رغم انخفاض وتيرة المعارك أحيانًا في البادية السورية، فإن المتابع لأحداث المنطقة على مدى السنوات الماضية، يلاحظ تميزها بأنها جبهة لا تهدأ ومكان لا تنعدم فيه الاشتباكات، فقد شكلت منذ 2018 مصدر استنزاف كبير لقوات نظام الأسد وميليشياته على صعيد الزخم البشري، وجعلت الهجمات التي ينفذها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” من المنطقة ثقبًا أسود يفرض على النظام الانشغال الدائم.
وتشكل البادية فضاءً مفتوحًا يتوسط المدن الرئيسية في البلاد، وتلامس المناطق الحضرية التي يسيطر عليها النظام، كما أنها عقدة ربط للطرق الحيوية بين شرق وغرب ووسط البلاد، إلى جانب وجود حقول الغاز والنفط.
وأتاحت البادية للتنظيم ملاذًا أمنًا ومجالًا جغرافيًا لإعادة ترتيب صفوفه بعد تهاوي سيطرته على الأرض، مستغلًا سلطة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” الهشة في منطقة الجزيرة التي تشكل موردًا ماليًا وبشريًا مهمًا للتنظيم.
نبحث في هذا الملف طبيعة عمل وتحرك “داعش” في البادية، وكيف تحولت إلى قاعدة الإعداد التي يعول عليها تمهيدًا لقيامة جديدة يتحين وقتها، إلى جانب أبرز موارده ومعاقله المعروفة في المنطقة، وأسباب فشل النظام في السيطرة عليها.
الحملة الأكبر
منذ أواخر مايو/أيار الماضي، بدأت استعدادات نظام الأسد لشن حملة عسكرية في البادية السورية، وُصفت بأنها الأكبر منذ سنوات، وجاءت بعد سلسلة هجمات كبيرة نفذها مقاتلو التنظيم، وصل بعضها إلى داخل البلدات التي يسيطر عليها النظام شرقي حمص وجنوب الرقة ودير الزور، حيث شن التنظيم منذ بداية العام الجاري، أكثر من 200 هجوم مسلح عبر كمائن وعبوات ناسفة، أدت إلى مقتل أكثر من 230 عسكريًا وإصابة 180 آخرين من قوات النظام والميليشيات الإيرانية.
وبدأت قوات الأسد بحشد أكثر من 10 آلاف جندي من عدة تشكيلات عسكرية في تدمر والسخنة بريف حمص وبادية الرصافة جنوب الرقة، معلنةً بدء حملة عسكرية، أطلقت عليها وسائل إعلام محلية اسم “حملة شريان الحياة”، بتغطية من سلاح الجو الروسي الذي أشرك طائرات السوخوي ومُسيرات من نوع “أورلان 10″، و”قاذفات”.
وتشارك في الحملة تشكيلات عسكرية متعددة أبرزها: القوات الخاصة، الفرقة 17 مشاة، والفرقة 25 مهام خاصة عبر فوج الحيدر وفوج الظريف التابعين لها، وقوات حماية خاصة من الساحل، والفيلق الخامس المدعوم روسيًا، والفرقة الثالثة، والحرس الجمهوري”.
وميليشيات “لواء القدس، والدفاع الوطني، ودرع الأسد المدعومة روسيًا، وزينبيون، وفاطميون الأفغانية، ولواء صقور الرقة بقيادة أبو صالح الهنداوي”، ومجموعات من ميليشيا الحرس الثوري الإيراني العاملة في دير الزور.
إضافة إلى بعض المسلحين من أبناء قبائل البادية مثل قبائل السخاني والعمور وبني خالد، الذين شاركوا بعمليات التمشيط في محيط مناطقهم مثل منطقة جب الجراح شرق حمص، والدويزين وعقيربات والسلمية شرق حماة، والذين قرروا التعاون مع النظام في العديد من الحملات العسكرية بحثًا عن الثأر من “داعش” الذي قتل العشرات من أبنائهم، في أثناء رعي الأغنام وجمع الكمأة.
وشهدت الحملة مشاركة شخصية من اللواء صالح العبد اللّه، قائد ميليشيا “الفرقة 25” الجديد، الذي حل بديلًا عن سهيل الحسن الملقب بـ”النمر”، ما يوضح خصوصية وأهمية هذه الحملة، بعد تدريبات عسكرية مكثفة من الضباط الروس للفرقة، التي تعتبر رأس الحربة خلال الحملة الحالية.
