“أيام وبنرجع”.. كانت هذه العبارة التي اتفق عليها السوريون بعد اضطرارهم لمغادرة منازلهم عقب تصاعد العمليات العسكرية، لكن تلك الأيام لم تنتهِ، رغم مرور أكثر من 13 عامًا، ما أدى إلى تلاشي حلم العودة في قلوب ساكني الخيام.
منذ اندلاع الاحتجاجات ضد نظام الأسد، شهدت التركيبة السكانية في سوريا انعدامًا للاستقرار، جراء النزوح والهجرة الواسعة بعدما طالت الضربات الجوية والمدفعية جميع المناطق وحولتها إلى شعلة من لهب، ما تسبب في نشوء ما بات يعرف بمناطق المخيمات على مقربة من الحدود السورية التركية.
وخلال التقرير نسلط الضوء على واقع الحياة في مخيمات شمال غربي سوريا، الممتدة من جرابلس بريف حلب وصولًا إلى ريف اللاذقية الشمالي، وأسباب اعتياد قاطني الخيم للمساعدات الإنسانية دون قيامهم بأي أنشطة لتأمين سبل المعيشة.
سياقات النزوح والتهجير
مع اشتداد العمليات العسكرية وتكثيف القصف من النظام السوري، لم يجد السوريون، خاصة من يقطنون في الشمال، ملجأ سوى الفرار نحو الحدود التركية، تاركين خلفهم أرزاقهم وأملاكهم بحثًا عن الأمان.
وكانت الحدود التركية، التي نصبت فيها مخيمات مؤقتة، محطة عبور لكثير من السوريين في رحلة الهجرة إلى الدول الأخرى، لكن تشديد الحكومة التركية لمنع تدفق السوريين إلى أراضيها حوّل المنطقة إلى أماكن إقامة دائمة.
رحلة قاطني المخيمات الحالية بدأت على مراحل متعددة، كانت البداية في 2011 مع تصاعد الحملات الأمنية والعسكرية للنظام في مختلف المناطق، ما دفع الكثيرين إلى النزوح من مناطقهم كما حصل في جسر الشغور بريف إدلب.
ومع توجه نظام الأسد إلى اتباع سياسة قصف المناطق بالمدفعية والطيران الحربي واشتداد العمليات العسكرية، تزامنًا مع بدء الحراك المسلح وتشكيل الجيش السوري الحر وإخراج الأجهزة الأمنية من مناطق عديدة، زادت عمليات النزوح كما حصل في أحياء حلب الشرقية ومنطقتي إعزاز والباب 2011.
وانتقل نظام الأسد، مستعينًا بميليشيا حزب الله اللبناني، إلى مرحلة التهجير القسري، حيث بدأ في مايو/أيار 2013، بتهجير أهالي مدينة القصير بريف حمص، قبل أن تشمل مدن داريا والمعضمية والزبداني وتهجيرهم إلى الشمال السوري ضمن اتفاقيات إخلاء السكان.
وعقب التدخل الروسي في 2015 واتباع النظام لسياسة حصار المناطق بالتعاون مع حلفائه الإيرانيين، بدأت سلسلة أخرى من التهجير أولها كان مع سكان الأحياء الشرقية بحلب في ديسمبر/كانون الأول 2016.
ثم امتد التهجير إلى حي الوعر بحمص في مايو/أيار 2017، ثم تهجير أبناء الغوطة الشرقية والقلمون الشرقي بريف دمشق في 2018، وصولًا إلى تهجير أهالي درعا جنوبي سوريا في يوليو/تموز 2018، ضمن اتفاقيات رعتها روسيا.
وبالتوازي مع الاتفاقيات السياسية، كانت سياسة قضم المناطق المحررة جنوبي حلب وشرقي إدلب وشمالي حماة واللاذقية مستمرة من نظام الأسد وحلفائه التي استمرت منذ 2017 وحتى 2020، حيث ختمت خلاله مراحل النزوح الجماعي القسري لأبناء منطقة ريفي إدلب الجنوبي والشرقي ومناطق غرب وشمال حلب، بعد سيطرة نظام الأسد على مساحات واسعة.
