أبراج شاهقة وسيارات فارهة وحياة صاخبة بالملذات والمتع المادية، هكذا تصور مواقع التواصل الاجتماعي الحياة في دول الخليج التي تشتهر بكونها من أثرى الدول في العالم، وتحتل مراكز متقدمة في تصنيفات أغنى البلدان وفقًا لمعايير متعددة، ومع ذلك وجد الفقر مكانًا له بين كل مظاهر الترف والرفاهية.
فهل يُعقل لدول إيراداتها نفطية، ويُشتهر عنها سمعتها عالميًا بارتفاع دخل الفرد فيها أن يكون من بين مواطنيها من يتم تصنيفهم بحسب المنظمات والمؤسسات الدولية بأنهم فقراء؟ وماذا يعني أن تكون هذه الفئة في دول لديها ريع اقتصادي كبير؟ وهل تلتفت الحكومات إلى هذه الطبقة وتعمل على إخراجها من هذه الدائرة؟
فقراء الخليج
تتصدر الدول الخليجية مجتمعة احتياطيات النفط العالمي، وتمتلك أكثر من 33% منها (يقدر بنحو 497.0 مليار برميل)، وتدير ما يعادل 37% من إجمالي أصول الصناديق السيادية في العالم (2.5 تريليون دولار من الأصول)، وجاءت في المرتبة الـ12 عالميًا في قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بحسب البيانات الصادرة عن المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الخليجي.
في المقابل، أعلنت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا، المعروفة اختصارًا بـ”إسكوا”، في منتصف العام الماضي، عن وجود 3.3 مليون مواطن خليجي يعيش في فقر وفقًا لخطوط الفقر التي وضعتها المنظمة في كل دولة على حدة في الفترة الممتدة من 2010 إلى 2021.
وقال بيان للمنظمة إن الفقر طال واحدًا من كل 7 مواطنين في السعودية، ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، وواحدًا من كل 10 مواطنين في عُمان التي يقطنها 5 ملايين مواطن، وواحدًا من كل 13 مواطنًا في البحرين، مضيفًا أن نسب الفقراء في هذه البلدان تتراوح بين 0.4% في قطر و13.6% في السعودية.
ورغم حديث “إسكوا” عن تراجع نسب الفقر في بلدان مجلس التعاون الخليجي، باستثناء البحرين والكويت، منذ عام 2010، إذ خرج 528 ألف مواطن منذ ذلك الحين من دوامة الفقر، وانخفضت نسبة الفقر في السعودية وحدها بنسبة حوالي 5% خلال 10 أعوام، فإن هذه الدولة التي يراها العالم عادةً بلد الثروة ومراكز التسوق الفاخرة لا تزال تستحوذ على النسبة الكبرى من الفقر.
تتصدر السعودية وعُمان نسب الفقر في المنطقة الخليجية الغنية بالنفط، حيث يعاني أكثر من 13% من السعوديين وأكثر من 10% من العُمانيين من الفقر، تليهما البحرين بنسبة 7.5%، وتقل معدلات الفقر بشكل ملحوظ في الكويت والإمارات وقطر عن 2% من إجمالي المواطنين في كل منها.
أرقام “إسكوا” المستندة إلى بيانات مكاتب الإحصاء الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي ربما لا تعكس واقع المشكلة، لكنها تثير الكثير من التساؤلات عن أسباب وجود خليجيين تحت خط الفقر في ظل الوفرة الاقتصادية والمداخيل النفطية التي تملكها غالبية دول الخليج.
مفارقات النفط
ساهمت عائدات النفط الكبيرة في دول الخليج بارتفاع مستوى دخل الفرد ليتخطى 3 أضعاف نظيره على مستوى العالم، ويصل إلى 33.5 ألف دولار، كما ساهمت في تزايد الحاجات الاستهلاكية للمواطن الخليجي، فضلًا عن متطلبات التطور العمراني والاقتصادي، وساعد كل ذلك في خلق فرص كثيرة للأجانب للاستقرار والعمل في دول الخليج.
ورغم الفرص الهائلة التي خلقتها الثروة النفطية لصناعة التطورات في المجتمعات الخليجية، فإنها تسببت أيضًا في تناقضات ومشكلات ومفارقات عديدة في تلك الدول القائدة للنمو الاقتصادي في الشرق الأوسط، لعل أبرزها أموال هائلة يقابلها فقر مدقع بين سكانها قد يصل إلى أن يسكن مدنًا بأكملها، ويتحكم في فئات بعينها.
