ترجمة وتحرير: نون بوست
تتفاقم أكبر أزمة جوع في العالم من صنع الإنسان في السودان حيث يحتاج أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 45 مليون نسمة إلى مساعدات إنسانية عاجلة. في شهر أيار/ مايو، حذّرت الأمم المتحدة من أن 18 مليون سوداني “يعانون من جوع حاد” بما في ذلك 3.6 مليون طفل “يعانون من سوء تغذية حاد”. أصبحت المنطقة الغربية من دارفور، حيث التهديد الأكبر، شبه معزولة عن المساعدات الإنسانية. ووفقًا لأحد التوقّعات، فإن ما يصل إلى 5 بالمئة من سكان السودان قد يموتون جوعًا بحلول نهاية السنة.
هذا الوضع المزري ليس نتيجةً لسوء المحاصيل أو ندرة الغذاء الناجمة عن المناخ، وإنما نتيجةٌ مباشرةٌ لأفعال طرفي الحرب الأهلية الرهيبة في السودان. منذ نيسان/ أبريل 2023، تخوض القوات المسلّحة السودانية بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان صراعًا مدّمرًا مع قوات الدعم السريع، وهي مجموعة شبه عسكرية مدجّجة بالسلاح يقودها الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي.
وفي الوقت الذي يتصارع فيه الحليفان السابقان من أجل السيادة، استخدم كلاهما تكتيكات التجويع عمدًا لتحقيق أهداف الحرب. ويعمل مقاتلو قوات الدعم السريع مثل الجراد البشري على تجريد المدن والأرياف من جميع الموارد المنقولة. وهم ورثة ميليشيا الجنجويد سيئة السمعة – المقاتلون العرب الذين ارتكبوا المجازر والتجويع في دارفور بين سنتي 2003 و2005، مما أسفر عن مقتل أكثر من 150 ألف مدني – إذ يستخدمون هذا النهب للحفاظ على آلة الحرب الخاصة بهم. وقد منعت القوات المسلحة السودانية، وهي القوة المهيمنة في حكومة السودان المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق الشاسعة من البلاد الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع.
لأول مرة، قال المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في شهر أيار/ مايو إنه يحقق في جرائم تجويع مزعومة من قبل أحد طرفي النزاع المسلح. وقد طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال دولية ضد مسؤولين إسرائيليين كبار بتهمة ارتكاب جريمة “تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب” في قطاع غزة، مستشهدًا بأدلة دامغة على الحرمان من الغذاء والوقود والمياه، وتهديدات لعمال الإغاثة، والتقييد الشديد لتدفق المساعدات الإنسانية في الحملة الإسرائيلية المستمرة منذ ثمانية أشهر.
وإذا وافقت المحكمة على مذكرات التوقيف فقد يشكّل ذلك سابقةً مهمّة بالنسبة للسودان حيث يتعرّض عدد أكبر من الأشخاص لهذه التكتيكات نفسها – وحيث لا تزال المحكمة الجنائية الدولية تملك اختصاصًا بموجب قرار مجلس الأمن الدولي الصادر في سنة 2005. وفي 11 حزيران/ يونيو، أعلن خان عن تكثيف التحقيق العاجل في جرائم الحرب في السودان.
مع ذلك، لا يبدي المسؤولون عن المساعدات الدولية حتى الآن أي رغبة في توجيه أصابع الاتهام إلى الرجال الذين يقومون بتجويع أطفال السودان بشكل منهجي. قد يُجادل البعض بأن اللاعبين الخارجيين بحاجة إلى تجنّب توجيه أصابع الاتهام لأي طرف لأن الجنرالات أنفسهم هم من يجب إقناعهم بالسماح بدخول المساعدات، وهذا أمر مضلل.
من غير المرجح أن يلين أي من الطرفين من تلقاء نفسه: ذلك أن التجويع تكتيك رخيص وفعال، ومن دون ضغط دولي قوي، يتوقّع القادة أن يفلتوا من العقاب. والواقع أن مفاتيح فتح البلاد أمام المساعدات على الأرجح بين أيدي السعودية والإمارات، أكبر قوتين إقليميّتين تتنافسان على النفوذ في القرن الأفريقي.