وإلى جانب ذلك تسببت أطراف عسكرية أخرى في عملية النزوح وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش“، بين 2013 حتى 2017 على ضفتي الفرات، إلى جانب عمليات قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بدعم روسي في منطقة تل رفعت شمالي حلب، ودعم أمريكي في الجزيرة السورية، بين عامي 2014 و2018.
وأسفرت جميع عمليات النزوح والتهجير السابقة عن نشوء مجتمعات سورية من بيئات متنوعة تقطن في مخيمات ومراكز إيواء قرب شريط الحدود، بينها مخيمات رسمية وأخرى عشوائية، غاب عنها مشهد الاستقرار، حيث الظروف غير المستقرة أمنيًا مع انعدام مقومات الحياة كليًا.
وبلغة الأرقام، بلغ عدد السكان في شمال غربي سوريا نحو 6 ملايين و17 ألف و52 نسمة، يشكل النازحون والمهجرون منهم نسبة 49.32%، أما عدد المخيمات النظامية والعشوائية فبلغ ألف و904 مخيمات، يقطنها نحو مليوني شخص و27 ألفًا و656 نسمة، حسب إحصائيات “منسقو الاستجابة“.
في حين بلغ عدد العائلات داخل المخيمات 368 ألفًا و569 عائلة، بينما تشكل نسبة الأطفال في المخيمات نحو 54%، ونسبة النساء نحو 26%، وذوي الاحتياجات الخاصة 2.72 %.
وبعد مرور أربع سنوات على الاستقرار النسبي في حركة النزوح الداخلي، وتوقف العمليات العسكرية، لا يزال السوريون في المخيمات والتجمعات السكانية النازحة ضمن مراكز إيواء تشبه بـ”صناديق الكبريت”، فاقدين أمل العودة في ظل انسداد أفق الحل السوري.
اعتياد المساعدات
يلقي البعض اللوم على قاطني المخيمات لاعتيادهم المساعدات الإغاثية (السلل الغذائية، القسائم النقدية، والصحية)، وعدم تأمين مستلزماتهم خارج الخيم، إلا أن السبب الرئيسي يعود إلى استمرار نوع المساعدات الإغاثية رغم طول أمد الحرب، وتجاهل المجتمع الدولي والمنظمات الأممية المسبب الرئيسي لنزوح السوريين (نظام الأسد).
ورغم الحاجة الماسة للإغاثة الغذائية والصحية لمراحل النزوح المؤقت بعد فقدان النازحين أملاكهم وأرزاقهم، فإن هذه المساعدات، التي توفر مصدرًا ومدخلًا معيشيًا جيدًا، تمنع غالبية النازحين من تجاوز عتبة المخيم، خاصة في ظل انعدام فرص العمل وتفشي البطالة وانتشار الفقر.
وفي دراسة أعدها مركز “عمران للدراسات” عام 2017، سلطت الضوء على واقع سبل العيش في المخيمات، وأشارت إلى أن الظروف النفسية والاجتماعية لسكان المخيمات أدت إلى فقدان الحافز لديهم للقيام بأنشطة تأمين سبل المعيشة.
وتوصلت الدراسة إلى نتائج تعكس تحديات سبل العيش أبرزها عدم تأسيس الجهات الداعمة لمشروعات داخل المخيمات، وعدم إدراجها ضمن أولويات المنظمات غير الحكومية، والتركيز على الجانب الإغاثي، إضافة إلى غياب السلطة الرسمية للإشراف المباشر على المخيمات، وانفراد الإدارات المشرفة باستخدام سلطتها على حياة الأفراد، فضلًا عن عدم تمكن المجالس المحلية من الإشراف المباشر عليها لتنمية سبل العيش.
وتجاوزت معدلات البطالة بين المدنيين عتبة 88% من ضمنهم العاملين في قطاع المياومة، ما أدى إلى ارتفاع نسبة العائلات تحت خط الفقر إلى حدود 91%، بينما تجاوز حد الجوع عتبة الـ40 % حسب فريق منسقو استجابة سوريا.
ويحصل العاملون على أجور متدنية تبقيهم تحت خط مستويات الفقر، وتتراوح في القطاعين العام والخاص بين 1500 و2800 ليرة تركية، ولدى عمال المياومة بين 100 و150 ليرة تركية يوميًا في حال توافر العمل، في ظل ارتفاع حد الفقر إلى 10 آلاف و378 ليرة تركية، والفقر المدقع إلى حدود 8 آلاف و984 ليرة تركية.