تبدو مشاهد الفقر التي يعيشها الآلاف من مواطني الخليج جلية للعيان في الأحياء والمدن الفقيرة، فقد أشارت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن ما بين مليونين إلى 4 ملايين مواطن سعودي يعيشون على أقل من 530 دولارًا شهريًا (17 دولارًا يوميًا) في أحياء تعاني من الإهمال في بعض المدن الكبيرة مثل الرياض وجدة والمدينة المنورة.
إلا أن السلطات المعنية لا توفر بيانات رسمية دقيقة عن حجمها ونطاقها وأسبابها، وبالتالي تخلو بيانات المؤسسات الدولية المعنية بالفقر من أي إحصاءات حديثة أو قريبة عن الفقر في دول الخليج، لكن ذلك لا يعني انتفاء الظاهرة بل التكتم على رصد ونشر هذه الإحصاءات.
ورغم الجهود الحكومية المبذولة للتكتم والتعتيم على الأرقام الحقيقية لمواطنيها الأكثر فقرًا في هذه الأحياء وغيرها، فإن مظاهر الفقر في المملكة لم تخف، وتبرزها مقاطع الفيديو المنشورة على “يوتيوب”، ولعل أشهرها تلك التي نشرتها قناة “على وين” و”ملعوب علينا” و”إس بي سي”، التي واجه أصحابها القمع والتنكيل والاعتقال والحجب من السلطات السعودية لتوثيقهم الظروف المعيشية الصعبة في بعض الأحياء السعودية، وإظهارهم التناقضات الصارخة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وتسليطهم الضوء على انتشار ظاهرة التسول المصاحبة للفقر في ضواحي الأحياء الفقيرة وحتى وسط المدن الكبرى.
هذه الحقيقة نادرًا ما نراها على الشاشات السعودية أو الأخبار المنشورة في الدول الحليفة لها، لكن بعض اللقطات السرية للأحياء الفقيرة في محافظات مثل عسير ونجران وجازان تُظهر أنها تعاني من انتشار مظاهر الفقر، وتفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة، مقارنة بمحافظات أخرى، وهو ما يشير إلى التفاوت الطبقي والمناطقي والفوارق الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة والنقص الشديد في التنمية بين مناطق المملكة.
وبخلاف ما ذكرته منظمة “إسكوا”، ربما تكون الأرقام الصادرة بشأن مستوى الفقر وتردي الواقع الاجتماعي المسكوت عنه في بعض مدن المملكة صادمة، فمعظم السعوديين مقتنعون بخلو بلادهم من الفقر، وهو ما أعربت عنه الأمم المتحدة في أبريل/نيسان 2017، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مقررها المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، فيليب ألستون، الذي أشار إلى بعض المخاوف التي تنتابه بخصوص امتداد رقعة الفقر عبر الأراضي السعودية.
وفي أول زيارة من نوعها لمقرر أممي خاص للسعودية منذ 8 سنوات، والثالثة في السنوات الثلاثين الماضية، تحدث ألستون عن مشاهدات “صادمة” في بعض المناطق بالمملكة التي زارها على مدار 12 يومًا، خاصة جازان كونها المنطقة الأكثر فقرًا في السعودية، مشيرًا إلى أنه التقى أناسًا يعيشون في فقر مدقع، وأن هناك مناطق معدمة في كل من المدن الكبيرة والمناطق الريفية النائية بالسعودية.
وصحيح أن الحكومة السعودية أنفقت المليارات على برامج الوظائف والرعاية الاجتماعية، لكنها فشلت في مواكبة عدد السكان الذي تضاعف أكثر من 4 مرات خلال نصف قرن، وأفرزت ما يُقَّدر بنحو ربع السكان كانوا يعيشون في فقر قبل سنوات قليلة، وهي النسبة الأعلى بين دول الخليج رغم الإنتاج النفطي الذي يتجاوز 10 ملايين برميل يوميًا والعائدات المالية المهولة التي تدرها على المملكة، ما يثير تساؤلات حول مصير كل تلك الأموال.
