سجالات سياسية وإعلامية، تبادل اتهامات بين أبناء الائتلاف الحكومي، مزيد من توتير الأجواء بين تل أبيب وواشنطن، إرهاصات تمرد داخل الليكود، ثم تلويح بالانسحاب من الحكومة.. كان هذا ملخص المشهد السياسي المرتبك داخل كيان “إسرائيل” خلال اليومين الماضيين، والذي لم يعرفه منذ عقود طويلة، في ظل مقاومة شرسة تجاوزت تقديرات جيش الاحتلال واستخباراته، فكانت النتائج صادمة ومبعثرة لكل الأوراق.
ويومًا تلو الآخر يتأزم موقف رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، ويشتد الخناق عليه، في ظل سياساته الاستعدائية التي يمارسها مع الجميع، الحلفاء قبل الخصوم، ما زج به نهاية الأمر في ركن ضيق من العزلة، حتى تحول إلى شخص منبوذ من الجميع، حلفاء ومعارضة ومجتمع دولي ورأي عام عالمي.
ويواصل نتنياهو ساعة بعد ساعة نزيف خسارته لحلفائه، البداية كانت مع المعارضة التي نجح في ضمها – بزعم “مصلحة إسرائيل قبل أي شيء” – تحت لواء حكومة الطوارئ عقب اندلاع الحرب الحالية ضد غزة، وصولًا إلى الصدام مع حليفه الصهيوني المتشدد داخل الحكومة، فضلًا عن تعميق الخلاف مع الحليف الأمريكي.. فهل بات نتنياهو عبئًا على الجميع، داخل “إسرائيل” وخارجها؟
تعميق التوتر مع إدارة بايدن
تتسم العلاقات بين إدارة جو بايدن ونتنياهو على وجه التحديد بالندية وعدم الاستقرار في ظل تباين وجهات النظر بين الطرفين بشأن التعاطي إزاء عدد من الملفات، وتعمق هذا التوتر أكثر مع اندلاع الحرب الحالية التي كشفت عن البون الشاسع بينهما على المستوى السياسي والاستراتيجي، خاصة بعدما وضع نتنياهو بإدارته للحرب أمريكا في مرمى الانتقادات الحقوقية والإنسانية الدولية وعرض سمعتها للخطر.
ورغم الدعم اللامحدود الذي قدمته – ولا تزال – الإدارة الأمريكية لحكومة الاحتلال سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا ولوجستيًا، فإن ذلك لا يخفي تلك العلاقة المتوترة مع رئيس الحكومة الذي يلعب لحسابات سياسية خاصة قد لا تتناسب مع أهداف ومقاربات إدارة بايدن والتي قد تضع المصالح الأمريكية الشرق أوسطية في مرمى الاستهداف.
وتبذل إدارة بايدن جهودًا دبلوماسية حثيثة للوصول بالحرب إلى شاطئ الهدوء لتوظيف هذا الأمر دعائيًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، فيما يجهض نتنياهو كل تلك الجهود بعناده وإصراره على إطالة أمد الحرب وتوسيع رقعتها لخدمة أهدافه السياسية.
وشهدت الساعات الماضية حلقة جديدة من مسلسل التوتر بين الطرفين، عقب التصريحات التي أدلى بها نتنياهو، الثلاثاء 18 يونيو/حزيران، حين انتقد إدارة بايدن بأنها حجبت الأسلحة والذخائر عن “إسرائيل”، في محاولة لإحراجها أمام الرأي العام اليهودي والصهيوني، الأمر الذي أثار غضب البيت الأبيض وأثار حفيظته إزاء هذا الجحود للدعم المطلق الذي تقدمه الولايات المتحدة للكيان، فيما أكدت السكرتيرة الصحافية للرئيس الأمريكي، كارين جان بيير، أنه منذ بداية الحرب لم يتم إيقاف إلا شحنة واحدة فقط من الأسلحة في حين تدفقت عشرات الشحنات بمليارات الدولارات دون عوائق، وأضافت: “لا نعرف حقًا ما الذي يتحدّث عنه”.
