حتى أربعة أجيال.. “إسرائيل” قتلت في حربها على غزة عائلات بأكملها

ترجمة وتحرير: نون بوست

يوسف من بين آخر الناجين من أفراد عائلته في غزة، وهي عشيرة قريبة جدًا لدرجة أنهم يعرفون بعضهم دون التفكير في مدى ارتباطهم بالدم والزواج عبر الأجيال والمدن. قُتل 173 فردًا من أقارب يوسف سالم في غضون أيام جراء غارات جوية إسرائيلية في كانون الأول/ ديسمبر. وبحلول الربيع، ارتفع هذا العدد إلى 270.

تناثرت أشلاء العظام واللحم على أنقاض منازل أفراد هذه العائلة. كان شعر ابن عمه الصغير الأشقر المجعد يطل من خلال الطوب. كانت جثث مجهولة الهوية مكدسة على عربة يجرها حمار. صفوف من الأكفان التي تنتظر الدفن. هذه الصور هي كل ما تبقى للناجين من مئات العائلات في غزة مثل آل الأغا وسالم وأبو النجاة. تقتل إسرائيل عائلات فلسطينية بأكملها إلى درجة لم يسبق لها مثيل، وهي خسارة أكثر تدميرا من الدمار المادي والتشريد الجماعي.

قُتل أكثر من 100 فرد من عائلة الآغا في غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. لفهم ما حدث للعائلة، قامت وكالة أسوشيتد برس بمراجعة منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وتحدثت مع الناجين والأقارب.

رصد تحقيق أجرته وكالة أسوشيتد برس ما لا يقل عن 60 عائلة فلسطينية قُتل منها حوالي 25 شخصًا – أحيانًا أربعة أجيال من نفس العائلة – في تفجيرات وقعت بين تشرين الأول/ أكتوبر وكانون الأول/ ديسمبر، وهي الفترة الأكثر دموية وتدميرًا في الحرب. فقدت حوالي ربع تلك العائلات أكثر من 50 فردًا في تلك الأسابيع. ولم يبق لدى العديد من هذه العائلات تقريبًا أي شخص لتوثيق الخسائر، خاصة أن توثيق المعلومات ومشاركتها أصبح أكثر صعوبة.

كان لدى يوسف سالم قرص صلب مليء بصور الموتى. لقد أمضى أشهرًا في ملء جدول بيانات بتفاصيلهم الحيوية مع تأكيد خبر وفاتهم للحفاظ على الرابط الأخير بشبكة العلاقات التي كان يعتقد أنها ستزدهر لأجيال أخرى. قال يوسف سالم من منزله في إسطنبول: “لقد مُحق أثر جميع أعمامي. أرباب الأسر وزوجاتهم وأولادهم وأحفادهم”. وفي العقدين الأخيرين، قُتل 10 من أفراد عائلته في غارات إسرائيلية لكن “لا شيء يضاهي هذه الحرب”.

يوسف سالم يعمل على حاسوبه في إسطنبول، تركيا، الأربعاء 17 نيسان/ أبريل 2024.

شملت مراجعة وكالة أسوشيتد برس سجلات الضحايا الصادرة عن وزارة الصحة في غزة حتى شهر آذار/ مارس، وإشعارات الوفاة عبر الإنترنت، وصفحات وجداول البيانات على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالعائلات والأحياء، وحسابات الشهود والناجين، بالإضافة إلى بيانات الضحايا من منظمة “إيروورز” لمراقبة الصراعات التي يقع مقرها لندن.

قُتل من عائلة المغربي أكثر من 70 شخصًا في غارة جوية إسرائيلية واحدة في كانون الأول/ ديسمبر. وقُتل من عائلة أبو النجاة أكثر من 50 شخصًا في غارات تشرين الأول/ أكتوبر، بما في ذلك امرأتان حاملان على الأقل. وفقدت عشيرة دغمش الكبيرة ما لا يقل عن 44 فردًا في غارة على أحد المساجد؛ ووثّقت وكالة أسوشيتد برس مقتل أكثر من 100 من أفراد هذه العائلة في الأسابيع التالية. وبحلول الربيع، قُتل أكثر من 80 فردًا من عائلة أبو القمصان.