من الضروري للولايات المتحدة وحلفائها الغربيّين ليس فقط الإشارة إلى حقيقة أزمة الجوع المرعبة في السودان – وهو هدف مقصود من الأطراف المتحاربة – وإنّما أيضًا دفع القوى الخليجيّة التي تتمتع بنفوذ لإجبار الطرفين على إنهاء التكتيكات التي تقود هذه الأزمة. قد يكون الأوان قد فات لوقف الانحدار إلى المجاعة، ولكن القيام بإجراءات سريعة لفرض توزيع المساعدات يمكن على الأقل أن يجنّبنا النتائج الأكثر كارثيّة.
ألعاب الجوع
بدأت الحرب في السودان في نيسان/ أبريل 2023، عندما انقلب حميدتي على البرهان، شريكه السابق في المجلس العسكري الحاكم آنذاك في السودان. وقبل 18 شهرًا من ذلك، كان القائدان العسكريان قد أطاحا بالحكومة المدنية في السودان وسيطرا على الحكومة بشكل مشترك، لكن التحالف انهار وحاول حميدتي مع قوات الدعم السريع التابعة له الاستيلاء على السلطة.
كانت النتيجة صراعًا مسلحًا شرسًا سرعان ما أشعل حملة التطهير العرقي التي شنتها قوات الدعم السريع في دارفور التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. وفي الوقت الحاضر، تسيطر قوات الدعم السريع على جزء كبير من البلاد غرب النيل وأراضي القوات المسلحة السودانية في الشرق، بينما لا تزال الخرطوم ساحة معركة.
وتشتهر قوات الدعم السريع بالمجازر والنهب والاغتصاب، بينما تُعرف القوات المسلحة السودانية بالقصف الجوي للمناطق المدنية. وتُحاصر قوات الدعم السريع حاليًا آخر حصن للقوات المسلحة السودانية في دارفور، في مدينة الفاشر، مما يهدّد بوقوع كارثة. وفي الأسبوع الثاني من شهر حزيران/ يونيو، هاجمت القوات آخر مستشفى متبقٍ هناك وأغلقته.
كان من المتوقع أن تخلق هذه الحرب أزمةً غذائية. فحتى قبل اندلاع القتال، كانت منظمات الإغاثة الدولية تتوقع أن ثلث سكان السودان سيحتاجون إلى مساعدات إنسانية في سنة 2023، بوجود عدة ملايين من النازحين من حرب دارفور قبل 20 سنة الذين كان الكثيرون منهم يعانون بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي أثارها انفصال جنوب السودان الغني بالنفط في سنة 2011. والآن، مع الحرب التي تجتاح البلاد بأكملها، انهارت – أو على وشك الانهيار – ركائز الاقتصاد الغذائي الوطني واحدةً تلو الأخرى.
كان محصول السنة الماضية في المزارع التجاريّة الكبرى هزيلاً بسبب نقص القروض والوقود والأسمدة. علاوة على ذلك، اجتاحت قوات الدعم السريع في تشرين الثاني/ نوفمبر منطقة السلة الغذائية في الجزيرة جنوب العاصمة، ونهبت المزارع والمطاحن الغذائية والجامعة الزراعية في المنطقة.
وطُرد صغار المزارعين من منازلهم، وسُرقت ماشيتهم، وأصبحت أسواقهم مهجورة. وأصبحت معظم قطعان الماشية – إما مسروقة أو تم شراؤها من الرعاة اليائسين بأسعار زهيدة – الآن مملوكة لعصابات من التجار تحتكر تجارة التصدير المربحة. كما توقفت شحنات القمح من أوكرانيا التي كانت تغذي المدن السودانية بسبب عدم قدرة الحكومة على الدفع. وانهار الاقتصاد الحضري مما دفع ما لا يقل عن مليون سوداني من الطبقة الوسطى إلى اللجوء إلى الخارج.
اختفت شحنات المساعدات الغذائية التي عادةً ما كانت تكفي سكان البلاد النازحين الذين كانوا يعيشون في المخيّمات، التي أصبحت مدن صفيح حول بلدات دارفور. وفي غضون أسابيع قليلة، ستضيف بداية موسم الأمطار المزيد من التحديات. ففي السنوات السابقة، كان بإمكان برنامج الأغذية العالمي تخزين الإمدادات في المناطق التي يصعب الوصول إليها.
