الجهاديون وطوفان الأقصى.. السير على حبل مشدود

منذ انطلاقة عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، انقسم الجهاديون حول كيفية التعامل مع هذا الحدث، البعض اتخذ منذ البداية وحتى الآن موقف الدعم والتأييد المطلق وقلل من أهمية الاختلاف وتجاهل مواقفه السابقة أو أيد الطوفان مع ذكر التحفظات، والبعض كرر مواقفه السابقة المعارضة تجاه حماس، والبعض سعى للعب على الجانبين، الأمر الذي يكشف عن فصل جديد في خطاب الجهاديين.

إعادة إحياء تنظيم القاعدة

في تطور مفاجئ، أيد تنظيم القاعدة علمية طوفان الأقصى بشكل لم يسبق له مثيل رغم تحفظاته المعروفة تجاه حماس، إذ أصدرت القيادة العليا للتنظيم في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2023 بيانًا جاء في ثلاث صفحات بعنوان “ألا إن نصر الله قريب”.

وبشكل سريع ومنسق للغاية، سارعت فروع القاعدة منذ اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى إلى إصدار رسائل دعم وبيانات تأييدًا للسابع من أكتوبر والثناء والإعجاب على ما قامت به المقاومة، فكان فرع القاعدة في “شبه القارة الهندية” أول من أصدر بيانًا في 8 أكتوبر/تشرين الأول بعنوان “خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود”، تلاه فرع القاعدة في اليمن في 9 أكتوبر/تشرين الأول.

ثم فرع سوريا “حراس الدين” وفرع الصومال “حركة الشباب” في 11 أكتوبر/تشرين الأول، وفرعي شمال إفريقيا “تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” وفرع الساحل “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” في 13 من الشهر نفسه. وقد عبرت جميع فروع تنظيم القاعدة عن شوقهم للانضمام إلى المقاومة الفلسطينية، وتحسروا على طواغيت العرب الذين منعوا حدوث ذلك.

لكن لم يكتف تنظيم القاعدة وفروعه بإصدار البيانات، فمنذ 9 أكتوبر/تشرين الأول وتنظيم القاعدة في اليمن يخصص كل رسائله الإعلامية لتأييد طوفان الأقصى، ونشر “باطرفي” زعيم التنظيم باليمن فيديو مدته ساعة بعنوان “تساؤلات وردود حول عملية طوفان الأقصى وتداعياتها”.

وفي الفيديو، ظهر باطرفي بزي يمني مع خنجر يمني تقليدي على حزامه، وفي الخلفية صورة المسجد الأقصى، وأجاب عن أسئلة حول أهمية هجوم حماس، كما أثنى على “التوقيت المبارك” والمختار بعناية، معلنًا تأييده ومباركته لطوفان الأقصى، ومؤكدًا أن هذا هو موقف كل فروع التنظيم والقيادة العامة، كما اعتبر أن عملية طوفان الأقصى سوف توقظ الهمم والعزائم وستكون “ملهمة لهذا الجيل والأجيال المقبلة”.

لكن التأييد الأقوى لطوفان الأقصى جاء من القيادة العليا لتنظيم القاعدة، ففي بيانها الصادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول طالبت المسلمين باستهداف القواعد العسكرية الأمريكية وسفارات الدول التي تقدم الدعم لـ”إسرائيل”.

وقد اعتبرت القيادة العليا لتنظيم القاعدة هجمات 7 أكتوبر أعجوبة استراتيجية، ووصفت الطوفان بأنه “جوهرة المعارك الإسلامية في التاريخ الحديث”، كذلك في نشرة النفير العدد رقم 41، أشادت القيادة العليا للقاعدة بطوفان الأقصى ووصفته بالعملية المباركة ونقطة تحول في التاريخ وفرصة تأتي مرة واحدة في العمر.

في الواقع، عبرت جميع فروع تنظيم القاعدة عن الفرح والإعجاب بما قامت به المقاومة الفلسطينية ووجه مقاتلو تنظيم القاعدة المديح والتبجيل لـ”مجاهدي فلسطين” مع ذكر اسم كتائب القسام، لكنهم تحاشوا بشكل متعمد ذكر اسم الفصيل السياسي التابع للمقاومة، وهو ما يظهر استراتيجية القاعدة في دعم المقاومة المسلحة دون تأييد قراراتها السياسية.