قال حسام أبو القمصان، الذي يعيش في ليبيا وتولى توثيق حصيلة القتلى في أسرته، بينما كان أقاربه في غزة يكافحون من أجل تتبعها، إن “الأرقام صادمة”. في حرب 2014 التي استمرت 51 يوما، كان عدد الأسر التي فقدت ثلاثة أفراد أو أكثر أقل من 150 أسرة. وفي هذه الحرب، عانت حوالي 1900 أسرة من وفيات متعددة بحلول شهر كانون الثاني/ يناير، بما في ذلك أكثر من 300 أسرة فقدت أكثر من 10 أفراد في الأشهر الأولى من الحرب، وذلك حسب وزارة الصحة في غزة.

قال رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومقره جنيف، الذي يراقب حرب غزة، إن العشرات من باحثيه في غزة توقفوا عن توثيق الوفيات العائلية في آذار/ مارس بعد تحديد أكثر من 2500 عائلة شهدت ثلاث حالات وفاة على الأقل. وقال عبده: “لا يمكننا مواكبة إجمالي عدد القتلى”.

إن قتل العائلات بأكملها جزء أساسي من قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضد إسرائيل والمعروضة الآن أمام محكمة العدل الدولية. وبشكل منفصل، يسعى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار أوامر اعتقال بحق اثنين من القادة الإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل العمد للمدنيين، بالإضافة إلى ثلاثة من قادة حماس بسبب جرائم مرتبطة بهجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وقال عبده إن الفلسطينيين سيتذكرون عائلات بأكملها اختفت من حياتهم، مشيرا إلى أن “الأمر يبدو وكأن قرية صغيرة قد تم محوها”.

دون سابق إنذار

إن الوفيات عبر الأجيال تمحو المجتمع الفلسطيني والتاريخ والمستقبل. يتم دفن عائلات بأكملها في مقابر جماعية، أو في باحات المستشفيات، أو تحت سلالم المنازل التي قُتلوا فيها.

جرافة تفرغ جثث الفلسطينيين الذين قُتلوا في الغارات الإسرائيلية وقام الجيش الإسرائيلي بتسليم رفاتهم خلال جنازة جماعية في رفح، قطاع غزة، الثلاثاء، 26 كانون الأول/ ديسمبر 2023.

إن الحصول على صور ووثائق مفصلة أمر صعب حتى بالنسبة للفلسطينيين. وتقتصر الكهرباء على المستشفيات وتقوم إسرائيل بقطع شبكات الاتصالات بشكل متكرر. نزح جميع سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة تقريبًا، مما أدى إلى تقسيم الأسر وصعوبة التواصل عبر أجزاء من القطاع الصغير. وتمتلئ المنازل التي عادة ما تؤوي عائلة مصغّرة بأجيال متعددة من الأقارب النازحين.

هاجم مسلحو حماس من غزة إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص في أدمى يوم في تاريخ الدولة اليهودية الممتد 75 سنة. ردًا على ذلك، وعدت إسرائيل بتدمير قيادة حماس وقوتها المقاتلة التي يقدر عددها بـ 35 ألف جندي. وفي غضون خمسة أيام، أسقطت القوات الجوية الإسرائيلية 6000 قنبلة على غزة، بما في ذلك العديد من الصواريخ غير الموجهة.

أدى القصف الإسرائيلي المستمر منذ ذلك الحين إلى مقتل أكثر من 37 ألف فلسطيني بحلول أوائل حزيران/ يونيو، بما في ذلك العديد من النساء والأطفال. وقُتل أحد عشر فردا من عائلة الآغا في غارة واحدة على منزل العائلة في الأسبوع الأول من الحرب. ثم وصل شبح الموت إلى منزل خميس الآغا في الأسبوع الثاني.