ووفق ما نقله موقع أكسيوس الأمريكي عن ثلاثة مسؤولين أمريكيين فإن اللقاء الذي جمع نتنياهو وكبير مستشاري الرئيس الأمريكي لشؤون الطاقة والاستثمار عاموس هوكشتاين، الذي كان في زيارة لكل من تل أبيب وبيروت مؤخرًا، كان سيئًا، وأن هوكشتاين والسفير الأمريكي لدى “إسرائيل” جاك لو، قضيا معظم الاجتماع في توصيل رسالة قاسية لنتنياهو بشأن الأزمة التي أثارها بتصريحاته التي تزيد توتير الأجواء بين الطرفين، هذا بخلاف تأثير سياساته الصدامية مع الإدارة الأمريكية على جهود التهدئة المبذولة لتخفيف التوتر على الجبهة الشمالية مع حزب الله.
صدام مع الداخل
لم يترك نتنياهو تيارًا سياسيًا أو عسكريًا أو شعبيًا على المستوى الداخلي إلا واشتبك معه، إما إرضاءً لتيار آخر، أو دفاعًا عن مصالحه الشخصية، أو عنادًا يرسخ شخصيته المأزومة، حتى بات وحيدًا في مواجهة الجميع.
أولًا: الصدام مع الشارع السياسي لأجل المؤسسة الدينية
منذ اليوم الأول للحرب حرص نتنياهو على عدم إغضاب أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب الصهيونية التي تمنحه الأغلبية البرلمانية وتُبقي على حكومته، ولو على حساب التيارات السياسية والشعبية الأخرى، الأمر الذي حوله إلى أسير لدى وزيري الأمن القومي والمالية، بن غفير وسموتريتش.
وبعيدًا عن العناد بشأن إبرام صفقة تبادل مع المقاومة وعرقلة أي جهود لتهدئة الأجواء، كانت آخر حلقات الصدام مع الشارع السياسي التصويت على مشروع قانون تجنيد الحريديم، في 11 الشهر الجاري، والذي يمنح اليهود المتدينين “استثناءات” تخص الخدمة العسكرية”، وهو القانون الذي زاد من توتير الأجواء بين نتنياهو والنخبة السياسية والعسكرية التي ترى ضرورة تجنيد الجميع، تحقيقًا لمبدأ العدالة من جانب، ولحاجة جيش الاحتلال لكل العناصر من جانب آخر.
وأدى التصويت على القراءة الأولى لهذا المشروع داخل الكنيست إلى تصدعات جديدة داخل الحكومة من الوزراء الرافضين له، وصلت إلى تلويح البعض بالانسحاب إذا ما مُرر المشروع بشكل كامل، وذلك بعد بحث التشريع في لجنة الخارجية والأمن بالبرلمان طرحه للقراءتين الثانية والثالثة الضرورتين ليصبح قانونًا نافذًا.
ثانيًا: الصدام مع المؤسسة الدينية تجنبًا لإشعال الشارع السياسي
أمام هذا الموج العالي من الانتقادات والغضب السياسي والشعبي لرضوخ نتنياهو لليمين المتطرف والأحزاب الصهيونية، اضطر رئيس الوزراء إلى مسك العصا من المنتصف، في محاولة لإضفاء شيء من التوازن على سياساته الداخلية، وذلك حين سحب الثلاثاء 19 يونيو/حزيران مشروع “قانون الحاخامات” من جدول الأعمال قبل التصويت عليه في الكنيست بالقراءة الأولى، بسبب عدم وجود أغلبية لصالحه.