وتتولى مجموعات من القوات الخاصة مهمة تمشيط بادية الرصافة حتى محاور شمال السخنة، كما تتولى مجموعات من “الفرقة 25” المناطق الواقعة جنوب مطار الطبقة غربي الرقة وتمشيط المناطق المحاذية لريف الرقة الغربي الخاضع لسيطرة ميليشيا “قسد”.
ووصلت لبادية “الرصافة” جنوب الرقة، خلال الأيام الماضية، حشودًا كبيرة تجاوز عددها 800 عنصر جلها مكونة من مقاتلين سابقين كانوا ضمن ميليشيا “صقور الصحراء” التي تشكلت أواخر 2012، وكانت مهمتها حماية صهاريج النفط قبل انخراطها في المعارك ضد فصائل المعارضة إلى جانب سهيل الحسن.
كما قدمت تعزيزات من محافظة دير الزور غالبيتها عناصر من ميليشيا “الدفاع الوطني وقطاعات الميادين والبوكمال” وتجمعت في تدمر، للمشاركة في تمشيط محيط حقول أراك والهيل وتوينان وصولًا للرصافة، في حين أرسلت ميليشيا الحرس الثوري الإيراني ما يزيد على ألف عنصر من ريف دير الزور الشرقي من ثلاث مناطق للمشاركة بمعارك البادية.
خسائر النظام
منذ 10 من الشهر الجاري، يحاول عناصر “الفرقة 25” التوغل جنوب حقل غاز الضبيات بريف حمص الشرقي، الذي يعتبر من أخطر المناطق على الإطلاق، لكن كثافة الألغام ووعورة المكان وكمائن داعش تعرقل تقدمهم.
وفي ظل قدرة عناصر “داعش” على المناورة والتحرك في البادية، تمكنوا من قطع طريق محمية التليلة شمال شرق تدمر الرابط مع “T3” شرقي تدمر (محطة تحويل نفط) لمدة يومين، ما تسبب في شل حركة عناصر ميليشيا “فاطميون” الأفغانية و”زينبيون” المتمركزين في المحمية.
كما هاجم عناصر من التنظيم نقاطًا لقوات النظام (الفرقة الرابعة) قرب محطة “T3″، إلى جانب سيطرتهم على نقطتين شرقي بلدة الكوم في قلب البادية السورية.
ووصلت هجمات “داعش” إلى دير الزور عبر مهاجمة رتل لميليشيا الحرس الثوري الإيراني في منطقة معيزيلة في بادية البوكمال، وقتل ثلاثة عناصر وإصابة خمسة آخرين، إلى جانب الاستيلاء على سيارة رباعية الدفع.
وتهدف هجمات التنظيم إلى تشتيت جهود قوات النظام، كما يظهر مدى التنسيق العالي لمجموعات التنظيم فيما بينها، وقدرتها على تنفيذ عمليات نوعية في أماكن مختلفة ومتباعدة في نفس الوقت.
وأسفرت هذه المعارك حتى الآن عن مقتل 44 عنصرًا من قوات النظام وإصابة 25 آخرين، إضافة إلى فقدان 15 عنصرًا، أما خسائر التنظيم فقد تمثلت بمقتل 7 عناصر على يد قوات النظام وعشائر البادية.
ومن بين قتلى النظام، كان العميد الركن عبد الرحمن حورية وهو من مرتبات الفرقة الثالثة وينحدر من بلدة فليطة بريف دمشق، إلى جانب العقيد ماجد يوسف موسى، وحسب مصادر فإن الضابطين قتلا قرب الضبيات جراء انفجار لغم أرضي في سيارة كانا يستقلانها.
وخلال الحملة أزالت قوات النظام عشرات الألغام قرب حقول الغاز والطرق الفرعية المؤدية إليها، وثبتت نقاط جديدة في محيطها، كما ردمت عددًا من الآبار الجوفية قرب تدمر وغربي السخنة لمنع مقاتلي داعش من استخدامها، وأحرقت عددًا من البرك النفطية.
وتهدف حملة النظام إلى إبعاد خطر “داعش” عن السخنة تحديدًا وتأمين محيطها، وإنهاء وجود التنظيم في وادي الضبيات، وتأمين الطرق الرابطة بين الرصافة والسخنة، إلى جانب تأمين الطريق من الرقة نحو السلمية، وتحديدًا توسيع المنطقة الأمنة في محيط أثريا شرق حماة.