في هذه الصورة التي قدمتها عائلة الآغا، سكان منطقة غرب خان يونس في غزة يتفقدون الأنقاض في أعقاب غارة جوية على منزل عائلة مهند الآغا، الذي قُتل مع زوجته وابنتيه الصغيرتين، ووالده وأمه وأربعة من إخوته الستة في غارة جوية إسرائيلية في 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

في سنة 2021، تلقى خميس الآغا، الموظف في مؤسسة خيرية مرتبطة بحماس، مكالمة هاتفية من جندي إسرائيلي يلمح إلى علاقاته بالجماعة المسلحة ويحذره بضرورة إخلاء منزله في خان يونس لتجنب غارة جوية وشيكة في مكان قريب. سجّل الآغا هذه المكالمة ونشرها على الإنترنت ولم يرحل ولم يُقتل أحد.

وفي 14 تشرين الأول/ أكتوبر ودون سابق إنذار قتلت غارة جوية خميس الآغا و10 آخرين، بينهم زوجته وأطفالهما الأربعة الصغار، وشقيقه وابنه البالغ من العمر 9 سنوات وابنته البالغة من العمر 3 سنوات؛ وابن عمه وابنه البالغ من العمر 18 سنة. وقد نجت زوجة الأخ فقط. ساعد جاسر الآغا، وهو ابن عم خميس، المسعفين في انتشال الجثث من تحت الأنقاض. قال جاسر الآغا: “لم يبق من المنزل شيء”.

أكد الجيش الإسرائيلي الغارات الجوية قائلا إنه أصاب أهدافا غير محددة تابعة لحماس بالقرب من المواقع التي حددتها وكالة أسوشيتد برس. وأضاف أن الأهداف كانت على بعد أمتار قليلة إلى 460 مترا (1500 قدم). ولم يقدم تفاصيل عن طبيعة الأهداف لكنه قال إنها أصابت مجمعا عسكريا لحماس في إحدى الضربات. ولم يذكر ما إذا كان قد اتخذ أي إجراءات للحد من الخسائر في صفوف المدنيين. وبشكل عام، قالت إسرائيل إنها تستهدف حماس وتتهم الجماعة المسلحة بتعريض المدنيين للخطر من خلال العمل بين السكان وفي الأنفاق تحتهم. ورفضت إسرائيل التعليق على ضربات محددة. وبشكل عام، قالت إسرائيل إنها تستهدف حماس وتتهم الجماعة المسلحة بتعريض المدنيين للخطر من خلال العمل بين السكان وفي الأنفاق الممتدة تحتهم.

وقال مسؤول إسرائيلي بارز للصحفيين في كانون الأول/ ديسمبر إن الجيش يقدّر أن مدنييْن فلسطينييْن قُتلا مقابل كل مقاتل من حماس، وهي نسبة وصفها متحدث باسم الجيش بأنها “إيجابية للغاية“. لكن الخبراء قالوا إنها تظهر قدرا أكبر من التساهل مع سقوط ضحايا من المدنيين مقارنة بالحروب السابقة. تقدّر إسرائيل أن 15 ألفًا من مقاتلي حماس قُتلوا بحلول شهر حزيران/ يونيو لكنها لم تقدم دليلًا أو تفسيرا. من غير الواضح ما إذا كان العدد يشمل رجالًا مثل الآغا، الذين عملوا في واحدة من مئات المنظمات المرتبطة بحماس أو مسؤولين في الحكومة التي أدارت شؤون قطاع غزة لأكثر من 16 سنة.