وبشكل كبير ولافت، أعقبت بيانات التأييد والمباركة سلسلة مقالات وفيديوهات تناولت طوفان الأقصى ومركزية فلسطين لدى تنظيم القاعدة، لكن اللافت أن التنظيم وضع طوفان الأقصى في إطار معركة أكبر ضد الصليبيين، كما صورها على أنها جزء من جهاد القاعدة وامتدادًا لـ 11 سبتمبر/أيلول 2001، أو بتعبير التنظيم “11 سبتمبر الثانية” والتي ستؤدي إلى 11 سبتمبر الثالثة.

واستمرت حتى الآن بيانات التأييد والنصرة مع كل حدث كبير، مثل استشهاد أسرة إسماعيل هنية، ودعوة الشعوب المسلمة في كل مكان إلى مقاطعة كل ما هو غربي ويهودي، وتقديم الدعم المعنوي للمقاومة في فلسطين.

وفي الحقيقة هذه المواقف الأخيرة لتنظيم القاعدة تدل على أن التنظيم يشهد تطورًا كبيرًا في إيديولوجيته، فمن اللافت أن التنظيم لم يخف صراحة انسجامه مع حماس، وربما بات يراجع أدواته الخطابية، ويدل على ذلك البيان الذي أصدرته في أكتوبر/تشرين الأول وخاطب المقاومة الفلسطينية بالقول: “إن إخوانكم في قاعدة الجهاد وجميع المجاهدين الصادقين في العالم، يقفون معكم صفًا واحدًا في نفس خندق القتال، وإننا معكم على العهد والوعد، ونشهد الله العظيم أننا لن نخذلكم ما دام فينا عرق ينبض”.

خلافات

لفهم التطور الذي طرأ على تنظيم القاعدة في تعامله مع حماس، من المهم سرد بعض الأحداث القديمة بينهم، ففي الماضي شهدت علاقة القاعدة بحماس فترات مد وجزر، لكنها وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2006، إذ انتقد زعماء القاعدة حماس بسبب مشاركتها في الانتخابات، وفي عام 2006، انتقد الظواهري علنًا الطريق الذي سلكته حماس للوصول إلى السلطة، وكذلك عند توقيع حماس على اتفاق مكة، قال الظواهري: “باعت قيادة حماس فلسطين وباعت قبلها التحاكم للشريعة”.

ومن هنا تحديدًا كان خطاب القاعدة تجاه حماس شديد اللهجة، وجدير بالذكر أن حماس دخلت في سجالات مع تنظيم القاعدة وردت على بعض الانتقادات، وبعد يوليو/تموز 2007 عندما بدأت حماس في اتخاذ إجراءات صارمة ضد المتعاطفين مع تنظيم القاعدة في غزة واشتبكت مع الجماعات الجهادية المحلية في غزة مثل “جيش الأمة”، إذ كانت هناك دعوات للتمرد ضد حماس، تغيرت لهجة القاعدة بشكل كبير، حتى إن اسامة بن لادن كرر نفس انتقادات الظواهري وغيره من قادة القاعدة، وقال في عام 2007 عبارته الشهيرة “إن قيادة حماس أضاعت دينها ولم تسلَم لها دنياها”.

هذا بجانب الخلافات حول الوطنية والنظام الدولي، فقد اتهم تنظيم القاعدة حماس بالتفريط في أرض فلسطين مقابل السلام، وزعم “أبو يحيى الليبي” أن القومية والوحدة الفلسطينية أصبحتا أساس علاقات حماس، إلى درجة أنه أصبح من المستحيل التمييز بين حماس والحركات العلمانية، على حد تعبيره.

وبين عامي 2006 و2017، كان لدى تنظيم القاعدة رسالة ثابتة لقيادة حماس، وهي ضرورة أن تتحاكم إلى الشريعة وتتخلي عن الاتفاقيات الدولية وتركز على الجهاد، وكان صدام القاعدة مع حركة حماس حساسًا جدًا، لأنه ارتكز على ما اعتبره تنظيم القاعدة ثوابت وخطوط حمراء كالولاء والبراء.