وبالاتجاه إلى الإمارات، حيث تظهر بأبنيتها الشاهقة كقبلة للمال والثروة لكنها تخفي تحتها الكثير من العوز والفقر والإهمال والطبقية، فالإحصاءات التي نشرتها صحيفة “الرياض” السعودية في عام 2013، نقلًا عن البيانات المتوافرة لدى وكالة المخابرات المركزية، تظهر نسبة الفقر عند 19.5% من السكان، وتنخفض النسبة إلى 16.9% وفقًا لدراسة أعدّها كبير الاقتصاديين في مجلس دبي الاقتصادي عبد الرزاق الفارس.
وقبل عامين، أثارت تغريدة للسياسي المقرب من النظام الإماراتي عبد الخالق عبد الله عرض فيها حالة إنسانية لأسرة إماراتية فقيرة تراكمت عليها الديون، جدلًا على مواقع التواصل الاجتماعي حول حجم الفقر في الإمارات، وجاءت ردود المواطنين لتنفي ادعاءات الحكومة الإماراتية المتكررة بأن معدل الفقر في البلاد هو صفر، واشتكى مغردون آخرون من عدم وجود وظائف.
وفي البحرين، ينبع قدر كبير من الفقر من التمييز المنهجي ضد الشيعة من الزعماء السنة، الأمر الذي أثار احتجاجات متعددة من البحرينيين الشيعة في عام 2011، ومع ذلك، لا تشير الأرقام الرسمية إلى أن البحرين لديها أي مواطن يعيش في فقر مدقع وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لكن 12.2% من السكان يعيشون بأقل من 5 دولارات في اليوم، وبالتالي فإن الفقر في البحرين لا يزال موجودًا، وفقًا لمنظمة “Borgen project“.
وفي الكويت حيث يشكل النفط 95% من عائدات صادراتها و95% من دخل الحكومة، لا تظهر الجداول الإحصائية التي نشرتها منظمات دولية أي فقر يمكن قياسه هناك، ومع ذلك، تشير الأدلة المتناقلة إلى وجود بعض الفقر على الأقل، لا سيما بين العمال والرعاة الذين يعملون في الصحاري والمهاجرين غير الشرعيين والخادمات.
وفي حين تمكنت الحكومة الكويتية من توفير الخدمات والرعاية الاجتماعية واسعة النطاق لأنها تمتلك 6% من احتياطيات النفط العالمية، أشارت إحصائيات أمانة لجان الزكاة بجمعية الإصلاح الاجتماعي إلى أن عدد المستفيدين من المنح التي تقدمها بلغ أكثر من نصف مليون كويتي يمثلون الفقراء والمحتاجين.
وقبل سنوات قليلة، تحدَّث المدون في صحيفة “كويت تايمز” ثائر الرشيدي عن أن 90% من الكويتيين يعيشون حياة فقيرة وبائسة، وحتى مع ارتفاع الرواتب ظاهريًا، قال الرشيدي: “لا يكاد يوجد مواطن لا يزال لديه دينار واحد حتى منتصف الشهر”.
ومضى يقول إن المشكلة تكمن في أن الإيجارات مرتفعة للغاية، وأقساط القروض مرتفعة للغاية، وبشكل عام هناك “ارتفاع كبير في الأسعار تحت أنظار الحكومة وبإجماعها”، واختتم حديثه بالقول: “في الواقع، نحن نعاني من الفقر المتعمد في آخر 15 يومًا من كل شهر!”.
معضلة البطالة.. قصة أخرى غير مروية
تشير دراسة للأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي إلى وجود البطالة وتفاوت معدلاتها بين مواطني دول الخليج بغض النظر عن مدى ثرائها، ويصعب تحديد نسبتها في دول المجلس مجتمعة، بسبب الاختلافات بين دوله في كيفية حساب المعدل من حيث مصدر البيانات وفترة جرد القوى العاملة أو العاطلة، إذ تتم على أساس سنوي أو ربع سنوي في كل بلد.
وبأخذ كل دولة على حدة، تظهر البطالة أكثر انتشارًا بين السعوديين، خاصة منذ صعود ولي العهد محمد بن سلمان إلى السلطة، حيث تملأ مناشداتهم وسائل التواصل الاجتماعي في بلد يطفو على بحر من الذهب الأسود، ففي أبريل/نيسان 2017، وصل ضجر الشباب السعودي حد نشْر عاطلين عن العمل على تويتر دعوات للتظاهر احتجاجًا على حالتهم، ما دفع السلطات إلى زيادة أعداد أفراد الأمن في شوارع الرياض، حسب ما كشفت وكالة الأنباء الفرنسية.