قالت إسرائيل إنها تتخذ إجراءات للتخفيف من الأضرار التي تلحق بالمدنيين، مثل إصدار تحذيرات مباشرة للمدنيين في الصراعات السابقة. لكن في هذه الحرب، تم استبدال هذا الأسلوب جزئيا بأوامر إخلاء لمناطق بأكملها لا يرغب أو لا يستطيع الجميع الانصياع لها. أشار كريغ جونز، المحاضر في جامعة نيوكاسل الذي درس دور المحامين العسكريين الإسرائيليين، إلى أنه من الواضح أنه تم تخفيف المعايير بسبب الغضب من هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر والسياسة الداخلية.

يسمح قانون الحرب بـ “نوع من أشكال الحرب المتسرعة” مع ارتفاع عدد الضحايا المدنيين حيث يحتاج الجيش إلى الاستجابة بسرعة وفي ظروف متغيرة، لكن”إسرائيل تنتهك القانون بشكل واضح للغاية لأنها تضغط على القواعد حتى الآن”، وذلك حسب جونز.

قامت وكالة أسوشيتد برس بتحديد الموقع الجغرافي وتحليل 10 ضربات من بين الهجمات الأكثر دموية في الفترة من 7 تشرين الأول/ أكتوبر إلى 24 كانون الأول/ ديسمبر، ووجدت أنها ضربت مباني سكنية وملاجئ كان بداخلها عائلات. لم يكن هناك بأي حال من الأحوال هدف عسكري واضح أو تحذير مباشر لمن هم بالداخل، وفي إحدى الحالات قالت أسرة إنها رفعت علمًا أبيض على المبنى الذي تسكنه في منطقة قتال. وأسفرت الغارات مجتمعة عن مقتل أكثر من 500 شخص، بما في ذلك التفجيران اللذان قضيا على عائلة سالم وثلاثة تفجيرات أخرى أسفرت عن مقتل 30 فردًا من عائلة الآغا. كما استشارت وكالة أسوشيتد برس ستة محققين في مجال الأسلحة ومحللين وخبراء مفتوحي المصدر.

بحلول الربيع، وثّقت وكالة أسوشيتد برس مقتل حوالي 100 فرد من عائلة الآغا في الغارات الإسرائيلية. دفن جاسر الآغا عددا من أقاربه أكبر مما يستطيع إحصاؤه، بما في ذلك ثلاثة من أبناء عمومته الذين يعتبرهم إخوته. وأضاف: “كنت أنتظر دوري”.

عندما تصبح الظهيرة ليلاً

عاشت عائلة رمزي أبو القمصان في مخيم جباليا للاجئين منذ تهجير عائلته في سنة 1948 من قرية دير سنيد الواقعة شمال غزة في ما يعرف الآن بإسرائيل. ومثل أغلبية الفلسطينيين في غزة، فإنهم لاجئون رسميًا، والأراضي مليئة بمخيمات شبه دائمة تطورت إلى مجتمعات حضرية على مر الأجيال.

كان مخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة، من بين أكثر المخيمات كثافة سكانية. وبعد ظهر يوم 31 تشرين الأول/ أكتوبر، سمع أبو القمصان أصوات طائرات حربية، ثم سلسلة سريعة من الانفجارات. قال أبو القمصان إنه “في غضون ثوانٍ، تحول النهار إلى ليل. شعرنا وكأن حاويات من المتفجرات والحديد أسقطت علينا. لقد كان صوتًا غريبًا ومخيفًا للغاية”.

ذكرت إسرائيل أنها استهدفت مركز قيادة لحماس في المخيم. وأظهرت مقاطع الفيديو، بما في ذلك الفيديو الذي صوره أبو القمصان، حفرًا عميقة ومباني مدمرة على مد البصر. وحيال ذلك قال: “لم أتمكن من رؤية الشوارع من المنازل. لقد تبخر الناس والأجساد”. وذهب إلى منزل عمه ليجد أن الهيكل المعدني الهش قد تحطم بالكامل.