ولكن هذه السنة، عندما تصبح الطرق المؤدية إلى المناطق الريفية الأكثر تضررًا بطيئة أو حتى غير صالحة، لن يكون هناك احتياطي يمكن الاعتماد عليه. وتقع الجنينة في دارفور على مسافة أبعد من أي ميناء بحري مقارنة بأي مدينة أفريقية أخرى، وحتى في أوقات السلم قد يستغرق وصول الشاحنات إليها أسابيع. والآن، يمكن أن تكون معزولة تمامًا.
اعتمد كلا الجيشان على التجويع التجويع كسلاح حرب. ففي الأشهر القليلة الماضية وحدها، أجبرت قوات الدعم السريع ما يصل إلى مليون شخص من سكان دارفور على الفرار من ديارهم ليلجأ العديد منهم إما إلى مدينة الفاشر المحاصرة أو إلى جبال مرة التي يسيطر عليها جيش تحرير السودان – وهي جماعة متمردة مستقلة – ولا توجد موارد لدعم هؤلاء اللاجئين.
وقد سيطرت قوات حميدتي بالفعل على خزان المياه في الفاشر، مهددةً بقطع إمدادات المياه عن المدينة، ونهبت آخر مستشفى متبقٍ فيها. وفي الوقت نفسه، تلعب القوات المسلحة السودانية لعبة أكثر ازدواجية. فقد حرصت على أن تكون أزمة الغذاء في مناطق شرق السودان التي تسيطر عليها أقل حدة: ذلك أن هذه المناطق قريبة من بورتسودان، مركز الاستيراد في البلاد، وتريد القوات المسلّحة السودانية إطعام هؤلاء الناس. في المقابل، هي على استعداد لترك أولئك الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع يعانون من الجوع، بل وتعرقل الجهود الدولية لمعالجة الأزمة.
أحد مقاييس المجاعة الدولية المعتمدة معروف بالتصنيف المراحلي للأمن الغذائي المتكامل. وباعتباره أشبه بمحكمة إنسانية عليا، من المقرر أن تقوم لجنة مراجعة المجاعات بناء على التصنيف المرحلي للأمن الغذائي المتكامل بتقييم الوضع في السودان قريبًا.
لكن فريق عمل التصنيف المرحلي للأمن الغذائي المتكامل في السودان تتحكم فيه الحكومة السودانية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة – وللقوات المسلحة السودانية مصلحة في تجنب الإعلان الرسمي عن المجاعة في دارفور لأن ذلك من شأنه أن يزيد من الضغوط للسماح بتدفق المساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
ويبدو أن الأرقام الأخيرة الصادرة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تشير إلى أن 750 ألف شخص في وضع غذائي “كارثي”. لكن معظم الخبراء المستقلين في المجال الإنساني يعتقدون أن الوضع أسوأ بكثير – أي أن هناك على الأرجح مجاعة بالفعل في عدة مناطق.
حتى في الأسابيع الأولى للحرب، حذّرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية من أزمة تلوح في الأفق في مخيّمات النازحين في السودان: ففي الخرائط الملونة التي تستخدمها الوكالة كنظام إنذار مبكر للمجاعة، حوّلت الوكالة تصنيف المخيمات من اللون الأصفر أي “تحت الضغط”، إلى اللون الأحمر أي “الطوارئ”.
وفي أحد هذه المخيمات – مخيّم زمزم، بالقرب من الفاشر – يفيد العاملون المحليون في المجال الإنساني الآن بأن الأطفال يموتون يوميًا بسبب الجوع والعدوى. وبشكل عام، 90 بالمئة من الأشخاص الأكثر عرضة للخطر موجودون في دارفور والمناطق الأخرى التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. وبالمقارنة بين المخزون الغذائي الوطني في السودان والاحتياجات الغذائية للسكان، حذّر معهد كلينجندايل في لاهاي الشهر الماضي من أن ما يصل إلى 5 بالمئة من السكان – 2.5 مليون شخص – قد يهلكون قبل نهاية السنة.
أرخص سلاح
إحدى أكثر المفارقات قسوةً في حالة الطوارئ الغذائية في السودان هي أن معاناة أطفال البلاد تصب في مصلحة الطرفين المتحاربين. ففي غرب البلاد، يحكم حميدتي أرضًا جائعة – بينما يعيش قادته ومقاتلوه في رخاء. أما الذين يتضوّرون جوعًا فهم جماعات المساليت والفور والزغاوة العرقية التي استهدفتها قوات الدعم السريع للتطهير العرقي، أو التي استولى مقاتلو حميدتي على كل ما يمكن سرقته أو أكله من أراضيها.
