لا أنافق غزة بمديح جهادها ونصرها، ولكني أحاول الوصول إلى عمق الشعور الحزين الذي رافق قومًا كثيرًا تمزقوا بين المشاركة في احتفالات العيد في بيوتهم ووسط عوائلهم وبين مشاهدة غزة. وخلف السؤال سؤال هل يكفي أن نتظاهر بالحزن على غزة في عيدها الذي مر تحت القصف وتحت سماء لاهبة وأهل غزة لا يملكون شربة ماء نظيفة ومبردة مثلنا فضلًا عن لحم خروف؟ يتسع السؤال إلى سبب تراخي المسلمين عامة والعرب منها خاصة عن النصرة في وقت العسرة؟ ليست لدي إجابات اطمئن إليها وهي ليست المرة الأولى ولا أراها الأخيرة التي أطرح فيها السؤال وأقف عاجزًا عن الفهم، فضلًا عن التفسير.
لم يبك الحجيج وحدهم
لم تقصر التلفازات في نقل مشاعر الحجيج الذين يدعون لغزة فرادى أو جماعات صغيرة نجت من المطوعة الجدد من جماعة (جاهد بالسنن يا أبا عبيدة)، لكن مرة أخرى نشهد حجًا مفككًا بلا مشروع سياسي. منع الحج والحجاج من التحول إلى قوة سياسية كونية تمارس الضغط السياسي على قوى عالمية تظل مهما تسلحت بأسلحة الموت تخشى العدد وترهب الهبات الجماعية.
كان الحج في ما عرفنا من تاريخ الإسلام مناسبة سياسية تؤلف المؤمنين على قضاياهم وتشد صفوفهم في حروبهم، وكان الخلفاء يتقصدون الحج بحثًا عن شرعية، لكنه تحول في زمن المطوعة إلى صلاة أقرب إلى الصمت رغم التلبية المستمرة. حج تحت المراقبة بعد أمر تجريم التضامن مع غزة وهو أمر أقرب إلى الفتوى الدينية.
الحج ورقة سياسية عربية وإسلامية مهدرة بنفس الإرادة السياسية التي منعت التضامن في الشوارع العربية. مشاعر العالم الحر جائشة مع غزة وحقها التاريخي، وكان الأولى بأهل غزة أن يكونوا الأقرب إليها، وكان الحج مناسبة جبارة لكشف القوة والموقف وتحديد الشروط لإنقاذ غزة وما حولها. كان يكفي السماح للناس بالتعبير لينقلب مليونا حاج إلى صوت غزاوي يكشف مكان قوة الأمة في اللحظة وفي المستقبل، وكان صوتًا كافيًا لتهديد نفط العالم.
لدينا في لحظة الكتابة أمل آخر نعلقه على غزة أن تنهي في مدى زمني منظور زمن الحج المقيد بشروط الأنظمة، فيعود للحج دور المهرجان السياسي العالمي وكم على غزة من مسؤوليات تاريخية ونحن نخطط لها من خلف الحواسيب.
لا علم لي بالحرب
أقبل التهمة على نفسي ليتخفف المبررون من إثم التبرير، فجماعة الانتصار بالنقاط نقطونا بعلمهم بالحرب، وكل الظروف تشير إلى انكسار العدو عسكريًا وسياسيًا، لقد انكشف عن خواء عظيم ولم يعد يخيف أحدًا، لقد فضحته غزة بقليل من صبر وجلد، بعبع فارغ وحلفاؤه الذين خلقوه ودعموه غارقون في ألف مأزق داخلي يكبل قدرتهم على النجدة كما حدث في أزمنة سابقة.
نقول لمن يحسب النقاط ويطيل المقابلة أن الوقت مناسب للإجهاز ونقل المعركة إلى داخل الأرض المحتلة وإحداث إرباك واسع يجبر الداعمين على طاولة تفاوض على مستقبل أمة كاملة. صيف واحد وثمن بحجم ما دفعت غزة من أجل الأمة لا من أجل نفسها ثم يكون المستقبل ولكل منه حسب جهاده.
لماذا لا يهاجمون ويكتفون بترديد جملة سخيفة عن مراعاة قواعد الاشتباك؟ نراهم يفقدون مبررات الهيمنة على العراق وسوريا ولبنان واليمن. هيمنة تأسست وبرر لها بتحرير القدس. لم تكن القدس أقرب إلى التحرير مما هي الآن لكن بماذا ستبرر الهيمنة على بلدان ليست محتلة بشكل فاضح ولكنها ليست حرة في تقرير من يحكمها من أهلها؟ الإجهاز على العدو بضربة قاضية وهو تقريبًا مفكك داخليًا ومنهار عسكريًا فرصة متاحة تشبه فرصة الضغط على اقتصاد العالم بجمهور الحجيج بما هي إطلاق سراح الشارع العربي والمسلم عبر العالم.
قد يحسم الأمر في غزة بصفقة ترضاها المقاومة، لكن ستكون فرصة للعدو لترميم كيانه وإعادة بناء قدراته ورص جبهته المفككة ساعاتها لا نود أن نسمع حديث الندم وسنقول للنادمين لا علم لكم بالحرب ولا بالملاكمة وهنيئًا لكم نفط العراق.
أعياد غزة ليست حزينة
تابعنا بألم وأكبرنا الصبر وزاد إيماننا بقوم غزة المستقلّين عن كل حسابات بالنقاط وبجهاد طول اللحية وحلق الشارب. نحن أحزن من غزة لأننا لم نشارك غزة حربها بوسائلنا المتاحة وهي كثيرة. توقف خيال نخبنا عن الإبداع وبهتت شعوبنا واكتفت بالعبارات الحزينة وكثير لم يبخل بالدمع وما نظن غزة تحتاج دموعنا.
التضامن القلبي لا يكفي غزة وهو ليس كفؤًا لما قدمت للأمة المحتلة ولن يكون. هناك معركة في كل قطر ضد من يحرم تحويل الحج إلى مهرجان سياسي كوني وضد من يمن على غزة الإسناد بالنقاط وضد من يقف بيننا ويهز كتفيه ويقول (شو راحلنا بغزة؟) ويحتفل بأعياد باريس.
هذا سبب حقيقي للحزن في أعياد غزة. المتخاذلون يجب أن يحزنوا لأنهم نزلوا تحت مستوى المسؤولية التاريخية واكتفوا بالدموع أو بأقل منها. ربما تكون هذه بعض الإجابة عن الأسئلة المطروحة أعلاه لكنها ليست كافية لأن الحزن الحقيقي ناتج عن الضعف في كل قطر ولدى كل شعب في عزلته عن البقية رغم التشدق بالخطاب القومي.
شعوب تعرف الصواب ولا تقوم إليه، جديرة بالحزن على وضعها الراهن وعلى مستقبلها، أما غزة فقد نجت واحتفلت بعيدها على طريقتها وما ضرها أن يغيب لحم الخروف عن مائدة أطفالها لقد كان لحم الخروف على موائدنا مرًّا.