ويعجز الكثير من المواطنين عن الحصول على وظيفة في بلادهم التي تباهي العالم بأنها أكبر منتج للنفط على مدار 50 عامًا، والتي تتصدر القائمة إلى جانب كل من الولايات المتحدة و روسيا، فكيف للمملكة التي حققت على مدار عقدين إيرادات بقيمة 11 تريليون ريال، من بينها 9.6 مليار ريال من النفط، أن تعاني من أزمة بطالة متفاقمة في مجتمعها الفتي الذي تقل أعمار غالبية سكانه الحاليين عن 35 عامًا؟
تزخر أرقام البطالة السعودية بتفاصيل اجتماعية تبدو صادمة، فقد قفزت نسبة العاطلين عن العمل في المملكة إلى ما يقرب من 13% خلال الربع الأول من عام 2017، وأعلى نسبة للسعوديين الباحثين عن عمل كانت في الفئة العمرية (25 – 29) سنة، بنسبة بلغت 34.2% في حين تشير البيانات غير الرسمية إلى أن السعودية تحتل المرتبة الأولى بين دول الخليج في معدلات البطالة بنسبة 29.9%.
أما الفارق بين معدلات التشغيل بين الرجال والنساء فيبدو صارخًا، إذ إن نسبة البطالة بين النساء تعادل أكثر من 4 أمثال نظيرتها بين الرجال، بواقع 7.4% للذكور و33.1% للإناث، وإجمالًا، يبلغ عدد الباحثين عن عمل في المملكة أكثر من 900 ألف شخص.
ولعل من أخطر النقاط في هذه البيانات، تلك التي تؤكد أن أكثر من نصف الباحثين عن عمل (50.5%) يحملون شهادات جامعية، أكثر من ذلك، أوضحت النتائج من واقع بيانات السجلات الإدارية أن ما يقرب من 32.9% من العاطلين السعوديين الذين سبق لهم العمل كانوا قد طُردوا من وظائفهم السابقة، و9.6% من العاطلين سبق لهم التدريب.
وحتى وفقًا لأرقام المؤسسات الحكومية السعودية التي تهوِّن من المشكلة، فإن نسبة العاطلين تصل إلى 9.9% في الربع الثاني من عام 2022، بارتفاع مقداره 0.2% مقارنة بالربع الأول من نفس العام، وهي نسبة يسود الاختلاف بشأن قراءتها بين من يراها إيجابية كونها تمثل انخفاضًا عن المعدلات السابقة للعقدين الماضيين، ومن يرى أنها تتجاوز سقف الـ7% الذي حددته “رؤية 2030”.
وقد تكون معضلة البطالة في السعودية مرشحة لمزيد من التفاقم جرَّاء ما يُعرف بالسياسات الاقتصادية الصارمة التي دشنها ولي العهد السعودي في عام 2016، في إطار ما يُسمى “رؤية المملكة 2030″، ويُتوقع أن ترتفع نسبة البطالة في السعودية إلى 42.4% بحلول عام 2030، بحسب تقرير صدر عن بنك “ميريل لينش”.
يقضي جوهر هذه السياسات أن تتخلى الحكومة السعودية عن دورها التقليدي في تعزيز رفاهية المواطن، تاركةً المجال للقطاع الخاص الذي قد لا تعنيه الاعتبارات الاجتماعية كثيرًا، وذلك عبر آليات مثل خصخصة المشروعات الكبرى.
أكثر من ذلك، تعصف الأزمات الضخمة بالقطاع الخاص السعودي نفسه، وأدخلت العديد من الشركات الكبرى في موجة إفلاس مع تراكم ديون بقيمة 300 مليار ريال، بل إن ثمة مخاوف من أن تفضي سياسة “سعودة الوظائف” إلى تدمير المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد بشكل رئيسي على العمالة الأجنبية الرخيصة.
وبحسب إحصائيات البنك الدولي، فإن معدل البطالة في الكويت وصل إلى 3.7%، لكن تقرير لمجلة “ميد” عن البطالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يشير إلى أن الكويت جاءت في المركز الثاني بين دول مجلس التعاون الخليجي من حيث نسبة البطالة في أوساط القوى العاملة الشابة بنسبة 19.9%، ووصلت النسبة بين الشباب إلى 25%، وبلغت نسبتها بين الذكور 3.1% فيما زادت بين الإناث على الضعف بواقع 6.7%.