ولن تظهر نتائج هذه الحملة بالمنظور القريب، وغالبًا ستحد من خطورة هجمات “داعش” لفترة زمنية معينة، وقد تنجح بتحجيم نطاق هجماته ضد حقول الغاز ومنع تقدمه نحو ثكنات ونقاط الجيش الرئيسية في البادية، وتجفيف موارد التنظيم وتحييده عنها.
البادية السورية.. مثلث برمودا
يعود انحياز “داعش” للبادية السورية إلى 2017 عندما انهارت سيطرته في سوريا، وانحسر ما تبقى من نفوذه نحو اتجاهين: الأول في دير الزور بمناطق الجزيرة أو ما تسمى “شرق الفرات” وتحديدًا منطقة “الباغوز”، حيث حوصر هناك من “قسد” والتحالف الدولي، قبل السيطرة عليها في مارس/آذار 2019 بعد معارك طويلة، أما الاتجاه الثاني فكان البادية غرب نهر الفرات، في المناطق التي سيطر عليها نظام الأسد بدعم حلفائه الروس والإيرانيين.
ولم يكن انحياز التنظيم للبادية عبثيًا، كونه أدرك قبيل سقوطه أنها ستكون الملاذ الأنسب لعناصره، فأنشأ في 2017، الذي يوصف بأنه “عام السقوط”، مخابئ هناك في عدة مناطق ونقل إليها السلاح والذخائر.
وتمركزت العناصر بداية في منطقة جبل البشري غرب دير الزور، التي كانت مركز انتشار لمجموعات التنظيم نحو المناطق الجبلية في بادية حمص، وبادية الرصافة جنوب الرقة، والتي تحولتا فيما بعد إلى قواعد الانطلاق استخدمها التنظيم في هجماته ضد قوات نظام الأسد وحلفائه.
منتصف عام 2018 كان الانطلاقة الحقيقية للتنظيم في البادية في هجماته التي زاد معدلها خلال 2019، فشهدت سلسلة هجمات نفذها في بوادي دير الزور وحمص والرقة وحلب.
ووسع التنظيم المساحة الجغرافية لعملياته بشكل كبير في وسط سوريا عام 2020، ووصلت مجموعاته إلى ريف حمص الشرقي، كما دخل عناصره شرق حماة لأول مرة منذ سنوات، وتمكن من تهديد الطريق الدولي دير الزور – حمص.
وشن التنظيم أكثر من 300 هجوم خلال عام 2020، قتل فيها أكثر من 430 شخصًا غالبيتهم من العسكريين من قوات النظام ومقاتلين من ميليشيا الحرس الثوري والمرتزقة الروس.
في 2021 واصل “داعش” هيمنته على البادية وخاصة في الأشهر الأولى، وأمام هذا التصعيد أعلن نظام الأسد بالتعاون مع روسيا وعدد من ميليشيات الحرس الثوري الإيراني إطلاق أكثر من عملية عسكرية، الحملة الأولى كانت مطلع العام انطلقت من دير الزور واستمرت لمدة شهرين ونصف.
أما الحملة الثانية فكانت في شرق ووسط حمص في أبريل/نيسان، ثم تلتها حملة ثالثة في مايو/أيار وكانت موجهة لبادية الرصافة وصولًا إلى منطقة أثريا بريف حماة، وامتدت شمالًا لتخوم بادية حلب، بينما تركزت الحملة الرابعة نحو شرق حماة.
ولعب الطيران الروسي دورًا مهمًا خلال الحملات السابقة، كما زجت بتشكيلات عسكرية كاملة هناك على غرار الفرقة 25 والدفاع الوطني، إلى جانب مشاركة مرتزقة ميليشيا “فاغنر” قبل انسحابها من سوريا.
وتعرض التنظيم نتيجة هذه الحملات لخسائر كبيرة في البادية، إضافة إلى مقتل اثنين من زعمائه، الأول أبو إبراهيم القرشي بعملية للقوات الأمريكية في فبراير/شباط 2022 في إدلب شمال غرب سوريا، ثم أبو الحسن الهاشمي القرشي الذي قُتل على يد فصائل المعارضة في درعا جنوب سوريا.