ومن وجهة نظر القاعدة في ذلك الوقت، فحماس انتهكت الثوابت عندما قررت التخلي عن الشريعة والمشاركة في العملية الديمقراطية، لكن رغم ذلك، ظل بعض الأفراد داخل القاعدة يميزون في خطابهم بين الجناحين السياسي والعسكري لحركة حماس، وهذا التوجه هو الذي أصبح اليوم يغلب على التنظيم.

يمكن القول إن هناك مجموعة في تنظيم القاعدة عازمة على التعلم من أخطاء التنظيم الماضية، فوضع الأيدلوجية جانبًا أو عدم استدعاء الخلافات الفكرية والأيديولوجية مع حماس في الأحداث الأخيرة وتأييد المقاومة الفلسطينية اليوم بهذا الشكل، يشير إلى تحول في أولويات واستراتيجية التنظيم، خاصة بعدما حققت المقاومة شعبية وتعاطفًا في جميع أنحاء العالم، ولعل التنظيم بدأ يدرك محدودية خطابه في الوصول إلى الناس.

ولذا يلاحظ أن البيانات والرسائل الأخيرة لتنظيم القاعدة قد تحولت من الإطار السلفي الجهادي والشكل النخبوي المعتاد إلى الشكل الشعبي الاجتماعي، مثل الدعوة إلى مقاطعة البضائع الغربية، وتعزية إسماعيل هنية، ودعم وتأييد لعمليات الجنود المصريين وأحد رجال الشرطة ضد سياح إسرائيليين.

بجانب تأييد طلاب الجامعات الغربية الذين عبروا باعتصامهم واحتجاجاتهم عن رفضهم للإبادة التي تحدث في غزة، وكذلك الدعوة إلى عصيان مدني، والإشادة بفتوى أصدرها العالم الموريتاني محمد الحسن الددو، والذي نقل عنه قوله إنه يجب على المسلمين أن يفعلوا كل ما في وسعهم لتحرير الأقصى ودعم المقاتلين وكسر حصار غزة.

وبالتالي فهذه السلوكيات لا تظهر تنظيم القاعدة بمظهر المتطرف، فدعوته إلى مقاطعة البضائع الغربية المتواطئة مع الاحتلال وتأييد انتفاضة طلاب الجامعات الغربية لا تبدو نخبوية ومعزولة، لأن مثل هذه الدعوات صدرت أيضًا عن مؤسسات إسلامية ورجال دين لهم كلمة مسموعة في العالم الإسلامي ولا يحسبون على التيار المتطرف.

ربما لا يستغني تنظيم القاعدة بشكل كامل عن المنهج السلفي الجهادي وجميع قيوده الأيديولوجية في الفترة الحالية، لكنه بالفعل منذ طوفان الأقصى بدأ يتفلت من القيود الأيديولوجية الصارمة التي تشبث بها، وأظهر مرونة كبيرة وغير معتادة من خلال رأب الصدع الأيديولوجي القديم بينه وبين حماس، لدرجة أنه عدل أيديولوجيته للتكيف مع واقع ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وقد يكون ذلك راجعًا بالدرجة الأولى إلى “سيف العدل” الزعيم المفترض للتنظيم بعد مقتل الظواهري في صيف 2022، فمن الواضح أن سيف العدل همه الأساسي الاستراتيجية، وليس النقاء العقائدي، وهو ذو توجه عسكري في المقام الأول، لذا لا يميل إلى الالتزام الصارم بالأصول السلفية الجهادية، بقدر ما يراعي الاستراتيجية المرتبطة بالطموحات المرجوة.

المقدسي وفتنة الغرباء الثالثة

إن التطور المفاجئ لتنظيم القاعدة تجاه حماس والتأييد المطلق لطوفان الأقصى دفع العديدين من كبار المنظرين الجهاديين الذين دعموا تنظيم القاعدة إلى انتقاد مواقف التنظيم الأخيرة، ولعل أهمهم وأبرزهم “أبو محمد المقدسي”، فمنذ 7 أكتوبر والمقدسي يكتب الكثير من الرسائل ويرد على الأسئلة بخصوص الموقف من حماس، ومواقف تنظيم القاعدة الأخيرة.