أما في البحرين فقد كشف وزير العمل والتنمية عن قفزة في نسبة البطالة من 4% إلى 7%، وتتراوح أعمار معظم المواطنين العاطلين عن العمل بين 15 و24 عامًا، وبلغ معدل البطالة بين الإناث العاطلات عن العمل ضمن هذه الفئة العمرية 16.8%، وبلغ معدل البطالة بين الذكور 8.5%، وفقًا لمنظمة العمل الدولية، وهناك تفاوت واضح بين الإناث والذكور القادرين على الحصول على وظائف، كما أن التفاوت بين الشيعة والسنة لا يزال سائدًا حتى اليوم.
أمَّا الإمارات التي تسوِّق نفسها داخليًا وخارجيًا على أنها أرض الأحلام والعيش الرغيد وقبلة العمل والوظائف الواعدة، فإنها عند الإماراتيين نقيض ذلك بعد تفشي البطالة بين مواطنيها إلى جانب التمييز والتهميش، والتي عجزت معهما معارض التوظيف الحكومية والخاصة عن حل معضلة البطالة بين الإماراتيين والإماراتيات على حد سواء.
في دراسة أعدتها الدائرة الإعلامية والبحوث والدراسات التابعة لمجلس التعاون الخليجي حول مخاطر الاعتماد الكامل على العمالة الوافدة، بيَّنت أن نسبة البطالة بين المواطنين الإماراتيين وصلت إلى 14%، في حين تشير الأرقام الصادرة عن الهيئة الاتحادية للتنافسية والإحصاء إلى أن نسبة البطالة بين المواطنين الإماراتيين لا تتجاوز 2.2% فقط.
ووفقًا لآخر مسح للقوى العاملة أعدته الهيئة على مستوى الدولة، فقد كان عدد العاطلين عن العمل أكبر عند فئة الحاصلين على شهادة البكالوريوس أو ما يعادلها بنسبة 45.9%، وبلغت البطالة بين فئة التعليم الثانوي 35.8%، أما من يحملون شهادات الماجستير والدكتوراه فقد بلغت نسبة العاطلين 6.5%.
ورغم ذلك، ما زالت الحكومة تسن قوانين تعقد المعضلة أكثر، حيث أتاحت مؤخرًا للوافدين المتخرجين في الجامعات الـ500 الأولى عالميًا الإقامة في الإمارات مدة 6 أشهر لتمكينهم من البحث عن عمل.
وعبر الإماراتيون عن استيائهم من هذه السياسة، لا سيما أن غالبية الجامعات الاتحادية لا تُصنَّف ضمن تلك الجامعات، كما أن مهاراتهم ستُوضع تحت الاختبار مقابل أولئك الباحثين عن عمل ممن تدربوا وصُقلت مهاراتهم في مؤسسات تعليمية ذات جودة أعلى.
وأمام ارتفاع أعداد البطالة، أعلنت الحكومة عن العديد من القرارات، أهمها استحداث قطاع للتوطين في وزارة العمل تحت مسمى “وزارة الموارد البشرية والتوطين”، وسبق ذلك الإعلان عن مبادرة “الإمارات لتطوير الكوادر الوطنية” في عام 2005، وإطلاق برنامج “توطين” في عام 2007، والنتيجة: تصاعد البطالة بين الإماراتيين وصدمة في دولة تعتبر من أغنى الاقتصادات العالمية.
مسببات الفقر
يعزو تقرير نشره مركز الخليج لسياسات التنمية بعنوان أسباب الفقر في دول الخليج إلى عوامل عدة، أبرزها التمييز على أساس الجنسية والمذهب الديني والنوع، والبطالة والثقافة الاستهلاكية وارتفاع مستوى المعيشة أو بعض الإجراءات التقشفية التي يُتوقع أن تزيد من عدد الفقراء في المستقبل القريب.
ووفقًا للأمينة التنفيذية لـ”إسكوا”، رولا دشتي، فإن “مستوى الدخل أو الإنفاق وتوزيعه بين السكان هما العاملان الأساسيان اللذان يساهمان في معدلات الفقر، فإنفاق أغنى 10% من مواطني بعض بلدان الخليج يتجاوز 16 ضعف إنفاق أفقر 10% منهم”.
