لم يكن يخطر ببال زعيم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” أبي بكر البغدادي عندما اعتلى منبر جامع النوري الكبير في الموصل معلنًا عودة “الخلافة” في شهر يونيو 2014، أن عُمُر خلافته لن يدوم أكثر من 3 سنوات جمع فيها النظام الدولي شتاته وعشرات الآلاف من جنوده ليخوض حربًا شاملة ضد أخطر تنظيم جهادي عرفه التاريخ المعاصر.
خلال الأعوام الأربع الأخيرة، كانت أخبار تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” تتصدر اهتمام وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية، بل لا يكاد يوم يمر إلا وتطالعنا الصحف ومراكز الدراسات والأبحاث الغربية بتقارير وتحليلات ومقالات تتحدث عن التنظيم وتهتم بتفاصيل دقيقة عنه، إلا أن الأشهر الأخيرة، كانت شحيحة جدًا فيما يتعلق بأخبار التنظيم الجهادي بسبب انحسار سيطرته وانهيار خلافته.
في العامين الأخيرين، خسر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” عددًا من المدن التي كان يسيطر عليها، وكانت مدينتا الموصل والرقة على رأس القائمة، ليعود على إثر ذلك للصحاري والمناطق النائية لتكون منطلقًا لعملياته ضد خصومه من القوات النظامية والميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، وقاعدة لرسم خططه المستقبلية في إطاره حربه الوجودية ضد التحالف الدولي.
كان التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014، نقطة حاسمة في الصراع بين الجهاديين ومنظومات الحكم في المنطقة العربية بأسرها وليس في العراق وسوريا فقط، فالمد الجهادي لم يكن سيتوقف عند حدود بغداد ودمشق وفق ما تؤكد ذلك المعطيات، بل كان يهدف للإطاحة بكل من يعترض سبيل “الخلافة” في واحدة من أخطر المناطق وأكثرها التهابًا في العالم.
فتحت المعارك ضد تنظيم الدولة في سوريا تحديدًا جبهات جديدة ضد القوى المتصارعة على أخذ نصيبها من الكعكة
منتصف العام 2014، وقبل أن يصل الجهاديون إلى أربيل وبغداد، اختار الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وحلفاؤه شن حرب جديدة ضد عدو وجودي سبق أن قاتلوه لنحو 9 سنوات، لم يتم فيها القضاء عليه بقدر تحجيم قوته وإجباره على الخروج من المدن إلى الصحاري، ولكنه سرعان ما عاد إلى الظهور مجددًا بعد أن اختار رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي استخدام القوة في وجه المتظاهرين السلميين في المناطق السنية المقموعة.
بعد أشهر قليلة، انتقل التحالف الدولي للتدخل العسكري في سوريا، فبدأ بقصف عين العرب كوباني وأحال بنيانها إلى أنقاض لم يرمم معظمها إلى حد اللحظة، وانتهى بتدمير الرقة على رأس ساكنيها، ولكنه لم ينجح في استئصال تنظيم الدولة من الأراضي السورية، بعد أن اختار الأخير القتال في مناطق نائية وذات بُعد إستراتيجي لكل الأطراف المتصارعة على الساحة.
اختار تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الانحياز إلى الشريط الصحراوي بين سوريا والعراق، إضافة لانتشار محدود بالأساس في أرياف دير الزور وإدلب وحماة، على خطوط تماس مباشرة مع مختلف أطراف الصراع وعلى رأسها القوات الكردية وهيئة تحرير الشام التي تخوض معركة مصيرية للحفاظ على إدلب التي تنازل عنها أصدقاء الشعب السوري بعد مفاوضات “هتشكوكية” خلال السنوات الثلاثة الأخيرة تحديدًا.
فتحت المعارك ضد تنظيم الدولة في سوريا تحديدًا جبهات جديدة ضد القوى المتصارعة على أخذ نصيبها من الكعكة، فبينما كان التحالف الدولي الذي تشارك فيه تركيا يقصف الجهاديين داخل مناطق سيطرتهم مساندة لقوات سوريا الديمقراطية ولقوات النظام السوري وميليشياته، نبه المراقبون والمحللون من خطورة مرحلة ما بعد “الدولة الإسلامية”، مستندين في تحذيراتهم إلى طبيعة المناطق المتنازع عليها في سوريا وتعدد الأطراف المتصارعة.
التفاهمات الدولية الهشة التي حدثت في سوريا بفضل مؤتمرات جنيف وأستانة وسوتشي وغيرهم، لا يبدو أن فرص نجاحها على أرض الواقع ستكون محتمة
بعد السيطرة على الرقة ومنبج وعفرين وغيرها من المدن ذات الأهمية الكبيرة لقوات سوريا الديمقراطية والتخلص من صداع الجهاديين بمختلف انتماءاتهم، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 20 من يناير الماضي، التدخل عسكريا في عفرين لمواجهة الوحدات الكردية الانفصالية بذريعة تهديد أمن تركيا القومي ومزيد من التوغل في عمق الأراضي السورية.
بمعارك عفرين، تنفس تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الصعداء لكون خصومه المتحالفين عليه في وقت من الأوقات أصبحوا يتصارعون فيما بينهم اليوم، وهو ما سيخفف عنه الحصار وحِدة المعارك في المناطق التي يوجد بها مسلحو قوات سوريا الديمقراطية في ريف دير الزور بالأساس، كما أن الحملة العسكرية التركية الكبيرة على الانفصاليين الأكراد ستؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض القوة التي بنوها طيلة نحو 6 سنوات من دخول الثورة السورية مرحلة الصراع المسلح.
ليس هذا فحسب، فالتفاهمات الدولية الهشة التي حدثت في سوريا بفضل مؤتمرات جنيف وأستانة وسوتشي وغيرهم، لا يبدو أن فرص نجاحها على أرض الواقع ستكون محتمة، مما يضعنا أمام فرضية الصدام العنيف بين القوى المتلاعبة بمصير الشعب السوري منذ سنوات، ولكن إلى حين حدوث ذلك، ستظل الحرب في سوريا مشتعلة، وسيظل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” متخفيًا في الصحاري والمناطق النائية انتظارًا لفرصة الظهور من جديد، لكن هل سيكون هذا الظهور شبيهًا بمرحلة “دولة الخلافة” أم سيقدم تراجعات فكرية مثل التراجعات العسكرية والأمنية التي أُجبر على تقديمها؟