وينص هذا المشروع على منح وزارة الأديان التي يتولاها موشيه ملخيئيلي (من حزب شاس الديني) صلاحيات تعيين الحاخامات في المدن بدلًا من السلطات المحلية، وهو القانون الذي يواجه انتقادات لاذعة من بعض الأحزاب داخل الائتلاف التي تتهم نتنياهو بـ”تفصيل القانون” على مقاس حزب “شاس” الديني الساعي إلى تعزيز نفوذه داخليًا.
وأدى سحب هذا المشروع مؤقتًا إلى إغضاب الحزب الديني وزعيمه آرييه درعي الذي وجه انتقادًا شديد اللهجة لنتنياهو، متهمًا إياه بفقدانه السيطرة على الائتلاف الحاكم، واصفًا الحكومة الحالية بأنها الأسوأ إلى الحريديم منذ قيام الكيان، وفق ما نقلت صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية، فيما نقلت هيئة البث الرسمية عن مسؤولين في “شاس” لم تسمّهم، قولهم تعليقًا على إلغاء التصويت على المشروع: “إن حل الائتلاف بالكامل هو مسألة وقت فقط”.
ثالثًا: الصدام مع حلفاء اليمين المتطرف
لم يقف الارتباك الذي يعاني منه نتنياهو عند حاجز الصدام مع الأحزاب الدينية كإحدى استراتيجيات التوازن مع بقية الأحزاب الأخرى، لكن رقعة الصدام اتسعت لتشمل حلفاءه من اليمين المتطرف داخل الائتلاف الحكومي وعلى رأسهم وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي اتهمه رئيس الحكومة وزعيم حزب الليكود بـ”تسريب أسرار الدولة”، وذلك ردًا على طلب الأول الانضمام إلى مجلس حرب الاحتلال بعد انسحاب بيني غانتس منه.
وكان حزب الليكود قد أصدر بيانًا رسميًا بهذا الشأن، وهو ما استفز حزب “القوة اليهودية” الذي يتزعمه بن غفير، والذي رد هو الآخر ببيان اتهم فيه نتنياهو بالكذب، وذلك حين أعلن دعمه لقانون لكشف الكذب على أعضاء الحكومة، بشرط أن ينطبق أيضًا على أصحاب أجهزة تنظيم ضربات القلب، في إشارة إلى نتنياهو الذي خضع قبل عدة أشهر لعملية جراحية، تم فيها وضع جهاز تنظيم ضربات قلب في صدره.
ويعد هذا السجال بين نتنياهو وبن غفير، وحزبيهما، هو الأول من نوعه بهذا الشكل، الأمر الذي يشير إلى تطور ملحوظ في منسوب وحجم التصدع الذي تعاني منه الحكومة وخريطتها الائتلافية رغم مساعي الالتئام والترميم المبذولة للحيلولة دون إخراج تلك الخلافات للعلن.
واستغل حزب “الوحدة الوطنية” الذي يقوده الوزير السابق بيني غانتس هذا السجال بين “الليكود” و”القوة اليهودية” لتصفية حسابات سياسية معهما، موجهًا انتقادًا لاذعًا لنتنياهو، عبر بيان له قال فيه: “أي شخص يعتقد أن هناك وزيرًا يسرب أسرار الدولة لا يمنحه السيطرة على الشرطة الإسرائيلية وعضوية مجلس الوزراء (في إشارة إلى بن غفير)”.
رابعًا: الصدام مع الجيش
رغم التوتر السابق بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية منذ بداية الحرب حين تبادل الطرفان سجال مسؤولية عملية طوفان الأقصى، فإن الأمور ظلت في إطارها الضيق وإن خرجت للعلن بين الحين والآخر وعلى فترات متفاوتة، وذلك قبل أن تتصاعد بتلك الطريقة غير المسبوقة بسبب التصريحات الصادرة عن المتحدث باسم الجيش دانيال هاغاري، التي نسف فيها مقاربات حكومة الاحتلال في استمرار الحرب وتوسعة رقعة التصعيد.