لقد كان الطرفان الرئيسيان في النقاش هما: الفلسطينيان أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني، وهما صديقان قديمان اختلفا في السنوات الأخيرة، وفي حين تغاضى أبو قتادة عن اعتراضاته على حماس وأشاد بما قامت به في السابع من أكتوبر، كما ركز على أهمية تجاوز الخلافات من أجل تحقيق مصلحة الأمة، كان المقدسي على العكس.

في الواقع، حملت كتابات المقدسي الأخيرة نقدًا قاسيًا لتنظيم القاعدة بسبب مواقفه الأخيرة من حماس، ولعل المقدسي بنقده الحاد فتح الباب أمام الخلافات التي لم تبرز للسطح بعد، فقد انتقد بشكل واضح مواقف تنظيم القاعدة الأخيرة لدرجة أنه اعتبر أن التنظيم يحاول إعادة تشكيل نفسه ويدير ظهره للمنهج الجهادي الذي عمل المقدسي وآخرون على بنائه.

ورغم أن موقف المقدسي تجاه حماس ليس كموقفه تجاه تنظيم الدولة، في الحقيقة لا يكفر المقدسي حماس، إلا أنه لا يتسامح مع ما يعتبره عدم الالتزام بالمنهج السلفي. ويرى أن حركة حماس “مجموعة قومية منحرفة”، وفي أحيان كثيرة لا يميز بين الجناح السياسي والعسكري لحماس مثل العديد من الجهاديين.

في الواقع، دعا المقدسي إلى نصرة غزة وأهلها بكل الوسائل الممكنة منذ السابع من أكتوبر، وتمنى أن تكون طوفان الأقصى فرصة لإيقاظ الشعوب وصحوة للأمة وإشعالًا لجذوة الجهاد، وفي تعليق له نشره عبر تلغرام بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول، أعرب عن انزعاجه من تلقي العديد من الاستفسارات حول كتاباته السابقة المتعلقة بحماس معتبرًا أن هذا ليس الوقت المناسب، وقد كتب:

“لقد انزعجت من تكرار سؤال الأخوة عن أقوالنا المعروفة والقديمة في حماس في هذا التوقيت.. وانزعاجي لأن هذا أمر أولًا انتهينا منه، ثم يريد بعض الأخوة إثارته أو نشره في هذا التوقيت وغزة تحرق والمعركة اليوم صارت بين أمم الكفر الذين يحشدون عليها ويؤازرون اليهود من كل البلدان، كأن مراد بعض الأخوة بنشرها الآن التخذيل عن نصرة أهل غزة بينما اليهود والنصارى يؤازر بعضهم بعضًا ويعتبرونها معركة وجودية ومصيرية”.

ورغم إدراك المقدسي بأن الوقت ليس مناسبًا لذكر اعتراضاته على حماس، فمن الواضح أن تأييد تنظيم القاعدة لحماس دون ذكر التحفظات قد أثار حفيظته، لذا جاءت تصريحاته التالية بشأن حماس في العدد الرابع من مجلة “المحجة الجهادية” والتي صدرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

ففي مقالته التي حملت عنوان “غزة العزة وطوفان الأقصى: دروس وعبر”، أشاد المقدسي بطوفان الأقصى قائلًا إنه “لم يبق مؤمن صحيح الإيمان في هذه المعمورة لم يفرح بعملية طوفان الأقصى التي عرت جيش الاحتلال اليهودي وأظهرت أنه يسهل اختراقه”.