حدّدت “إيروورز” هوية 112 مدنيًا قُتلوا في جباليا في ذلك اليوم، من بينهم 69 طفلًا و22 امرأة. إجمالاً، لقد قُتل 37 فردًا من عائلة أبو القمصان في المخيّم ومبنيين مجاورين، بما في ذلك أربعة من أبناء عمومته وعمته وابنته وحفيدته الذين كانت أجسادهم متعانقة.

في هذه الصورة التي قدمتها العائلة، رمزي أبو القمصان مع ابنته نور خارج منزلهم في مخيم جباليا للاجئين في غزة في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2022.

هذه الصورة التي قدمتها العائلة تظهر كعكة عيد ميلاد أسماء أبو القمصان في 25 تموز/ يوليو 2022.

من بين الضربات العشر التي حللتها وكالة أسوشيتد برس، كانت هذه الضربة الوحيدة التي حددت فيها إسرائيل هدفًا. كانت الخسائر في صفوف الفلسطينيين الأبرياء هائلة. أحدثت الغارات الجوية العديد من الحفر، التي قال خبراء الأسلحة إنها على الأرجح ناجمة عن بعض أكبر القنابل في الترسانة الإسرائيلية، وربما كانت صواريخ تزن 2000 رطل تستهدف الأنفاق والتي نادرًا ما تُستخدم في المناطق المأهولة بالسكان.

بعد أسبوعين، تعرّض منزل أبو القمصان نفسه، الذي لا يبعد سوى عدة أمتار عن الانفجار الكبير، للقصف. وتوفيت زوجته وابنته البالغة من العمر 5 سنوات ووالدته وشقيقتاه و10 آخرين من أقاربه بينما نجا هو وأبناؤه الثلاثة لأن غرفتهم في الطابق العلوي انهارت في الحفرة. نادى أبو القمصان اسم ابنته نور مرارًا وتكرارًا.

قال أبو القمصان الذي يملك اتصالًا هاتفيًا نادرًا لإرسال صوره خارج غزة بصفته صحفيًا: “تظاهر صديقي بأنه يحاول إنقاذها لتهدئتي. كنت أعلم أنها لن تعود ولن يتم إخراجها من تحت الأنقاض”. وإجمالاً، لقي 55 فردًا من عائلته حتفهم في جباليا في قصفين إسرائيليين يفصل بينهما أسبوعان. وبحلول الربيع، تمكنت العائلة من توثيق ما لا يقل عن 82 قتيلًا، معظمهم في جباليا.

في هذه الصورة التي التقطها رمزي أبو القمصان وهو يتفقد أنقاض منزله في مخيم جباليا للاجئين في غزة في 25 كانون الثاني/ يناير 2024، بعد أن أصيب في غارة جوية إسرائيلية في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. قتلت الغارة زوجته وابنته ووالدته وشقيقتيه و12 آخرين من أقاربه.

بالنسبة لعائلة عكاشة، كان مقتل ما لا يقل عن 33 فردًا من أفرادها، بمن فيهم الأجداد والأبناء والأحفاد، في قصف 31 تشرين الأول/ أكتوبر “مصيبة كبيرة. فنحن لسنا عائلة كبيرة”، وذلك على حد تعبير عبد الجواد عكاشة (61 سنة) الذي يعيش خارج غزة. وبحلول شهر أيار/ مايو، وثّقت العائلة مقتل 57 فردًا على الأقل من أفرادها.

قال بريان كاستنر، المحقق في الأسلحة بمنظمة العفو الدولية إن أي تحقيق في جرائم الحرب في غزة معقد بسبب وتيرة القصف، وصعوبة الوصول للكيانات المستقلة إلى غزة، ونقص الأدلة الجنائية. ومنذ تشرين الأول/ أكتوبر، وجدت منظمة العفو الدولية أدلة على وقوع هجمات مباشرة على المدنيين وهجمات غير قانونية وعشوائية في 16 غارة إسرائيلية على الأقل حققت فيها المنظمة وأسفرت عن مقتل 370 مدنيًا، بينهم 159 طفلاً و”أبادت عائلات”. تضمنت هذه الغارات ثلاثًا وقعت في نيسان/ أبريل الماضي.