وكان هاغاري قد قال في تصريحات له إن تدمير حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ذر للرماد، وأن القضاء عليها عملية غير واقعية، مضيفًا في مقابلة مع القناة الـ13 الإسرائيلية، أن حماس بالفكرة المغروسة في قلوب الناس التي لا يمكن إخفاؤها، وهي التصريحات التي تطيح بالهدف الأول المعلن لتلك الحرب والخاص بالقضاء على الحركة بشكل نهائي، وضمان ألا تشكل تهديدًا للداخل الإسرائيلي.
وأثارت تلك التصريحات غضب نتنياهو وأعضاء حكومته، الأمر الذي دفع جيش الاحتلال إلى إصدار توضيح أشار فيه إلى أن هاغاري كان يقصد تدمير حماس كفكرة وأيديولوجيا، وأن أي ادعاء آخر هو إخراج لأقواله عن سياقها.
وفي سياق تلك الفوضى هاجم، نجل رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير نتنياهو، في تغريدة له، قائد سلاح الجو تومر بار، متسائلًا عن مكان وجوده حين نفذت عناصر حماس عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو المنشور الذي لم يعلق عليه نتنياهو ولا أي من أعضاء مكتبه.
المقاومة والصدمة النفسية
كان أداء المقاومة منذ عملية الطوفان وما تلاها على مدار أشهر الحرب التسعة صادمًا للشارع الإسرائيلي، ومتجاوزًا لكل التقديرات العسكرية، حتى المتطرفة منها، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على المشهدين، العسكري والسياسي، إذ بُعثرت كل أوراقهما، ما أدى في النهاية إلى خروج الخلافات للعلن رغم الجهود المبذولة لإبقائها أسفل الطاولة.
وتكشف الأرقام الرسمية الصادرة عن الجيش الإسرائيلي عن عدد الجنود الذين يراجعون العيادات النفسية بسبب الحرب، عن حجم الصدمة التي تعرضوا لها على أيدي المقاومة، إذ تجاوز عدد المعاقين من جيش الاحتلال ممن يتلقون العلاج في أقسام إعادة التأهيل 70 ألفًا لأول مرة منذ نشأة الكيان المحتل، بينهم 8663 أصيبوا بعد بدء الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، 35% منهم يعالجون من أمراض عقلية، مقابل 21% منهم إصاباتهم جسدية، فيما استقبل قسم التأهيل في جيش الاحتلال نحو 20 ألف جريح جديد منذ اندلاع الحرب الأخيرة، بجانب ارتفاع نسبة الأشخاص الذين يعانون من صعوبات في النوم، من 18.7% الصيف الماضي، إلى 37.7% أي بزيادة 101%”، في الوقت الذي زادت معدلات مرضى الضغط العالي في أثناء الحرب إلى 43.5%.
وفي مواجهة هذا الصدام مع الجميع، وخسارة الحلفاء والخصوم، خاطب نتنياهو شركاءه في كلمة مصورة بثها عبر حسابه على إكس، يحثهم على تجنب الانقسامات، لافتًا إلى أن الوقت ليس مناسبًا للتشريعات التي تعرّض الائتلاف الحكومي للخطر، مضيفًا “نحن في حالة حرب على عدة جبهات، ونواجه تحديات كبيرة وقرارات صعبة، لذلك أطالب بشدة جميع شركاء الائتلاف بضبط النفس”.
وهكذا، وبفضل المقاومة وصمود شعب غزة، يجد نتنياهو نفسه – ولأول مرة منذ توليه السلطة – في مأزق متعدد الأطراف، يتشارك فيه حلفاؤه ومعارضوه في الداخل، وداعموه في الخارج، ليتحول رئيس الوزراء المغرور صاحب الرؤى المتطرفة والسياسات العنصرية إلى شخص منبوذ من الجميع، وحمل ثقيل على كل المقربين منه، في الوقت الذي يهتف فيه النازحون بالسنوار والضيف ويرفعون أعلام حماس والجهاد.