أكثر الأسباب بداهة هي أن الطريقة التي يتم بها توزيع الأموال تشير إلى مدى تركز الثروة بيد قلة قليلة في دول الخليج مثل أفراد العائلات الحاكمة وحاشيتهم الداخلية الذين يبدون أكثر اهتمامًا بصورة البلاد من مساعدة المحتاجين، وبينما أصبحوا من بين الأغنى في العالم، يتم توزيع الفتات فقط على المواطنين، لذلك هناك تفاوت كبير بين الطبقات.
كما تتجمع ثروة البلاد في يد المسؤولين، حيث يتمتع بها كبارهم دون محاسبة أو رقابة، أو ينفقونها على مشروعات استعراضية لا فائدة منها للبلد، ووفقًا لوكيل وزارة المالية السابق، عبد العزيز الدخيل، فإن 5% إلى 10% فقط من ثروة البلاد تصل للمواطنين.
في السعودية مثلًا، يؤكد الخبراء أن ولي العهد يستمر في سياسة إهدار الأموال عبر محاولة تدشين مشروعات غير قابلة للتطبيق، مثل مشروع مدينة “نيوم”، ومشروع “فيا رياض” الذي أعلن عنه المستشار تركي آل الشيخ، والذي يضم مطاعم وعلامات تجارية وفندقية فاخرة، في الوقت الذي تشهد فيه المملكة ارتفاعًا في معدلات الفقر والتضخم والبطالة.
أما الأخطر من هذا كله فيتمثل في أن القيادة السعودية، ومنذ اكتشاف النفط في الثلث الأول من القرن الماضي، اعتمدت على المال السياسي في تعزيز الاستقرار الاجتماعي للدولة، وذلك عبر تعزيز رفاهية المواطن، ومن ثم فإن تخلي السعودية عن هذا النهج دون أن تكون هناك شبكة أمان اجتماعي بديلة، خصوصًا على صعيد التوظيف والأجور والضمانات المعيشية، قد ينذر بزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي في أكبر مملكة نفطية في العالم.
ويخشى الخبراء رؤى الانتقال الجديد بالمملكة دون تمهيد معقول، فحالتها الاقتصادية والاجتماعية بحاجة لإصلاح تدريجي لا يقودها إلى واقع آخر تجسد فيه رؤى مستوردة ربما لا تصلح بالضرورة عللًا تراكمت عبر عشرات السنين.
وفي الإمارات، ووفقًا لقاعدة بيانات عدم المساواة العالمية، فإن 1% من الإماراتيين يمتلكون أكثر من 50% من ثروة الدولة بأكملها، ما يترك عددًا أكبر بكثير من الأفراد يكافحون من أجل ما تبقى.
وتبدو الفروقات الاجتماعية واضحة في مستويات المعيشة والخدمات والبنية التحتية والتنمية البشرية والاقتصادية وجودة الحياة التي يتلقاها مواطنو الإمارات الشمالية (الفجيرة وأم القيوين وعجمان ورأس الخيمة)، مقارنة بتلك التي يحظى بها نظراؤهم في أبو ظبي ودبي، والذين تبلغ رواتبهم في الحكومة المحلية 7 أضعاف رواتب مواطني الإمارات الشمالية، وفقًا لدراسة للأكاديمي الإماراتي يوسف خليفة اليوسف.
وتأتي تلك الأزمات ومستوى الخدمات المتدني في وقت تضيع أموال الشعب على البذخ والرفاهية، وتصرف المليارات خارج أراضيها لتدعيم أنظمة ورموز الثورات المضادة في دول الربيع العربي، خاصة في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وتمويل الحروب الخارجية وتوفير الحماية للفارين من العدالة، وهو ما يعكس حالة الفساد والسفه الحكومي، ويجعلها “إمارة الأموال الضائعة”.
وفي الكويت، القاسم المشترك للعديد من الأشخاص الذين يعانون من الفقر هو أنهم غير مواطنين، وكثيرًا ما ينحدرون من عائلات قبلية استقرت في البلاد خلال الثلاثين عامًا الماضية فقط، لم يُمنح العديد من هؤلاء الوافدين الجدد نسبيًا الجنسية، وباعتبارهم غير مواطنين، فإنهم غالبًا ما يواجهون تحديات اقتصادية خطيرة.