استهدف القصف الأخير الذي حللته أسوشيتد برس مخيم المغازي للاجئين وسط غزة في 24 كانون الأول/ ديسمبر. قال محمد عابد، وهو صحفي وصل بعد وقت قصير من الغارات، إن الانفجارات الثلاثة جاءت بفارق أقل من ساعة. لقد أباد الأول عائلة مسلم. وأصاب الثاني نفس الطريق وقتل العديد من أفراد عائلة أبو حميدة، بما في ذلك مدرس الدراما. وأصاب الأخير منزلًا بعيدًا. قُتل ما مجموعه 106 أشخاص من ثماني عائلات على الأقل، وفقًا لسجلات المستشفى المكتوبة بخط اليد والتي أدرجت أعداد القتلى من كل عائلة، والتي حصلت عليها وكالة أسوشيتد برس. وكانت الأمم المتحدة قد أحصت في وقت سابق 86 قتيلًا.

قالت إسرائيل إنها كانت تلاحق مقاتلي حماس وقصفت “بالخطأ” هدفين متجاورين. ويعد هذا البيان النادر الأول من نوعه الذي تعترف فيه إسرائيل بالخطأ وتعرب عن أسفها “للإصابة التي لحقت بالذين ليسوا متورطين”. وقال مسؤول عسكري لهيئة البث العام الإسرائيلية “كان” إن السلاح الذي استُخدم كان خاطئًا.

قال جيفري كورن، وهو ضابط سابق في مكتب المدعي العام العسكري ومدير مركز القانون العسكري والسياسة العسكرية في جامعة تكساس للتكنولوجيا: “إن الخط الفاصل بين الضرورة العسكرية والخسائر المتناسبة في صفوف المدنيين يستند إلى حسن نية القائد الذي يتخذ القرار. إن هذا الخط غامض للغاية”.

إجمالًا، تضمن سجل وكالة أسوشيتد برس 2700 قتيل من أكثر من 70 عائلة، مع بعض التفاصيل التي لم تكن معروفة من قبل عن وفاتهم، مثل مكان مقتلهم أو من ماتوا معهم.

“كل ما نبنيه يتلاشى”

تصل القرابة إلى ما هو أبعد من الأسرة المصغّرة في غزة. فالمجمعات السكنية، وهي في كثير من الأحيان مبانٍ متعددة من ثلاثة طوابق أو أكثر، تشغلها عائلة كاملة. فالعائلة الممتدة هي وحدة اقتصادية مستقلة، ويسدد الأقارب ديون بعضهم البعض، ويساهمون في المدارس. وفي كثير من الأحيان، تضفي العائلة اسمها على مبنى أو حتى حي بأكمله. وعندما تكون هياكل الحكم الرسمية متنازع عليها، عادة ما تتدخل العائلات في غزة كمنفذين للنظام – أو كمصادر للعنف في بعض الأحيان، كما تقول إيلانا فيلدمان، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة جورج واشنطن، التي درست تاريخ حكام غزة.

عندما دُمر منزل عائلة سالم في شمال غزة في سنة 2009، ساهم يوسف وإخوته في إعادة بنائه لوالدهم وأعمامهم. وتضرر مرة أخرى في سنة 2014. والآن أصبح هيكلًا محترقًا من الداخل. قال يوسف سالم: “كل ما نبنيه يتلاشى مع أي تصعيد وحرب”.

بعد حرب 2021، أخبر زوجته أن الوقت قد حان للرحيل مع ابنتهما الصغيرة. وجد عملاً كمحلل قانوني في إسطنبول وتوسل إلى أفراد عائلته الممتدة للانضمام إليه. أخذ القليل من غزة معه – كتبه ووشاح الكوفية التقليدية. وحملت زوجته معها صور زفافها وصور عائلتها وحليها المفضلة. وبعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، استفاد من أمان المنفى للتنسيق مع أقاربه في غزة أثناء بحثهم عن المأوى والطعام. وكان يربطهم ببعضهم البعض ويطلعهم على آخر الأخبار.