قلاع “داعش”
بعد الحملات المكثفة في 2021 انحسر نشاط تنظيم داعش لأكثر من النصف وبدا ذلك واضحًا من خلال تراجع البيانات الصادرة عنه، لكن تهديده ظل باقيًا ولو بشكل أقل حدة، وتقلصت عملياته في وسط حمص وشرق حماة وجنوب شرق حلب، بينما تواصلت في محورين: في دير الزور وبادية الرصافة جنوب الرقة، لتصل إلى مطار الطبقة العسكري الذي يعتبر قاعدة روسية.
وانحسر التنظيم في ثلاث مناطق بالبادية برزت كمعاقل معروفة، وكان القرار إجباريًا بهدف هيكلة مجموعاته وإعادة انتشاره بعد ضغط النظام الكبير.
وأبرز تلك المناطق وأهمها هو جبل البشري غرب دير الزور، المترامي الأطراف والذي يمتد بين محافظتي الرقة ودير الزور، وتلامس تضاريسه تخوم الطيبة شمال السخنة بريف حمص.
تضاريس الجبل جعلته حصنًا منيعًا انحاز له العشرات من عناصر التنظيم بعد سيطرة النظام على مناطق غرب الفرات بدير الزور، كما يصعب شن حملة عسكرية برية بالمنطقة، لذا تستعين قوات النظام بالطيران الروسي لقصف مواقع التنظيم.
وتحول الجبل إلى قاعدة لهجمات عناصر التنظيم في المنطقة ضد قوات النظام، إلى جانب مهاجمة المدنيين الذين يجمعون الكمأة بريف دير الزور الغربي، حتى بات سكان المنطقة يعتبرونه رمزًا للموت.
المنطقة الثانية هي بادية الرصافة جنوب الرقة، وتعتبر مجالًا حيويًا لتحركات التنظيم حتى يومنا هذا، حيث تعتبر طريقًا لعبور مقاتلي التنظيم من وإلى مناطق الجزيرة الخاضعة لسيطرة “قسد” في الضفة الأخرى لنهر الفرات.
وتعتبر المنطقة الممتدة من المنصورة جنوب الرقة حتى منطقة شعيب الذكر غربي الرقة مهمة جدًا لعدة أسباب: الأول هي مناطق يستخدمها المهربون وعناصر “داعش” للتهريب، والثاني وجود شبكات من الخلايا النائمة للتنظيم ومن المتعاطفين معه، حيث يتواجدون في ناحيتي معدان، والسبخة وصولًا للمنصورة وغربها.
وبسبب أهمية المنطقة حاول الروس، خلال العامين الماضيين، إقناع بعض عشائر منطقة الطبقة غربي الرقة، بالعمل مع قوات النظام لضبط هذه المنطقة، لكن جوبهت مساعيهم بالرفض.
أما المنطقة الثالثة هي وادي الضبيات الذي يقع جنوب السخنة بريف حمص، ويعج بالألغام وكمائن “داعش” ويعتبر الدخول إليه مغامرة خطيرة مكلفة، ويشتهر بذات الاسم حقل غاز الضبيات الذي يقع شمال الوادي، ويعتبر آخر نقطة لقوات النظام جنوب السخنة والتي لم تتقدم جنوب هذا الحقل منذ سنوات.
وإلى جانب المناطق السابقة تنتشر مجموعات من التنظيم في جبال العمُور والبلعاس ببادية حمص منذ أواخر 2021، إلى جانب انتشارهم أحيانًا على الطرق الفرعية العسكرية، كما هو الحال في منطقة جب الجراح شرق حمص، وخناصر في بادية حلب، ومنطقة معيزيلة ببادية دير الزور.
تغيير أساليب الهجوم
تغير أسلوب التنظيم في شن هجماته، وبعد أن كان يهاجم بشكل مباشر وتتحرك أرتاله أحيانًا في وضح النهار باستخدام المركبات الرباعية، تحول عناصره للتنقل عبر الدراجات النارية في البادية، بسبب الخشية من استهداف سلاح الجو الروسي.
كما بات التنظيم يأخذ في الاعتبار العديد من العوامل قبل اختيار أهدافه، حرصًا على الحفاظ على حجم الزخم البشري في صفوفه، وتجلى هذا في تغيير الأسلوب الذي اتبعه من خلال زرع العبوات الناسفة والألغام والكمائن في المناطق النائية.
