أدى النزوح والتهجير إلى الشمال السوري إلى تنوع التركيبة الاجتماعية، حيث خلقت خليطًا من الشرائح السكانية المتنوعة التي تواجه تحديات كبيرة في الاندماج وبناء مجتمع متماسك، اتضحت ملامحه في الفجوة الطبقية التي أوجدتها سنوات الحرب الطويلة، مع انسداد أفق الحل وانقطاع الأمل في عودة النازحين إلى منازلهم.
يمثل هذا الانقسام الطبقي في الشمال السوري، والذي تنامى مع مرور أكثر من 13 عامًا، أساسًا للمشكلات والخلافات الاجتماعية بين مجتمعين: أحدهما يسكن المدن، وهي تجمعات سكنية توسعت عشوائيًا، والآخر يسكن المخيمات ومراكز الإيواء، وهي وحدات سكنية بدائية ومؤقتة.
وتشكّل نسبة النازحين والمهجرين في الشمال نحو 49.32% من السكان البالغ عددهم 6 ملايين و17 ألفًا و52 نسمة، بينما يبلغ عدد النازحين الذين يعيشون في المخيمات ومراكز الإيواء نحو مليونين و16 ألفًا و344 نسمة، وفقًا لإحصائيات منسقو استجابة سوريا.
في التقرير التالي، نرصد جوانب هذا الانقسام الطبقي والتحديات التي تواجه السكان في مختلف مناطق الشمال السوري، مسلطين الضوء على أسباب الفجوة الطبقية وتأثيرها على الحياة اليومية للمجتمعين المذكورين.
مشاكل المخيمات
مع تحول المخيمات المؤقتة على الحدود مع تركيا وقرب المدن والبلدات إلى موطن لمئات الآلاف من السوريين على مدى السنين الماضية، تكونت بيئة مجتمعية في هذه المخيمات بشكل عشوائي. ومع طول فترة النزوح أخذت هذه المخيمات شكل الاستقرار النسبي، واضطر قاطنوها إلى استبدال الخيمة بغرف إسمنتية خاصة مع زيادة أعداد أفراد العائلات وتطور احتياجاتهم.
وبُنيت معظم المخيمات على أساس مناطقي في مختلف مواقع انتشارها، حيث اجتمع أهالي مدينة أو بلدة في مخيم واحد. على سبيل المثال يضم مخيم معبر باب السلامة الحدودي مع تركيا سكان مدينة تل رفعت شمال حلب بعد نزوحهم عام 2016، قبل تحوله مؤخرًا إلى مساكن من الطوب، كما يقطن في مخيم زوغرة الواقع قرب مدينة جرابلس الغالبية من مهجري حي الوعر في حمص، في حين يأوي مخيم كفرنبل نازحين من بلدة كفرنبل بريف إدلب.
حافظ النازحون على التركيبة المجتمعية المناطقية رغم انخراطهم في مجتمعات سورية متعددة. إلا أن ذلك لم يمنع تنوع بيئة بعض المخيمات، إذ تجمع مخيمات في مدن أطمة وكلي ومحيط سرمدا والدانا وإدلب نازحين من مناطق مختلفة، مما جعلها خليطًا سوريًا متنوعًا.
ورغم تطور المخيمات من تحويل المساكن القماشية إلى مساكن من الطوب الإسمنتي، إلا أنها تفتقر إلى الخدمات الأساسية، حيث تعاني هذه المخيمات من غياب مياه الشرب النظيفة، وانعدام الكهرباء، وافتقارها لأنابيب الصرف الصحي، مما يساهم في انتشار الأمراض والأوبئة بين سكانها.
ويؤكد منسقو استجابة سوريا أن أكثر من 991 مخيمًا يعاني من انعدام المياه (مياه الشرب)، بينما يواجه نحو 318 مخيمًا من نقص توريد المياه، فيما يغيب الصرف الصحي عن 829 مخيمًا، ويعاني نحو 63% من المخيمات من مخاطر الصرف الصحي المكشوف، من أصل 1904 مخيمات ومراكز إيواء.
كما يعاني نحو 1128 مخيمًا من غياب النقاط الطبية، وفي حال تواجدها في بعض المخيمات تعاني من نقص التمويل وخطر الإغلاق، ما يضطر بالنازحين إلى الذهاب إلى المدن لتلقي العلاج.