قال يوسف سالم الذي روى لـ “أسوشيتد برس” قصة عائلته عبر سلسلة من المقابلات الهاتفية: “لقد غادرت غزة، ولكنني ما زلت أنتمي إليها”. وفي 11 كانون الأول/ ديسمبر، كانت الساحة التي تحمل اسم العائلة تعج بـ150 من أقاربهم، بعضهم نزح إلى هناك والبعض الآخر جاء لتشييع اثنين من أقاربهم الذين قتلوا في غارة سابقة.

ملف – فلسطينيون يتفقدون أنقاض مبنى لعائلة النواصرة الذي دُمر في غارة إسرائيلية في مخيم المغازي للاجئين وسط قطاع غزة، يوم الإثنين 25 كانون الأول/ ديسمبر 2023.

ملف – مشيّعون يصلون على جثامين أفراد عائلة الآغا الذين قُتلوا في غارة جوية إسرائيلية خلال جنازتهم في خان يونس، قطاع غزة، يوم الأربعاء، 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

كانت المعارك محتدمة بين حماس والقوات الإسرائيلية منذ أيام على بعد نصف ميل (كيلومتر). وقبل الفجر بقليل، ضربت الغارات الجوية مجمع سالم. أدت الانفجارات إلى انهيار أحد المباني، مخلفة كومة من الحطام، وتدمير واجهات عدة مبانٍ أخرى.

ينفي الناجون وجود أي مقاتلين في المجمّع. وقد أظهرت مقاطع فيديو رجالاً وهم ينبشون الخرسانة المحطمة لإخراج جثث الرجال والنساء والأطفال. وانتظرت عربة يجرها حمار في أعلى الشارع لنقل الجثث.

لم ينج سفيان سالم، وهو ابن العم الثاني ليوسف، إلا لأنه ترك شقته للزوار وكان ينام في الشارع. ومن بين قتلى عائلة سالم الـ80: والدته وثلاثة أشقاء وشقيقته الوحيدة وأطفالها الأربعة. وهناك 27 شخصًا على الأقل في عداد المفقودين تحت الأنقاض التي لم يتم إزالتها بعد. كتب سفيان سالم على فيسبوك: “الذين رحلوا عنا هم الذين سينعمون ببعض الراحة. والناجون يتوقون إلى الفرج”.

في إسطنبول، قام يوسف سالم بتحديث جدول البيانات. بعد ثلاثة أيام، اتبع معظم الناجين من آل سالم الأوامر الواردة في منشور إسرائيلي أُلقي من إحدى الطائرات بالتوجه إلى حي الرمال. كان أكثر من 200 شخص محشورين داخل فيلا مهجورة مكونة من طابقين، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ. وقد رفعوا علمًا أبيض فوق المنزل.

كانت القوات الإسرائيلية في الرمال تنشئ قواعد لها وتنشر القناصة على أسطح المنازل. وفُرِض حظر تجول لمدة أربعة أيام. وكانت أصوات القتال تتردد من حي مجاور.

التقط منير، عمه، صورة مطمئنة للرجال وهم يلعبون الورق، وهو تقليد عائلي. حتى أنهم قاموا بتأمين الفحم للغليون. وفي 18 كانون الأول/ ديسمبر، اقتحمت الدبابات الإسرائيلية المكان وهدموا السياج وأمروا العائلة بالخروج. سمع محمد سالم، ابن عم يوسف البالغ من العمر 21 سنة، منير ورجالا آخرين من العائلة، الذين يتحدثون العبرية، يرفضون المغادرة. كانت هذه المرة الرابعة التي يُؤمرون فيها بالخروج من الملجأ، وقالوا إنه لا يوجد مكان آمن. إلى جانب ذلك، قالوا إن الجيش الإسرائيلي يسيطر حي الرمال.

