إضافة إلى قيادات موجودة في سوريا.
ويضيف حاج علي في حديثه لـ”نون بوست” أن ما يميز هذه المرحلة بالنسبة للحزب هو هذا الكم الكبير من الاغتيالات المركزة خلال 8 شهور، لذلك طبعًا من المتوقع أن يكون لهذا العمل أثره على القدرة التنظيمية وعلى إمكانية التنظيم في الحفاظ على تماسكه العسكري خلال الفترة المقبلة بما أننا نتحدث عن سقوط قيادات لها باع طويل في العمل التنظيمي والميداني، وبالتالي هذه الاغتيالات يتوقع أن يكون لها تأثير ما.
هل تؤدي هذه الاغتيالات إلى مواجهة شاملة؟
شهدت الجبهة اللبنانية مع “إسرائيل” تصعيدًا كبيرًا بعد اغتيال الحاج طالب، حيث أطلق حزب الله أكثر من 200 صاروخ وهو أكبر عدد من الصواريخ يطلقها في يوم واحد منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
هذا التوتر دفع مسؤولين أمريكيين للتأكيد على أن إدارة الرئيس جو بايدن تشعر بقلق بالغ من العنف المتصاعد بين “إسرائيل” وحزب الله وتخشى تحوله إلى حرب شاملة، وإنها تسعى جاهدة لمنع حدوث ذلك.
وأضافت مصادر لموقع أكسيوس أن الإدارة الأمريكية حذرت خلال الأسابيع الأخيرة من فكرة “الحرب المحدودة” في لبنان، وقالت إنها قد تؤدي إلى تدخل إيران وإغراق لبنان بمسلحين موالين لها من سوريا والعراق وحتى اليمن.
والثلاثاء الماضي 18 يونيو/حزيران أعلن الجيش الإسرائيلي أنه وافق على “الخطط العملياتية” لهجوم على لبنان، مع تصاعد حدة الخطاب بين “إسرائيل” وحزب الله والتي يمكن أن تؤدي إلى حرب.
إلا أن الباحث مهند الحاج علي يرى أن الطرفين لا يريدان مواجهة عسكرية شاملة، في ظل عدم وجود إرادة سياسية محددة بهذا الاتجاه، يضاف إلى ذلك التحذير الدائم من الولايات المتحدة من أن يؤدي خطأ ميداني إلى رفع مستوى التصعيد وبالتالي السقوط في فخ الحرب.
ويشير الباحث بمركز كارينجي إلى أن احتمال توسع المواجهات والاغتيالات بوتيرة عالية ومتسارعة في الجنوب اللبناني يبقى احتمالًا واردًا ومتصاعدًا في ظل تطور الأوضاع.
يذكر أن التصعيد على جانبي الحدود أسفر ـ حتى الآن ـ عن مقتل 462 شخصًا على الأقل في لبنان، بينهم نحو 300 عنصر من حزب الله، وحوالي 90 مدنيًا، أما الجانب الإسرائيلي فأعلن مقتل 15 عسكريًا و11 مدنيًا.