وتسبب غياب برامج سبل العيش عن المخيمات في مناطق شمال غربي سوريا، بشكل شبه كلي في حدوث مشكلة اقتصادية ومعيشية، بدأت ثمارها تظهر مع اشتداد الظروف وانخفاض مستويات الدعم الأممي، فالنازحون الفارون من جحيم نظام الأسد لم يحصلوا على فرصة لإقامة مصدر رزق خاص بهم.
ومع تراجع الدعم الإنساني والإغاثي نتيجة قلة التمويل، تضاعفت معاناة قاطني الخيام، حيث اضطر نحو 94.1% من سكان المخيمات إلى تخفيض عدد الوجبات الأساسية اليومية، نتيجة زيادة الفجوات ونقص تمويل الاستجابة.
وحسب أرقام “منسقو استجابة سويا” منتصف يونيو/حزيران الجاري، فإن أكثر من 918 مخيمًا لا يحصل على المساعدات الغذائية (سلل وقسائم نقدية)، بينما كان 437 مخيمًا يحصل على المساعدات بشكل متقطع، من أصل عدد المخيمات الكلي.
وأدى تراجع الدعم إلى البحث عن مصادر أخرى لكسب الزرق، فتوجهت عائلات وسيدات من سكان المخيمات إلى تطبيق “تيك توك” بهدف الحصول على دعم مالي من المشاهدين والمتبرعين، تديرها شبكات تتاجر في أزمة المخيمات وعوز قاطنيها.
وتستغل هذه الشبكات نساء وأطفال المخيمات للمشاركة في البث المباشر بالتطبيق لاستجداء العطف وكسب المال مقابل الحصول على نوع من المواد الغذائية.
ظواهر ومشكلات اجتماعية
انتشرت في المخيمات العديد من المظاهر والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، تجلت في زيادة نسبة الطلاق والتفكك الأسري في المخيمات، ما انعكس سلبًا على أفراد العائلات النازحة.
ورغم ارتفاع نسب الطلاق، تغيب الإحصاءات الدقيقة من السلطات والمؤسسات المحلية، التي تفضل عدم التصريح بشأن هذا الموضوع.
ويرى الحقوقيون أن أسباب ارتفاع نسب الطلاق في المخيمات ترتبط بمكان الإقامة والظروف الحياتية القاسية، وفي مقدمتها الزواج المبكر الذي غالبًا ما يقود إلى فشل العلاقات الزوجية بسبب عدم نضج الزوجين وعدم قدرتهما على التفاهم.
إلى جانب ذلك، تختلف الثقافات الموجودة في مناطق شمال سوريا، حيث تتجمع بيئات متنوعة بخصوصياتها وعاداتها وتقاليدها، ما يؤدي إلى عدم التفاهم بين الأزواج الذين ينحدرون من بيئات مختلفة تحكمها تقاليد وعادات معينة.
كما يلعب الفقر وضيق العيش دورًا كبيرًا في تفكك الأسر، فالحياة في الخيمة والمعاناة اليومية تمنع استقرار الحياة الزوجية، ما يؤدي تدريجيًا إلى التفكك الأسري وخلق فجوات في قدرة الأزواج على أداء أدوارهم المنزلية والتربوية والزوجية، كما تغيب الروادع الأمنية والدينية التي قد تساهم في تقليل هذه الظاهرة، بالإضافة إلى ذلك، انتشرت ظاهرة الزواج المبكر لكلا الجنسين في المخيمات.
الحال مشابه بالنسبة للفتيات وتزويجهن في سن مبكرة، حيث تتبع الأسر هذا النهج لأهداف متعددة، أهمها يتعلق بالظروف المعيشية وحماية الفتاة بسبب طبيعة المكان، فالمجتمعات السورية تحرص بشدة على بناتها وتخشى عليهن من الظروف القاسية التي فرضتها حالة المخيمات، فالمكان والزمان غير مناسبين لاستمرار الفتاة في تعليمها وتحقيق أحلامها.
أما المشكلة الأخرى في المخيمات كانت تسرب الأطفال من المدرسة وتوجههم إلى سوق العمل، فالعيش في الخيمة يعد سببًا في عدم حصول الأطفال على تعليم مناسب، بسبب غياب المدارس والمراكز التعليمية في المخيمات.