ومع ذلك، سرعان ما تراجع في نفس المقال، وأعلن بقوة عن تحفظاته بشأن حماس، ووصف جهاد حماس بأنه “دخن وموسوم بالفساد” وتساءل “كيف لو كان جهادًا في سبيل الله وفي سبيل تحكيم شرعه في الأرض وكما يحب ربنا ويرضى”، ومن هنا مضى المقدسي يعيد التأكيد على انتقاداته السابقة لما يعتبره انحرافات حماس، كما رأى أنه لا يمكن لأي عملية عسكرية مهما كانت كبيرة أن تمحو هذه التجاوزات، وقد كتب:

“إن ما بيناه سابقًا ومرارًا وتكرارًا من انحرافات حماس وحكومتها؛ لا تمحوه مثل هذه الغزوات؛ كلا فهذا فهم مغلوط منكوس، فلا يمحو جريمة تعطيل الشريعة إلا تحكيمها، ولا يمحو إثم الديمقراطية إلا البراءة منها، ولا يمحو تعظيم وتبجيل أكابر مجرمي الروافض وموالاة قتلة السنة كسليماني ودولته وآياته الشيطانية إلا البراءة منهم، ولا يمحو مدح وتلميع بشار قاتل مئات ألوف السوريين ومغتصب النساء ومدمر البلاد والعباد إلا البراءة منه ومن نظامه المجرم”.

ومضى المقدسي يسترجع التاريخ القديم لحماس ويشير إلى أنها حاربت الجماعات السلفية الجهادية، وفي إشارة إلى مواقف تنظيم القاعدة الأخيرة تجاه حماس، اتهم المقدسي القاعدة بأنهم يجملون حماس بكل رذائلها وعيوبها بسبب غارة نفذتها بنجاح، على حد تعبيره “التطبيل بلا تحفظ”، لكنه ذهب إلى حد أن تأييد تنظيم القاعدة لحماس يضل الأمة ويضعف من عقيدة الناس، والأهم برأيه أن قيادة القاعدة تهدم الصرح السلفي الجهادي الذي بني على مر السنوات الماضية. كتب المقدسي:

“مصيبتنا في ركوب هذا الطوفان والتطبيل المطلق له أنه بذلك سيجرف بنياننا الذي أسسناه لعقود بسبب مراهقات عاطفية لا تلبث أن تذهب سكرتها.. لست ممن يُقَعقَع خلفه بشنان ويغدو مطبلًا لحماس يزوقها ويجملها بعجرها وبجرها الغزوة نجحت فيها فيضلل بذلك الناس ويميع عقيدتهم، فقد ركب جل الشيوخ والجماعات أمواج هذا الطوفان حتى أوشكوا أن يغرقوا أتباعهم في شبهات الجماعات البدعية ويوقعوهم في التناقضات وكأن كل ما فعلته وتفعله حكومة حماس من موبقات معفو عنه متسامح فيه ما دامت قد قاتلت يهود”.

واللافت أن تقديم تنظيم القاعدة طوفان الأقصى على أنه جزء من نفس الجهاد العام الذي يقوم به، وتعبيرات الوحدة وتصوير العلاقة مع حماس على أنها علاقة أخوة الإسلام المشتركة قد استفز المقدسي بشكل كبير، ففي نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول 2023 نشر تنظيم القاعدة فيديوهات قصيرة تضم لقطات لمقاتليه وهم يتغنون بمعركة طوفان الأقصى ويحثون المسلمين على الانضمام إلى أبطال 7 أكتوبر.

هذه المحاولات لم ترق إطلاقًا للمقدسي الذي اعتبرها تميعًا وإضعافًا للجهاد، ولم يستطع احتواء غضبه، ففي مقال له في أوائل يناير/كانون الثاني 2024، انتقد بشكل واضح ثناء القاعدة في إصدارتها على مقاتلي حماس وتمجيد قتلاهم واعتبارهم “شهداء القدس” في الوقت الذي تتبرأ فيه حماس من الجهاد العالمي بل وتعده إرهابًا حسب المقدسي.

وفي إشارة لإثبات قوة موقفه، استشهد المقدسي بما قاله بن لادن والظواهري عن انحرافات حماس، كما حذر قيادة القاعدة من إدخال نفسها في معركة لا ناقة لها فيها ولا جمل، وذَكّر القاعدة بأن حماس تتمسك بمنهج الإخوان المسلمين والديمقراطية وتحكم بالقوانين الوضعية، ولا تقاتل لإقامة شرع الله، كما انتقد ما اعتبره سذاجة وحماقة من تنظيم القاعدة في إغداق الثناء على حماس، وقال مخاطبًا تنظيم القاعدة:

“القائمون الرئيسيون عليها يخالفونك في أصولك وليس في الفروع! ولا يلتقون معك لا في المسار ولا الأساليب ولا الأهداف، بل إن الروافض سبابي أصحاب نبينا ﷺ وأزواجه الطاهرات، وقاتلي إخوانك في الشام والعراق واليمن وغيرها أقرب للقائمين عليها منك، وتأثيرهم عليهم أقوى وأظهر”

وختم المقدسي: “لا تركب موجة ليست لك ولا تُطبل وترقص لأغاني لا تناسبك.. إن حماسك لهم [حماس] وكلامك وبياناتك عنهم وكأنك ناطق باسمهم تُعتبر نياحة مستعارة، وتطبيلك لهم دون تحفظ على منهجهم هو في الحقيقة خليط من الحماقة والسذاجة والسفه”.

من المهم ذكر أن القيادي بتنظيم القاعدة مصطفى أبو اليزيد حين قال في مقابلة أجريت معه عام 2009: “إن مجاهدي حماس هم إخواننا ونحن وهم على فكر ومنهج واحد”، اعترض المقدسي عليه في رسالة مطولة حملت عنوان “نحن وحماس لسنا على منهج واحد وهم من يعلن ذلك”، عندها تراجع أبو اليزيد في بيان توضيحي معترفًا بخطئه وشاكرًا المقدسي على توضيحه.

ومع ذلك، فرغم مرور 15 عامًا على ​​هذه القصة، فلا يبدو أن القاعدة تحت قيادة “سيف العدل” ستُظهر للمقدسي نفس الاحترام الذي أظهره أبو اليزيد. ويعتبر المقدسي أن الحركة الجهادية تعيش اليوم الفتنة الثالثة أو ما أسماه بـ”فتنة حماس الإسلامقراطية” بعد أن انقضت فتنة تنظيم الدولة ثم فتنة أبو محمد الجولاني.

الجهاديون السوريون: معضلات مكبوتة

لا شك أن الجهاديين السوريين هم أشد الجهاديين عداوة لإيران وحزب الله، مع ذلك فقد كان موقف معظمهم تأييدًا لطوفان الأقصى، ودعوا إلى دعم المقاومة بأي طريقة ممكنة، كما عقد بعضهم ندوات تحت شعار “إدلب وغزة: الجرح ذاته”، وفي الوقت نفسه أعرب بعض الجهاديين السوريين عن أسفهم للتعاون بين حماس وإيران شريكة نظام الأسد في تدمير سوريا.

في الواقع، كانت رسالة غالبية الجهاديين السوريين هي أن القضية الفلسطينية قضيتنا، وأنهم يدركون المعاناة التي تعيشها غزة، لأن ما يحدث هناك حدث معهم، فعلى سبيل المثال، الشرعي العام لهيئة تحرير الشام، عبد الرحيم عطون الملقب بأبو عبد الله الشامي كان معبرًا بشكل كبير عن موقف عموم الجهاديين في سوريا حين أثني ودعم طوفان الأقصى وتبنى نفس موقف رجل الدين الموريتاني محمد الددو، كما قدم التعازي لإسماعيل هنية الذي وصفه بالأخ القائد.

من إدلب إلى غزة.. الجرح واحد

في حين أن زعيم أحرار الشام، عامر الشيخ، لم تغب عنه صورة ما قامت به المليشيات المدعومة من إيران وعبر عن مشاعر متضاربة ما بين الفرح لنصر المقاومة والحزن لأن إيران سوف تستخدم هذا النصر لصالح مشروعها الطائفي، وقد قال في منشور له على قناته على التليجرام:

“نفرح لتعاطف المسلمين على وجه الأرض مع قضية المستضعفين في فلسطين، ونأسى على تجاهل دماء المستضعفين في إدلب وما حولها التي سالت على أيدي النظام والروس والإيرانيين حتى أطبق الصمت الآفاق وكفى بالله نصيرًا لعباده المؤمنين”.