فيما تعدّ مشكلة غياب التعليم عن المخيمات إحدى المشاكل الأساسية، حيث يعاني نحو 1016 مخيمًا من غياب النقاط التعليمية، ما جعل معظم قاطني المخيمات لا يجدون سبيلًا لتلقي التعليم، في حين يضطر بعضهم للتعلُّم في المدارس الرسمية في حال كان المخيم قريبًا من المدن.
محمد جهجان أحد قاطني هذه المخيمات، حيث يقيم في مخيم بلدة احتميلات شمالي حلب، الذي نزح إليه مع عائلته من ريف معرة النعمان عام 2019، ويعمل في المياومة بعد فشله في إيجاد فرصة للخروج من المخيم.
ولا تغطي أجور عمله سوى جزء من احتياجاته إلى جانب سلّة إغاثية شهرية، ما زاد من تردي حالته المعيشية ودفعه إلى دفع أبنائه للعمل بعد تركهم صفوف الدراسة، فضلًا عن اضطراره إلى البقاء في حدود المخيم لعلّه يستطيع تجاوز المرحلة على أمل العودة القريبة إلى منزله.
كما تؤثر طبيعة مكان المخيم في صعوبة حصول قاطنيه على فرص العمل، خاصة إذا كان المخيم بعيدًا عن المناطق التجارية والحيوية النشطة، ما يجعل بيئة المخيمات قيد الانفجار في أي لحظة كونها تعاني من أزمات مركّبة.
ورغم توجه فرق تطوعية ومنظمات إنسانية غير حكومية لبناء مساكن صغيرة، إلا أن طبيعة الحياة فيها لا تختلف كثيرًا عن المخيمات سوى أنها مبنية من الطوب، لكن ساكنيها يواجهون مشاقًّا كبيرة في تأمين الاحتياجات، بسبب بُعدها الجغرافي عن مراكز المدن وافتقارها للخدمات.
ورغم تطوير بعض الفرق التطوعية والمنظمات السورية وغير السورية طريقة بناء المساكن، من حيث البناء الطابقي والخدمات ومساحة الشقق السكنية، إلا أن معظمها بُني بمسافات بعيدة عن مراكز المدن الرئيسية، كما أن تميزها بنوعية محددة من السكان يزيد حالة الانقسام بين المجتمعات السورية.
شبه المدن
خلال السنوات الماضية ومع التوسع العمراني، اتخذت بعض التجمعات السكنية شكل المدن المصغّرة، التي تعتبر البيئة المعيشية فيها جيدة نسبيًا إذ ما قورنت ببيئة المخيمات، ما دفع النازحين والمهجرين ميسوري الحال وأصحاب المؤهّلات العلمية والمهارات العملية إلى الانخراط سريعًا في مجتمعات المدينة، على عكس حالة المخيمات التي انعزلت وانطوت كليًا.
عبدو السمان (30 عامًا) أحد قاطني هذه المدن، بعدما نزح من بلدة معر شمارين التابعة لريف معرة النعمان جنوبي إدلب أواخر عام 2019، إلى مدينة مارع شمالي حلب، حيث سكن ضمن خيمة في مدرسة مدمرة قبل انتقاله إلى مخيم على الحدود السورية التركية، لكنه لم يستطع التأقلم ما دفعه إلى الاستقرار في المدينة.
وأدّى انتقاله إلى أحد المراكز السكنية في المدينة بانخراطه مباشرة مع المجتمع، وبدأ بالبحث بشكل جدّي نحو تنمية خبراته ومؤهّلاته العلمية، حيث تابع تحصيله العلمي في معهد إعداد المدرّسين لمدة عامين، وانضم إلى الكوادر التعليمية والتدريسية ليصبح مدرّسًا لاحقًا، إلى جانب عمله في البقالة.
وتوفر بيئة المدينة والبلدة جزءًا من الخدمات حيث تتوافر الطرقات المعبّدة والكهرباء والمياه سواء عبر شبكات البلدية أو عبر شرائها بالصهاريج، إضافةً إلى توفر شبكات الصرف الصحي التي رغم تضررها، كونها غير مجهّزة لأعداد سكانية متزايدة، إلا أنها تبدو في حالة أفضل من شبكات المخيمات.
كما توفر المدن خدمات صحية عامة وخاصة، رغم ضعفها الناتج عن انخفاض التمويل الدولي للنقاط والمشافي، أما القطاع التعليمي فرغم العثرات المحدقة التي واجهته، إلا أن بعض المناطق استطاعت متابعة تعليم أطفالها، بينما انعدم في مناطق أخرى وتحول إلى القطاع الخاص كما في إدلب.