ورغم وجود مراكز تعليمية في بعض المخيمات، ومثال على ذلك تربية المخيمات في مدينة إعزاز شمالي حلب، إلا أن نسبة التسرب المدرسي لا تزال متفاقمة.
كما لجأ الأهالي إلى إرسال أطفالهم للعمل في جمع الأوراق والكرتون بالقرب من مكبات القمامة، وبيع المأكولات في الطرقات والأسواق، إضافة إلى مهن أخرى شاقة، كحال الطفل محمد ممدوح (12 عامًا) الذي يقطن في مخيم أحباب الله الواقع شمال مارع، واضطر للعمل في الحدادة بأجر يومي بسيط لإعانة والده.
وبلغت نسبة عمالة الأطفال، التي تشكل الهاجس الأكبر لدى ساكني الخيام في ظل تقليص الدعم الأممي، في المخيمات من الفئة العمرية بين 14 و17 عامًا نحو 37% من إجمال العدد الكلي للأطفال.
فيما يفتقر نحو ألف و16 مخيمًا للنقاط التعليمية/المدارس، ما يضطر الأطفال إلى الانتقال لمخيمات وقرى مجاورة للحصول على التعليم، حسب منسقي استجابة سوريا.
المخدرات والتجنيد
وفي ظل الظروف السابقة، تنامت ظاهرة انتشار المواد المخدرة في مناطق شمال غربي سوريا بشكل واسع، تزامنًا مع تصنيعها المحلي وكلفتها المالية الرخيصة وسهولة وصولها من تركيا ومناطق نظام الأسد عبر خطوط التماس، ما أسهم في زيادة انتشارها بالمجتمعات التي تعاني من الفقر المدقع.
وتسبب تعاطي الرجال والنساء والأطفال للمخدرات في آثار سلبية على المجتمعات السكانية بالمخيمات، حيث كثرت جرائم القتل والاعتداءات الجنسية والسرقة بهدف تمويل الحصول على جرعة وفي مقدمتها مخدر الأتش بوز، والكابتغون.
وآخر هذه الحوادث كان الشهر الماضي، عندما قتل شاب والدته في مخيم الكوسا بالقرب من مدينة جرابلس شمال شرقي حلب، مستخدمًا المطرقة ضربًا على رأسها، فيما كانت تعمل والدة الشاب شرطية في جرابلس وهددته بتقديم شكوى عليه بعد سرقته دراجة نارية.
ومع انسداد أفق الحل، كان التجنيد العسكري حلًا لدى شرائح مختلفة من الشباب والأطفال والرجال، ورغم أنه ليس إجباريًا لكن الانخراط في العمل المسلح، والانضمام إلى الفصائل العسكرية، هدفه الحصول على مردود مالي مقابل عملهم ضمن المقرات ونقاط الرباط المنتشرة على خطوط التماس.
وشكلت المخيمات بؤرة لتجنيد الشباب من الفصائل العسكرية المسلحة من منطقة جرابلس حتى منطقة اللاذقية، فقد أكدت مصادر خاصة لـ”نون بوست”، أن الفصائل تعتمد على الخزان البشري في المخيمات مستغلةً الظروف المعيشية والاقتصادية دون التفريق بين رجل وطفل.
وبالتوازي مع العمل المسلح، تعتمد فصائل الجيش الوطني على شريحة واسعة من سكان المخيمات للعمل خارج الأراضي السورية كمرتزقة، سواءً في ليبيا، وأذربيجان، والنيجر، إلى جانب القوات التركية، وتحصل الفصائل مردودًا ماليًا ضخمًا كونها تقتطع أجزاء من المرتبات المرتفعة التي يطمع بها المنخرطون في العمل المسلح خارج سوريا.
ختامًا.. أفرزت بيئة المخيمات مظاهرة اجتماعية قاتلة لا تختلف عن واقع الشمال المنهك، لكنها تلقي بآثارها على المجتمعات الضيقة تحديدًا، وبدلًا من تكثيف أعداد قاطنيها من خلال تقديم المساعدات الإغاثية يجب العمل على تحقيق سبل العيش واستدامة مصادر الرزق القليلة.