هذا هو حجم الدمار الذي لحق بالمزارع ومطاحن الدقيق والأسواق والمستشفيات لدرجة أنه شوه سمعة قوات الدعم السريع بين الكثير من السكان. والآن، أصبحت قوات الدعم السريع مستعدة لتفادي المساعدات الغذائية بنفسها حيث تطالب التجار ووكالات الإغاثة برسوم عالية بالدولار مقابل كل شاحنة تسمح بمرورها. وهذا يضع مانحي المساعدات في مأزق: إلى أي مدى ينبغي عليهم دعم مرتكبي المجاعة من أجل إطعام ضحاياهم؟
في الوقت نفسه، يعتقد الجيش السوداني أنه من خلال فرض المجاعة في مناطق قوات الدعم السريع، فإن ذلك من شأنه أن يدمّر قاعدة الجماعة. تقول النظرية إنه مع حرمانهم من الموارد، فإن المقاتلين البدو الذين يشكّلون القوات الأساسية لحميدتي سوف يصبحون مضطربين وينقلبون عليه.
ومن ثم، استخدمت القوات المسلحة السودانية سلطتها باعتبارها الحكومة المعترف بها دوليًا لمنع الأمم المتحدة من نقل شحنات المساعدات من الشرق- من المناطق التي تسيطر عليها عبر خطوط القتال إلى دارفور – ومن الغرب، عبر الحدود التشادية مباشرة إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. والاستثناء الوحيد الذي سمحت به هو ممر واحد إلى الفاشر، لكنه أصبح غير صالح بسبب الهجوم المكثف لقوات الدعم السريع. ومن المرجح أن تؤدي معركة واسعة النطاق للسيطرة على الفاشر إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين والمجاعة.
يعرف عمال الإغاثة المخضرمون هذه الاستراتيجيات من حروب السودان السابقة. ففي الثمانينات والتسعينات، حاولت الخرطوم تجويع جنوب السودان ثم أغرت الفصائل اليائسة من المتمردين للانقلاب على رفاقهم في السلاح من خلال عروض المال والترخيص للنهب. وكان هدفهم السيطرة على المناطق الغنية بالنفط المهجورة في الجنوب.
وقد أدت حملاتهم في نهاية المطاف إلى مقتل ما لا يقل عن مليون شخص. وحتى اليوم، يأسف الجنرالات الذين قادوا تلك الجهود لأن المساعدات الإنسانية الدولية منعتهم من إنهاء حرب المجاعة تلك. وبدلاً من ذلك، أصبحت شحنات الإغاثة الغذائية – من وجهة نظرهم – بمثابة حصان طروادة: فقد أبقت المساعدات التمرد على قيد الحياة، وأصبح عمال الإغاثة متعاطفين مع قضية المتمردين، وكانت النتيجة استقلال جنوب السودان في سنة 2011.
لن يكرر الأعضاء رفيعو المستوى في القوات المسلحة السودانية هذا الخطأ الآن، نظرًا لأن المخاطر أعلى من ذلك. وفي ذلك الوقت، كان المتمرّدون الجنوبيّون بعيدين عن الخرطوم. والآن، أصبحت العاصمة على الخطوط الأمامية للصراع، بعد أن كادت قوات حميدتي أن تجتاح المدينة السنة الماضية وما زالت تتحصن هناك. ومن المؤكد أن قوات الدعم السريع تخطط لشن هجوم جديد دون هزيمة.
اللامبالاة العربية
رغم بوادر الأزمة الواضحة، لم تحرز الجهود الدولية للحد من المجاعة أيّ تقدم يُذكَر. في غضون أسابيع من بدء الحرب السنة الماضية، عقدت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية محادثات لوقف إطلاق النار بين قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في جدة. لم يوقف الاجتماع القتال، لكن وقّع الجانبين على إعلان الالتزام بحماية المدنيين في السودان – ووعدا رسميًا بالوصول الآمن للمساعدات الإنسانية، واستعادة الخدمات الأساسية، وحماية المدنيين في الصراع المستمر.
ولكن منذ ذلك الحين، تجاهل الجانبان هذا الإعلان، ولم تكن مبادرات الوساطة الأخرى أكثر نجاحًا. وفي شباط/ فبراير، وجّهت الأمم المتحدة نداءً طارئا لجمع 2.7 مليار دولار للسودان، لكنها لم تجمع سوى 15 بالمئة من المبلغ المحدد.