وتميزت هذه المدن بنشاطها التجاري والصناعي الحيوي من حيث توافر الأسواق وحركة الزراعة والبناء والعمران، وهو ما يستقطب أيدي عاملة كبيرة في المنطقة غير متوفرة في بيئة المخيم.
ويبدو أن توافر الخدمات، ولو بجزء نسبي، يساهم في تجاوز الفجوة الطبقية، حيث يعدّ عاملًا في تحسُّن وتطوير المستوى المعيشي، كما يتيح الفرصة أمام السكان إلى التوجه نحو الاستقرار.
واعتبر الباحث الاجتماعي أمجد المالح أنه لا يمكن توصيف التجمعات السكانية الكبيرة في شمال غربي سوريا بـ”المدينة”، لأن المدينة يجب أن تتيح خدمات متكاملة صحية وتعليمية وثقافية وترفيهية، موضحًا أن وصف المدينة يمكن أن يُطلق فقط على إدلب، في حين أن باقي المناطق هي شبه مدن، وهي عبارة عن تجمعات سكانية توسعت عشوائيًا جرّاء عمليات النزوح والتهجير القسري.
وقال المالح لـ”نون بوست” إن “الحالة الوجودية للمخيمات استثنائية ومرحلة قصيرة، لكن طول أمد الحرب السورية، وعدم اتضاح أفق المستقبل، حوّلها إلى تجمعات بشرية سكانية تتخذ المخيمات أسلوبًا للمعيشة في تطور نسبي من خلال بناء الطوب وتفتقر لمقومات الحياة”.
وأضاف أن “المنطقة تشهد بوادر نشوء شرخ طبقي بين مجتمعات المخيمات والمدينة بنسب محدودة ومتفاوتة مع إمكانية توسع هذا الشرخ، لأن النازحين والمهجرين في المخيمات بدأوا يشعرون بوجوب البحث نحو الاستقرار في المنطقة، ما يعني خضوعهم للواقع وانعدام أمل العودة إلى المنطقة التي نزحوا منها”.
التفاوت الطبقي
رغم مصادر الدخل المتساوية بين سكان المخيم والمدينة، إلا أن هناك عوامل تساهم في إحداث فجوة طبقية مجتمعية تتنامى مع الزمن، وكلما شعر النازحون والمهجرون بالاستقرار تكشفت ملامح الطبقية حسب الملاح الذي حدد الأسباب هذه الفجوة، وهي:
- فارق الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، حيث انعدام فرص العمل لدى سكان المخيمات في جميع المجالات، بينما تتوافر نسبيًا لدى سكان المدن بسبب تواجد النشاطات التجارية الحيوية والوظائف الحكومية.
- توافر خدمات تعليمية وصحية نسبيًا في المدن والبلدات وانعدامها كليًا في المخيمات.
- التبعية العسكرية والسياسية لأن الأوضاع الأمنية تدفع بعض الأشخاص إلى البقاء في حدود المخيم، لأسباب ترتبط بالحصول على دعم أو صلة قرابة بالسلطات.
- الإغاثة والمساعدات الإنسانية وطريقة تعاطي المنظمات مع قاطني المخيمات كأولوية، وعدم قدرة قاطني المخيمات على تجاوز الخيمة بسبب اضطرارهم للحصول على الإغاثة.
- العادات والتقاليد التي تدفع النازحين والمهجرين إلى البقاء ضمن مجتمع واحد قد يكون مخيمًا أو مركز إيواء، وعدم تقبّل المدن لعادات وتقاليد النازحين، والعكس.
- الموروث الثقافي والتعلق والانتماء والارتباط بالمناطق التي نزحوا منها، وآمال العودة القريبة.
من جانبه، يرى الباحث في قضايا السكان والمجتمع بمركز جسور للدراسات بسام السليمان، أن كلمة السر تكمن في الخدمات، لأن الإنسان عندما ينشأ في بيئة تحتوي على تعليم وأنشطة ثقافية وندوات وحوارات وطبابة وخدمات أخرى، يكون أمام فرص أوسع للتطور على عكس المخيمات التي تفتقر لكل ما سبق.
وقال السليمان لـ”نون بوست” إن “تنامي التفاوت الطبقي بين المدينة والمخيمات يتركز في الفارق الخدمي، فالإنسان في المدينة تتاح له فرص العمل والدراسة على عكس المخيم الذي يركن قاطنه إلى التواكل والسلّة الإغاثية، ويجعله أمام فراغ كبير مع ضعف الخدمات والبطالة، حيث يمكن أن تستغل في أمور غير جيدة ما يزيد الفارق، بينما يكون مجتمع المدينة أكثر تطورًا”.