وخلال عام 2022 شنت قوات نظام الأسد حملة تمشيط محدودة في أكتوبر/تشرين الأول، تركزت في منطقة جبال العمور ببادية حمص، واستمرت حوالي عشرة أيام، تم خلالها نسف عدة كهوف وإزالة ألغام، لكن هذه الحملات الصغيرة التي تحصل على مراحل في البادية غالبًا ما تكون نتائجها صفرية، ما يعكس صعوبة القضاء على تهديد التنظيم بشكل كامل.
ورغم تراجع نشاط التنظيم، فإنه أعاد ترميم نفسه، وعاد بشكلٍ لافت في أواخر 2022، وتبلورت تلك العودة بسيطرته على بلدة الڪوم الاستراتيجية شمال السخنة.
وحسب متابعة نشاط التنظيم والمعلومات التي توافرت لنا، أصبحت مجموعات “داعش” تعمل في البادية ضمن ثلاثة قطاعات، لكلٍ منها قائد، هي: السخنة وشرق حماة ضمن قطاع واحد، ثم دير الزور، ثم الرصافة جنوب الرقة، وتتعاون هذه المجموعات مع بعضها كجسم واحد وتنسق فيما بينها.
وعلى الأرض يتكون كل قطاع من القطاعات الثلاث من عدة مجموعات صغيرة تعمل ضمن مجال جغرافي محدد، ولكل مجموعة مسؤول عسكري يتصرف بما تمليه الظروف عليه، حيث تجري هجمات متزامنة في قطاعين اثنين في آنٍ واحد وهو ما يعكس التنسيق العالي بين مجموعات التنظيم.
وآخر تلك الهجمات كانت منتصف الشهر الماضي، عندما هاجمت مجموعات “داعش” بشكل متزامن، الحير الشرقي ببادية حمص، ومناطق الزملة ورحوم ببادية الرقة، ما يكشف تنسيقًا ممتازًا بين قطاعي الرصافة والسخنة.
ويهيمن على قطاع السخنة مقاتلون من الجنسية العراقية ومجموعات هؤلاء هي الأنشط على الإطلاق، بحيث لا يمر شهر دون هجوم يطال قوات نظام الأسد وميليشيا “فاطميون” الأفغانية في مناطق شمال السخنة، بينما يوجد عناصر مغربيون وآسيويون في بادية دير الزور، إلى جانب النسبة الأكبر من المقاتلين من السوريين، بينهم قاصرون دون سن 18.
وتعتبر طرق البادية الفرعية الرابطة بين ثكنات جيش النظام، وحقول الغاز والنفط، هي أكثر المناطق التي ينفذ بها “داعش” كمائن ضد النظام وحلفائه، مع زرع العبوات الناسفة والألغام، ما سبب شللًا لبعض المجموعات القتالية للنظام، وعزلها لفترات طويلة ضمن نطاق جغرافي معين.
موارد التنظيم ورحلة التهريب
في ظل قلة الموارد البشرية والنقص بصفوف مقاتلي التنظيم، لجأ إلى أسلوب الهجمات السريعة وزراعة العبوات وتجنب الدخول في مواجهات مباشرة ضد قوات النظام، كما اعتمد أساليب معينة لرفد مجموعاته المقاتلة في البادية بدماء جديدة.
ويعول التنظيم على عدة طرق لإيصال المقاتلين الجدّد للبادية، ومنها التعويل على مناصريه بالدرجة الأولى من سكان مناطق البادية كبلدات شرق حمص وشرق حماة، ومناطق ريف حلب، وريفي دير الزور والرقة، حيث يوجد في تلك المناطق موالون للتنظيم ومتعاطفون معه يعملون سرًا بقلب مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة ميليشيا “قسد” بالجزيرة.
ويساهم هؤلاء عبر طرق التهريب بإيصال الأطفال أو الشباب نحو مناطق معينة بالبادية ثم يأخذهم التنظيم، لينخرطوا لاحقًا بصفوفه.
ولعل الطريق الأسهل والأفضل للتنظيم هو جلب المقاتلين من مناطق الجزيرة، حيث سلطة ميليشيا قسد الهشة، عبر شبكات تهريب متمرسة تمتهن نقل الراغبين بالتوجه للبادية، ويساعدهم في ذلك الفساد الكبير المتفشي في المنظومة العسكرية للنظام.
ويعتبر ريفا الرقة الغربي والشرقي مع أرياف دير الزور، المكان الأكثر نشاطًا بعمليات التهريب، حيث تبدأ الرحلة بالوصول لما يسمى بـ”مضافات داعش” وهي عبارة عن منزل في قرية ما أو خيمة ضمن مخيم ما، يتجمع فيها الراغبون بالعبور للبادية للانتساب للتنظيم، وبعضهم عادةً قاصرون نجحوا بالفرار من مخيم الهول الذي تديره “قسد”.