ومن ناحية أخرى، يتمتع المواطنون الكويتيون بإمكانية أكبر للوصول إلى ثروات البلاد، التي تأتي من نفطها. على سبيل المثال، يعمل حوالي 90% من مواطني الكويت في القطاع العام، الذي يتم تمويله إلى حد كبير من عائدات النفط.
وفي حين أن الفقر المدقع في البحرين ليس المشكلة الأكبر في البلاد، فإن التفاوت المتفشي في الثروة بين الشيعة والسنة في جميع أنحاء البلاد، يؤدي إلى المزيد من الفقر كل يوم، حيث تمتلئ العاصمة المنامة بالمباني الجميلة وناطحات السحاب، لكن القرى المحيطة بها تظهر هذا التفاوت.
هل يحل “التوطين” المشكلة؟
لا شك أن دول الخليج العربي استقطبت على مدى العقود الماضية كثيرًا من العرب من شتى أنحاء المنطقة، فزخم مشروعات التوسع العمراني والحضاري ومشروعات البنى التحتية فتحت أبواب العمل على مصراعيها أمام اليد العاملة العربية وغير العربية لكن الحال اليوم يبدو مختلفًا فمع مرور الوقت ونفاد أموالهم، يضطر الكثير من الشبان العرب إلى خيارات أحلاها مر، فإما العودة إلى بلدانهم خاليي الوفاض أو المساومة على أماكن السكن.
ينتشر الفقر بصورة أكبر بين العمال الوافدين في السعودية حيث يشكلون 41.6%، ويشكلون أكثر من 88.5% من السكان في الإمارات، وغالبًا ما يحصل العمال المهاجرون على أجور منخفضة، ويتعرضون لظروف العمل القسري على الرغم من بعض الإصلاحات، وفقًا لمنظمة “هيومان رايتس واتش”.
وقبل سنوات قليلة، تسببت جائحة كورونا في الاستغناء عن آلاف العمال الأجانب، ومع تزايد الضغوط لتحسين الأداء الاقتصادي في المرحلة التالية، صدرت الدعوات بتوسيع سياسات توطين الوظائف ونشاط الشركات الأجنبية على أسس مستدامة.
ووفقًا للمجلس الإحصائي الخليجي لعام 2022، هناك 22 مليون عامل في مجلس التعاون الخليجي، وارتفع عدد العاملين مقارنة بالربع الأول من عام 2021 بنحو 833 ألف عامل، لذلك وضعت حكومات هذه الدول خطة لتوطين وظائفها، وخاصة الحكومية منها.
في السعودية، هناك مشروعات إحلال العمالة المحلية بدل الأجنبية فيما يُعرف بـ”السعودة”، وهي جزء من خطة المملكة لتوطين الوظائف، وهذا يعني زيادة توظيف المواطنين السعوديين في القطاع الخاص عن طريق استبدال العمال الأجانب بسعوديين ونساء.
وفي عام 2021، نص القرار الوزاري لعام 2021 بتوطين الوظائف التعليمية في المدارس الأهلية والخاصة وفق عدد من التخصصات، وعلى عدة مراحل، ويسعى القرار إلى توفير 28 ألف وظيفة تعليمية للسعوديين ولزيادة فرص مشاركة السعوديين في سوق العمل لدعم إجمالي الناتج المحلي.
كما يضم القرار توطين العديد من الأنشطة التجارية التابعة القطاع الخاص بنسبة 70% في حين تعمل وزارة الموارد البشرية والتنمية المحلية على صياغة قرار لسعودة المراكز القيادية بنسبة 75% من إجمالي العمالة داخل مؤسسات القطاع الخاص.
تتزامن الخطوات الأخيرة نحو توحيد المعايير مع الإصلاحات الأخرى التي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد ونوعية الحياة في المملكة، وتَعِد خطة “السعودة” بتقليل عدد السعوديين العاطلين عن العمل في جميع أنحاء البلاد إلى 7% عن طريق استبدال الأجانب بمواطنين سعوديين كجزء من خطة ولي العهد محمد بن سلمان.
وتختلف استراتيجيات التوطين في بلدان الخليج من دولة لأخرى، ففي الإمارات، ومع صدور القرار الوزاري لعام 2021 بتشكيل مجلس تنمية الموارد البشرية الإماراتية في دبي، على أن يتم في عضويته ممثلين عن القطاعين الحكومي والخاص بهدف متابعة تنفيذ الخطط والسياسات الرامية لتوظيف الإماراتيين في القطاع الخاص.