هناك سبب أكثر أهميّة وراء الفشل المستمر لمحادثات السودان. حتى الآن، فشل الزعيمان الخليجيان – ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات محمد بن زايد – اللذان يتمتعان بالقدرة على جلب البرهان وحميدتي إلى طاولة المفاوضات بشكل مشترك، في التعامل بجدية مع الأزمة. وقد استضاف السعوديون المحادثات، لكن محمد بن سلمان لم يرغب في مشاركة الإمارات. ومن جهتها، لا تريد الإمارات أن يؤثر السعوديون على الاتفاق – أو أن يحصلوا على الفضل فيه.
يتشابك التاريخ في هذه المسألة. فقبل تسع سنوات، عندما شنّت المملكتان الخليجيتان حربهما ضد الحوثيين في اليمن، قامتا بتجنيد القوات المسلحة السودانية للقتال في تحالفهما المناهض للحوثيين. وكان البرهان قائد تلك الوحدة التابعة للقوات المسلحة السودانية. لكن في الوقت نفسه، قدم حميدتي مقاتلي قوات الدعم السريع بموجب عقود خاصة لكل من السعوديين والإماراتيين.
وأصبحت شركة الجنيد العائلية لحميدتي، موردًا مهمًا للذهب إلى الإمارات. واليوم، هناك دلائل تشير إلى أن الإمارات تقوم بتسليح وتمويل قوات الدعم السريع، وهي الاتهامات التي نفتها أبو ظبي بشكل غير مقنع.
سمحت السعودية، بفضل صلاتها بالبرهان، لمصر وقطر وتركيا بدعم القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك بالأسلحة، كما منعت مبادرات السلام الأخرى. وهذا النوع من التدخّل من كلا الجانبين يعني أن أيّ تقدم بشأن وقف إطلاق النار سيتطلب عملاً مشتركًا من جانب الرياض وأبوظبي.
في ظل غياب أي مؤشرات في الأفق على نهاية الحرب، قامت جهات خارجية أخرى بصب الوقود على النار. ففي أواخر السنة الماضية أرسلت إيران طائرات مسيّرة إلى القوات المسلحة السودانية في إطار جهودها لإحياء علاقاتها مع الإسلاميين السودانيين الذين يدعمون القوات المسلحة السودانية. وفي أيار/ مايو، اتّخذت روسيا خطوات نحو التوصّل إلى اتفاق مع القوات المسلحة السودانية بشأن منشأة بحرية في بورتسودان – ومع أن مجموعة فاغنر شبه العسكرية التابعة لها لا تزال مرتبطة بشكل وثيق بقوات الدعم السريع، فإن روسيا لديها الآن حصص في كلا المعسكرين المتحاربين.
في نهاية أيار/ مايو، عندما اتّصل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بالبرهان للضّغط عليه لحضور محادثات السلام المتجددة في جدة، رفض البرهان بسرعة. بدلاً من ذلك، أرسل نائبه، مالك عقار، لعقد اجتماعات في روسيا لوضع اللمسات الأخيرة على مجموعة من اتفاقيات التعاون – وكان الاتفاق الأساسي تسلّم الأسلحة الروسية مقابل قاعدة البحر الأحمر. ومن الواضح أن محادثات جدة التي كان من المفترض أن تسفر عن سلام شامل قد فشلت.
بالنسبة لمحمد بن سلمان ومحمد بن زايد، يعد السودان ترسًا صغيرًا في الإسطرلاب الخاص بهما. وبما أن الولايات المتحدة تلعب دورا أقل في الأمن الإقليمي، فقد حاولت القوتان الخليجيتان التعاون والمنافسة في مصر وإريتريا وإثيوبيا وليبيا والصومال وكذلك السودان.
إن المخاطر الجيوسياسية المحيطة بالبحر الأحمر كبيرة، خاصة أنه الممر البحري الذي يربط بين أوروبا وآسيا، وسوف تشكل خطوط السكك الحديدية المخطط لها من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج حلقة وصل مركزية في الممر الاقتصادي المتصور بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا. لقد هزّت الحرب الإسرائيلية في غزة المنطقة وتطلّبت من ممالك الخليج السير على حبل مشدود بين “إسرائيل” والولايات المتحدة من جهة، وإيران وعملائها ووكلائها من جهة أخرى. ومع كل هذا الاهتمام الإماراتي والسعودي، تفاقمت الحرب والمجاعة في السودان.