ومن أجل الانتساب للتنظيم يحتاج الشخص إلى تزكية مناصرين أو منتسبين لـ”داعش”، فليس كل شخص يستطيع الانضمام.
ثم يعبر المنتسبون الجدد نهر الفرات، نحو مناطق سيطرة النظام، وهنا تلعب العلاقات العشائرية والمال دورها، حيث يسهل عناصر من ميليشيات النظام عبور هؤلاء الأشخاص، قبل أن يتابع المنتسب الجديد طريقه نحو البادية عبر مهربين، لينتهي به المطاف في صفوف التنظيم.
وتشكل مناطق الجزيرة الخاضعة لسيطرة قسد أكبر مصدر لتمويل “داعش” وجلب العناصر، ويوجد فيها ما يعرف بـ”الولايات الأمنية” التي أسسها التنظيم بعد سقوط أخر معاقله في أقصى شرق دير الزور في هجين والباغوز.
ولا تزال خلايا “داعش” تنشط بقوة في الجزيرة، وتنفذ هجمات شبه يومية ضد ميليشيا “قسد”، وتجبي المال من السكان المحليين، حتى أصبحت المنطقة المورد الأهم لاستمرار نشاط التنظيم في البادية.
مرحلة جديدة
في منتصف 2023 بدأ التنظيم مرحلة جديدة لنشاطه عنوانها “معارك الاستنزاف”، حيث لم تعد عملياته ضد قوات النظام تقتصر على البادية فحسب، بل باتت تصل إلى قلب مناطق سيطرة الأخير في المدن والبلدات التي يُحكم النظام قبضته عليها.
وشهد العام الجاري تنفيذ 16 هجومًا مسلحًا من التنظيم استهدف قوات النظام في قلب مناطق سيطرته في المحافظات الثلاث: الحسكة والرقة ودير الزور، آخرها في بلدة الشميطية غرب دير الزور قبل أسبوعين، عندما هاجم مجهولون حاجزًا لـ”الفرقة الرابعة” وقتلوا أربعة عناصر.
وسبق هذه الحادثة عملية تفجير الشهر الماضي في مدينة دير الزور بحي القصور، حين انفجرت سيارة من نوع “بيك أب” ملك لميليشيا أسود الشرقية الموالية للنظام، ما أدى إلى مقتل عنصرين.
وأضحت أرياف دير الزور والرقة ومناطق شرقي حمص ساحة لعمليات خلايا التنظيم هناك، وتبنى “داعش” عدة هجمات في الميادين شرق دير الزور، وفي بلدة “معدان” شرق الرقة.
ويعزى هذا النشاط اللافت لخلايا “داعش” في دير الزور والرقة، لعملية التسويات والمصالحة التي أجراها بها النظام، والتي أسهمت في عودة العشرات من المطلوبين لمناطق سيطرة النظام، بينهم مقاتلون سابقون في تنظيم الدولة.
ونتيجة لتزايد نشاط التنظيم شدد النظام قبضته الأمنية، واعتقل خلال الأشهر الماضية أكثر من 80 شخصًا غالبيتهم عسكريون، بتهمة التعامل مع التنظيم.
والمتتبع لعمليات التنظيم يلاحظ أن غالبية هجماته في البادية لا ترد في إعلامه الرسمي، ويُعزى هذا الأمر لسببين: الأول سياسة متعمدة لصرف الأنظار عنه، فهو يورد بعض العمليات كدليل على وجوده، ويتغاضى عن قسم كبير منها.
والسبب الثاني هو طريقة عمل مجموعات “داعش” وسط سوريا، ما يجعل وصول أخبار بعض الكمائن للإعلام الرسمي للتنظيم قد يتعذر، أما ما يصل للإعلام من أخبار فهم مخيرون بين نشره أو عدم نشره.
ويلاحظ أن نشر عمليات التنظيم في البادية في منصتي “أعماق والنبأ”، تتضمن فقط العمليات الكبيرة التي يعلن عنها تحت اسم “غزوة”، على غرار حملة التنظيم التي أعلن عنها في 4 يناير/كانون الثاني الماضي، وحملت اسم “واقتلوهم حيث ثقفتموهم”، ما يشير إلى أن هناك سياسة محددة يسير عليها إعلام التنظيم.