تنظيم الدولة.. السير على حبل مشدود

رغم أن تنظيم القاعدة وطالبان وهيئة تحرير الشام أعلنا منذ البداية تأييدهم لطوفان الأقصى، فإن تنظيم الدولة كان متأخرًا في الرد قُرابة أسبوعين. مع المعروف أن تنظيم الدولة يكن قدرًا كبيرًا من الازدراء لحماس، وقد أعلن سابقًا أن أعضاءها مرتدون، لكن من الواضح أنه وجد صعوبة في استحضار العداء السابق أو تقديم الدعم لحماس مع ذكر حتى التحفظات كما فعل البعض. لقد كان حذرًا بشكل كبير في اتخاذ موقف واضح وتردد في التشنيع على حماس مثل السابق.

 

ولكي لا يظهر بموقف البعيد عن مسار الأحداث والمنعزل عن ما تمر به الأمة، دعا تنظيم الدولة المسلمين إلى دعم غزة دون الإشارة إلى سياق طوفان الأقصى. وقد ظهر الرد الأول لتنظيم الدولة في صحيفته الأسبوعية النبأ على مدار الأعداد (412 – 413 – 417)، لكنه لم يشر صراحة إلى طوفان الأقصى، وإنما تحدث عن موقف المسلم من الأقصى والاحتلال الإسرائيلي.

واعتبر تنظيم الدولة أن المسلمين عليهم أولًا محاربة الأنظمة العربية التي تعمل بمثابة جدار الدفاع عن الدولة اليهودية، كما ادعى أن العمليات التي يقوم بها من خلال مهاجمة “الأنظمة المرتدة” تشكل مساهمة في القضية الفلسطينية، رغم عدم ضرب أهداف إسرائيلية.

ثم في يناير/كانون الثاني الماضي وفي رسالة صوتية بعنوان “واقتلوهم حيث ثقفتموهم”، خرج التنظيم عن صمته طيلة الثلاثة أشهر السابقة، وحث المتحدث الرسمي لتنظيم الدولة أبو حذيفة الأنصاري حماس على تصحيح مسارها، مجادلًا بأن معركتها الأخيرة في غزة ليست من أجل الله وإعلاء كلمته، بل من أجل التراب والأرض.

ومضى الأنصاري في انتقاد حماس لتحالفها مع محور المقاومة التابع لإيران، مشيرًا إلى أن المخططات التوسعية لـ”الرافضة الشيعة” لا تقل تهديدًا للمسلمين من مؤامرات اليهود والصليبيين، كما اعتبر أن الفصائل الفلسطينية تنخرط في حرب بالوكالة عن إيران.

وفي اليوم التالي من كلمة الأنصاري (5 يناير/كانون الثاني) نفذت جميع الولايات التابعة لتنظيم الدولة عدة هجمات لمواقع عسكرية وحواجز طرق ومدنيين مسيحيين ودوريات عسكرية وجواسيس مزعومين. وقد أظهر التنظيم أن هذه الهجمات جاءت تضامنًا مع غزة، حتى إنه في أحد مقاطع الفيديو ظهر أحد مقاتلي تنظيم الدولة في مالي وهو يطلق صواريخ على معسكر للجيش المالي وميليشيا فاغنر مكتوب عليها “ثأرًا لإخواننا المسلمين في غزة”.

لكن بينما أعرب معظم الجهاديين عن دعمهم للمقاومة في غزة، وبعضهم أبدى الدعم مع ذكر التحفظات، سعى تنظيم الدولة مؤخرًا إلى تقليل مناقشة ما يجري في غزة، بجانب إعادة نشر مواقفه السابقة من حماس وما يعتبره تجاوزات دينية، وبالتالي لم يغير أيًا من أنماطه الأيديولوجية في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

وفي كلمته الأخيرة “والله ليتمن الله هذا الأمر” أعرب المتحدث الرسمي لتنظيم الدولة عن استيائه من المعايير المزدوجة للمسلمين، إذ رأى أن ما يحدث في غزة جرى أضعافه قبل سنوات قليلة في العراق والشام، لكن بالمثل لم يهتم أحد من الذين يظهرون الآن غضبًا تجاه غزة. ثم في حديثه عن الحل لما يجري في غزة، رأي الأنصاري أن الحل يكمن في إصلاح عقائد الناس والاجتماع خلف إمام واحد ومنهاج واحد تحت راية الشريعة.