ومع ذلك، لم تحقق الإمارات تقدمًا في مشروع توطين الوظائف في بلد يبلغ عدد غير المواطنين فيه أضعاف أبناء البلد، كما لم تنجح الحكومة في فرض قانون يجبر الشركات التي توظف أكثر من 50 شخصًا أن يكون ما لا يقل عن 2% من موظفيها المهاريين من المواطنين تحقيقًا لشروط الاستدامة.
حتى إطلاق مشروع “نافس” في سبتمبر/أيلول 2021، لم يجد نفعًا، حيث تخصص الدولة مبلغ 24 مليار درهم إماراتي لدعم القطاع الخاص لاستيعاب 75 ألف مواطن خلال 5 سنوات، وتتحمل الحكومة كُلفة تدريب المواطن ودعم رواتبهم بمختلف الدرجات والشهادات.
كرد على ذلك، ابتدع القطاع الخاص أساليب للتهرب كتوفير وظائف غير مهارية للمواطنين تحرمهم من التطور المهني والمشاركة في بناء الدولة أو “التوطين الصوري”، وهو توظيف مواطنين بأعمال إشرافية عن بعد، بعقود عمل بأجور زهيدة دون مطالبتهم بالحضور أو ممارسة الوظيفة فعليًا.
أما في الكويت، فقد جاء القرار الصادر عن ديوان الخدمة المدنية المسؤول عن قطاع التعيين في الوظائف الحكومية بهدف تكويت الوظائف بنسبة 100%، وشمل القرار الحكومي توطين الوظائف الحكومية بنسبة 100% في تقنية التطوير والمعلومات والإحصاء والإعلام والوظائف البحرية، وبنسبة تزيد على 85% في القانون والشؤون الإسلامية.
وبالانتقال إلى سلطنة عمان، ومع دخول القرار الوزاري الصادر عن وزارة العمل الخاص بتشجيع “التعمين” حيز التنفيذ، فإن الشركات التي تستوفي معايير معينة ستخفض رسوم توظيف العمالة الوافدة فيها بنسبة تصل إلى 50%.
في البحرين، يهدف البرنامج البحريني للتوظيف إلى خلق 25 ألف وظيفة، وكان مجلس الوزراء أعلن عن تخصيص حوالي 320 مليون دولار لدعم توظيف البحرينيين من خلال برنامج دعم الأجور انتهاءً بعام 2023.
وفي قطر، كشفت وزارة التنمية الإدارية والعمل والشؤون الاجتماعية أنها تعكف على إطلاق قوائم الوظائف التي سيجري توطينها في الشركات الخاصة التي تساهم الدولة في رأس مالها، وذلك بعد موافقة مجلس الوزراء لرفع نسبة القطريين إلى 60% من العاملين في الشركات المملوكة للدولة أو التي تساهم فيها.
ويظل التساؤل بشأن مدى نجاح سياسة التوطين في توفير فرص العمل لليد الخليجية مفتوحًا خصوصًا مع استمرار تفضيل أصحاب العمل العمالة الأجنبية بسبب الكلفة المنخفضة أو رفض بعض المواطنين الخليجيين مزاولة بعض المهن. فضلًا عن ذلك، قد تكون المعيشة في دول الخليج اليوم مختلفة عما كانت عليه بالنسبة للجاليات العربية سابقًا إلا أنها ما زالت خيارًا مفضلًا للكثيرين، خصوصًا القادمين من دول مزقتها الصراعات السياسية والاضطرابات الاقتصادية.
ويضع تفضيل المواطنين الخليجيين العمل في القطاع الحكومي حكومات بلدانهم أمام تحد لإقناعهم بالقبول بالعمل في القطاع الخاص وإجبار الشركات على دمج عدد أكبر من الخليجيين بين موظفيها.
يُضاف إلى ذلك أن السلطة الحاكمة تستفيد من حالة العوز هذه، فهي تجعل من المواطن دائمًا شريكًا في الأزمة، فمرة تلقي السبب على القطاع الخاص، ومرة تلوم الشباب على عدم قبولهم إلا بوظائف بأجور مرتفعة، ومرة تهاجم الأجانب على استحواذهم على الوظائف، لكنها في كل الأحوال لم تعترف أن سياستها قائمة على إلهاء الشعب والحفاظ عليه محتاجًا لاهثًا لأجل أبسط حقوقه.