ما الذي يجب على العالم فعله؟
خاض الجنرالات السودانيّون حروب مجاعة لعقود من الزمن بما في ذلك في دارفور. وحين أدليت بشهادتي كشاهد خبير في القضية الأولى التي حوكم فيها أحد أفراد ميليشيا الجنجويد بتهمة ارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية قبل سنتين، أكدت شهادتي على هذا التكتيك باعتباره عاملًا حاسمًا في الخلفية. وفي الحرب الحالية، يستخدم المتحاربون هذه الاستراتيجية في صراعهم من أجل البلد بأكمله، مما يعرّض أعدادًا أكبر للخطر. وما يزيد من قسوة هذه المأساة التي تلوح في الأفق أن العديد من الأرواح يمكن إنقاذها بمجرد فرض إيصال المساعدات إلى من هم في أمس الحاجة إليها.
ومن المشجّع أن العزم المتزايد على اعتبار تجويع المدنيين جريمة حرب يشير إلى أن المسؤولين الدوليين وزعماء العالم ربما أصبحوا أخيرا على استعداد لمحاسبة الجناة. وفي إعلانه بتاريخ 11 حزيران/ يونيو، قال خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، إنه يجمع أدلة على الهجمات “المتكررة والموسعة والمستمرة” ضد السكان المدنيين في دارفور. ومع أنه لم يذكر جرائم التجويع تحديدًا، إلا أنه يعرف جيدًا من يرتكبها وكيف. إن عجلات العدالة تدور ببطء، ولكن حان الوقت لوضع الرجال الذين يتسببون في أزمات الجوع في السودان تحت المجهر. وإذا تحرّكت المحكمة الجنائية الدولية، فيتعيّن على العالم أن يصطف دعما لها.
لكن حتى لو قرّرت المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال رسميّة، فقد يكون الوقت قد فات لمنع عشرات الآلاف من الأطفال في السودان وكردفان المجاورة من الموت جوعا. وهناك حاجة ماسة إلى حلول أكثر استعجالا.
خلال المجاعة التي شهدتها إثيوبيا في الثمانينات، ناشد بوب جيلدوف، المغني الأيرلندي الذي نظم منظمة “لايف للإغاثة”، الجمهور العالمي لـ “إطعام العالم”. وفي ذلك الوقت، كانت الحكومة الشيوعيّة في إثيوبيا تشن حرب مجاعة ضد المتمردين في إريتريا وتيغراي. وبعد الضغط عليه من أجل اتباع مقولة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بأن الطفل الجائع لا يعرف السياسة، أصدر الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في نهاية المطاف تعليماته إلى إثيوبيا بالسماح بتسليم المساعدات السرية التي تنظمها الولايات المتحدة عبر خطوط المعركة.
واليوم، لدى محمد بن سلمان ومحمد بن زايد فرصةٌ لممارسة نفوذ مماثل. وبوسع الرجلين أن يختارا إنقاذ الأرواح، وتحقيق الاستقرار في المحيط الاستراتيجي لبلديهما، ومنع ما يمكن أن يضر سمعة البلدين بشكل كبير.
إن التوصل إلى اتفاق بين البلدين الخليجيين لن يفعل سوى الكثير، وسيتطلب السلام متابعة سودانية. لكن أي اتفاق بين الرياض وأبو ظبي من شأنه أن يفتح الباب على الأقل أمام مفاوضات حقيقية، بدءاً بالإغاثة العاجلة من المجاعة.
إن وقت العمل ينفد. وتعمل إيران وروسيا بالفعل على تعقيد الأمور الجيوسياسية للحرب، وسوف تؤدّي المجاعة المتكشفة إلى توليد المزيد من الفوضى. لكن في الوقت الحالي، لا تزال هناك فرصة لتجنّب النتيجة الأسوأ. ومن خلال ضغوط من واشنطن، يمكن للسعودية والإمارات أن تأخذ زمام المبادرة في إيصال المساعدات الغذائية إلى حيث يجب أن تذهب. وإذا لم يفعلوا ذلك، فقد يرتبط محمد بن سلمان ومحمد بن زايد إلى الأبد بمجاعة جيل كامل من الأطفال السودانيين.
المصدر: فورين أفيرز