هل يستطيع السيطرة؟
رغم اعتبار الكثيرين بأن قدرة “داعش” لن تتجاوز هجمات الاستنزاف، فإن أحداث البادية تقول غير هذا، فلم يزل التنظيم يتمتع بالقدرة على السيطرة على الأرض ولو بشكل مقتضب وهذا ما أثبتته المجريات، حيث تمكن عناصره من السيطرة على بلدة الڪوم الاستراتيجية شمال السخنة والاستيلاء على أسلحة وذخائر وعتاد.
الحدث الثاني الأبرز كان سيطرة التنظيم على معمل غاز الضبيات في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبقي متحصنًا بالمنشأة التي هي عبارة عن ثكنة عسكرية قبل الانسحاب منها بعد قرابة الشهرين.
ومطلع العام الجاري أخلت قوات الأسد قرية الزملة الشرقية في بادية الرصافة جنوب الرقة، بعد حصارها من مجموعات “داعش”، كما تمكن التنظيم من الوصول لأطراف قرية الگدير شمال الكوم، وقطع طريق السخنة – الرصافة عدة أيام.
وتبدو فرضية سيطرة “داعش” على الأرض لأمد طويل في البادية مستبعدة حاليًا، في ظل قلة كوادره مقارنة بحجم قوات النظام التي تستعين بالطيران الروسي المُساند الأول لها بعد انسحاب ميليشيا في سبتمبر/أيلول 2023، ودون مبالغات فإن غياب سلاح الجو الروسي عن دعم النظام هنا سيخلق مشكلات كبيرة للأخير.
جدوى حملات النظام
الحديث عن إنهاء خطر «داعش» بشكل نهائي في البادية صعب حاليًا في ظل الوضع الذي يعاني منه نظام الأسد من جهة، والبلاد عمومًا من جهة ثانية، فتمشيط منطقة تمتد على مساحة تبلغ أكثر من 75 ألف كيلومتر مربع تبدأ من أرياف حمص وحماة وحلب وإدلب، وصولًا إلى الحدود العراقية ضرب من الخيال اليوم.
وأتاحت المساحة الواسعة للبادية نوعًا من الحرية لتحركات “داعش”، كما تأقلم عناصره خلال السنوات الماضية مع جغرافيا المنطقة، وأتقنوا أساليب التخفي والتماهي، واكتسبوا خبرة جيدة من الحملات السابقة التي شنها النظام هناك.
وتلعب مساحة البادية الضخمة والمترامية الأطراف دورًا مهمًا في صمود تنظيم “داعش”، حيث تنحاز مجموعات من التنظيم لمنطقة أخرى بعد كل عملية تمشيط لقوات النظام.
كما يلعب عامل الزمن دورًا مهمًا، فلا تستطيع قوات النظام البقاء في تمشيط دائم للمنطقة، حيث يعتبر ذلك ضرب من الخيال.
ويراهن تنظيم داعش كذلك على تواضع مستوى ميليشيات النظام الموجودة في البادية والفساد الكبير المتفشي في المنظومة العسكرية، فلو تفحصنا ماهية التشكيلات العاملة في وسط سوريا لوجدنا أن غالبيتها مكونة من مجندين حديثي عهد بالقتال في هكذا ساحة مفتوحة وصعبة، يقابلها تمرس جيد لعناصر التنظيم الذين يقاتلون عبر الكمائن وأسلوب الهجمات الخاطفة السريعة والتي من شأنها إنهاك أي جيش نظامي.
ومنذ انسحاب فاغنر سادت العشوائية في تعامل قوات الأسد مع “داعش”، وأصابها نوع من الجمود والخوف من التوغل بعيدًا عن ثكناتها، خشية تعرضها للكمين.
ولن يكون هناك حسم في البادية على المدى القريب ما دامت مناطق الجزيرة التي تسيطر عليها قسد تعيش بفوضى وتنشط فيها خلايا التنظيم، كما ترتبط بادية سوريا ببادية العراق، وبين الاثنين خطوط إمداد واسعة نشطة لليوم، فالنظيم لا يزال يعمل في العراق خاصة في الأنبار وكركوك.
وأخيرًا تحتاج البادية إلى قوات محترفة معززة بطيران دائم، واستقرار سياسي، وكل ما سبق أمور لن تتحقق في المدى القريب في بلدٍ كسوريا.