وأضاف إن “استمرار الفوارق الخدماتية يخلق نظرتَين دونية وحاقدة، فابن المدينة ينظر إلى ساكني المخيم بنظرة دونية، بينما ينظر ابن المخيم نظرةً حاقدة تجاه ابن المدينة ما يعمّق الطبقية بين المجتمعَين ويزيد الانقسام، لا سيما أنها حالة في طور التنامي”.
وأوضح السليمان أن الفرد الذي يعيش في المخيمات يعاني من نقص في المهارات والمؤهّلات العلمية نتيجة البيئة التي يعيش فيها، ما يجعله مجبرًا على البقاء ضمن حدود الخيمة، مشيرًا إلى أنه لو كان يتمتع بمهارات عالية لانتقل للعيش في المدينة، كما هو الحال بالنسبة إلى النازحين، مع وجود استثناءات مثل المدرّسين وأصحاب الحرف والمهن الذين يختارون البقاء في المخيمات لأسباب عائلية ومناطقية.
وأشار الباحث إلى مثال لطفلَين من مدينة خان شيخون يدرسان في الصف السادس، يتمتعان بالذكاء وظروف معيشية جيدة، الأول والده طبيب والثاني والده فلاح، وعقب نزوحهما عام 2018 انتقل ابن الطبيب للعيش في سرمدا وحظي ببيئة تعليمية ومعيشية جيدة، بينما ابن الفلاح اضطر للعيش في المخيم حيث لا تتوافر نفس الظروف التعليمية والمعيشية.
وتساءل الباحث عن حال الطفلين بعد 6 سنوات من النزوح وعن وضعهما في عام 2030، معتبرًا أنه من الطبيعي أن يؤدي هذا الوضع إلى خلق تفاوت طبقي يولد مشاعر حقد من ابن المخيم تجاه ابن المدينة، ونظرة دونية من ابن المدينة تجاه ابن المخيم، ما يشرعن حالة الانقسام المجتمعي بين المخيم والمدينة إذا لم تتم معالجتها.
التماسُك الاجتماعي
هذه البيئات المتفاوتة بين المخيم والمدينة خلفت انقسامًا اجتماعيًا ينعكس بشكل سلبي على التماسك الاجتماعي السوري، ما يساهم في تهدم المجتمع وتضعيف هوية الانتماء إلى الأرض، وغياب الاستقرار وتوظيف المنظور المرحلي للفترة الحياتية.
وأكد السليمان أن المشكلة ليست في حدوث تمايز من خلال رؤية كل مجتمع لآخر بشكل سلبي، لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن بيئة المخيمات تخلق فئة اجتماعية لن تساهم في إنضاج المجتمع حيث تكون عبئًا عليه.
وأوضح أن غياب التعليم والبنية التحتية في المخيمات يؤدي إلى خلق أفراد غير فاعلين في المجتمع، ما يسهم في تراجع هذا المجتمع إلى مراتب أدنى.
وأشار إلى أن نمو الطبقية المجتمعية بين المخيم والمدينة يؤدي إلى حالة انقسام المجتمع الواحد، وخلق فرصة استقطاب طبقي، من حيث جعل فئة ساكني المخيمات عبئًا على المجتمع اقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، ما يثير الاحتقان بين المجتمعَين.
وتبدو أزمة الطبقية بين المخيم والمدينة في طور تناميها، بعدما فقد النازحون والمهجرون أمل العودة إلى ديارهم، في ظل طول أمد الحرب وعدم وضوح المستقبل، حيث بدا واضحًا ميل النازحين والمهجرين إلى البحث عن الاستقرار في مناطق شمال غربي سوريا رغمًا عنهم، بعدما حافظوا طيلة السنوات الماضية على قوقعتهم المناطقية.
ختامًا، إن إبعاد المخيمات والقرى السكنية المخصصة للنازحين والمهجرين عن مراكز المدن تسبّب في بيئات مجتمعية موازية داخل المجتمع الواحد، وهو ما يعزز الفجوة الاجتماعية، وبالتالي يجب على المنظمات والسلطات المحلية إيجاد الحلول الحقيقية التي تساهم في دمج المجتمعات التي حافظت على عاداتها وتقاليدها رغم انخراطها في مجتمعات سورية متنوعة، للوصول إلى مجتمع متماسك في الأهداف والانتماء.