تسلل محمد سالم إلى الخارج لجلب الماء لابنة عم أخرى، كانت حاملاً، وشام، وهي طفلة ولدت خلال هدنة قصيرة في تشرين الثاني/ نوفمبر. بعد منتصف الليل بوقت قصير، أحصى محمد سالم، وهو يقف على مبنى مقابل لفيلاهم، أربع إصابات مباشرة من الغارات الجوية. انهارت الفيلا وتناثرت الجثث في الخارج.

مع انتشار القناصة والجنود في كل مكان، لم يجرؤ على الاقتراب حتى انتهى حظر التجول الإسرائيلي مع بزوغ الفجر، وشاهد هو وابن عمه الدبابات تتدحرج فوق أقاربهم الذين كانوا نصف مدفونين تحت الأنقاض. استغرق الأمر أيامًا أطول لسحب جثتي عمّيه المتحللة سعيد ومنير. قال محمد سالم: “لا تزال هناك جثث تحت الأرض. لا يستطيع أحد الوصول إليها بعد”. ومن بين المنزل المكتظ بأكثر من 200 سالم، لا يزال 10 فقط على قيد الحياة. عبد الله البالغ من العمر تسع سنوات هو الناجي الوحيد من عائلته – حيث قتلت الغارات الإسرائيلية والده ووالدته وسبع شقيقات. وفي أيار/ مايو، نجا محمد سالم من غارتين على منزله الذي عاد إليه في شمال غزة. ولقي سبعة من أفراد عائلته حتفهم.

قال عمر شعبان، باحث اقتصادي مستقل من غزة، إنه من بين 400 ألف أسرة في غزة، لم تسلم أي منها من الحرب، مما أثر على مجتمع غزة، وتاريخها، ومستقبلها. وأضاف شعبان، الذي أحصت عائلته العديد من القتلى، من بينهم تسع نساء: “الجميع مستهدفون، عائلات من كل الطبقات، فقراء وبدو ومزارعون ورجال أعمال وأثرياء من كل الطبقات، إنهم أثرياء وطنيون لكنهم غير منتمين للعمل السياسي. ليس هناك أي تمييز. لقد أصبح من الواضح أن هذا استهداف للبنية الاجتماعية”.

وأشار شعبان إلى أن سكان غزة سينشغلون لأشهر بعد انتهاء الحرب بالبحث عن مفقوديهم وانتشال من هم تحت الأنقاض. وأضاف: “إذا عثروا على الجثث، سيبدأون البحث عن الأوراق الثبوتية. سيبدأون البحث عن أوراق تثبت أنهم بشر: شهادات وفاتهم وميلادهم، وأوراق تخرجهم، وسندات ملكية أراضيهم أو سندات ملكية منازلهم”.

ملف – طفل فلسطيني ينظر إلى قبور قتلى القصف الإسرائيلي على قطاع غزة المدفونين داخل أرض مستشفى الشفاء في مدينة غزة، الأحد 31 كانون الأول/ ديسمبر 2023.

بحلول شهر حزيران/ يونيو، كانت جهود عائلة سالم لتوثيق عدد القتلى تتداعى. يئس يوسف سالم من إحصاء قتلى عائلته. فقد أصيب ابن عمه الذي كان يتولى إدارة جدول البياني بجروح خطيرة في إحدى الغارات. قال بصوت متقطع: “عندما كان للعائلة شهيد واحد، عاشت العائلة في حزن طوال حياتها. تخيلوا الآن. كيف يمكن أن نظل عاقلين بعد كل هذا؟”. كل ما يفعله الآن هو الاتصال بوالدته في غزة كل يوم للتأكد من أنها لا تزال على قيد الحياة.

المصدر: أسوشيتد برس