أشار عدد من التقارير مؤخراً إلى وجود اتصال أولي، أو اتصالات، ذات طابع سياسي، بين نظام السيسي والإخوان المسلمين. و«السياسي» هنا هو مدعاة الأهمية، لأن الاتصالات بين دوائر النظام الأمنية وعناصر إخوانية، من كافة المستويات، لم تتوقف. هذه طبيعة عمل الأجهزة الأمنية المصرية منذ بدأ الصدام بين الدولة الجمهورية والإخوان في خمسينيات القرن الماضي.
ولكن ما تتحدث عنه التقارير المشار إليها يتعلق بأهداف أكبر من اهتمامات رجال الأمن، اهتمامات تستبطن انعطافة ما في توجهات النظام الانقلابي، داخلياً، وربما عربياً، أيضاً. لا يستبعد، بالطبع، أن تكون هذه التقارير مجرد تكهنات، لا تستند إلى معطيات صلبة، أو أن مصدرها يسعى إلى توظيف هكذا أخبار في معركة معنوية وتوليد مناخ من الشك والاضطراب في المعسكر الآخر، أو أنها وقعت على مستوى فردي وبدون تأشيرة مسبقة من قيادة الجماعة.
وقد أصدر الإخوان بالفعل بياناً كذبوا فيه وجود اتصالات مع النظام، وأعادوا التوكيد على ثوابت موقفهم من الشأن المصري السياسي، بما في ذلك الموقف من نظام السيسي. كما كان السيسي نفسه رفض مؤخراً، في لقاء عام، التراجع عن سياسات النظام القمعية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، الذين ينتمي أغلبهم إلى الإخوان. ولكن هذا لا يمنع محاولة فهم الشروط التي قد تدفع النظام بالفعل إلى بدء اتصال بالإخوان.
ولد إعلان أحمد شفيق، وبصورة أكبر، سامي عنان، التخطيط لخوض الانتخابات الرئاسية حالة من الصدمة في أوساط نظام السيسي. وقد لجأ النظام، كما هو معروف، إلى إجراءات تعسفية بشعة، وإلى تهديدات من النوع الرخيص، لمنع رجلي الجيش السابقين من الترشح. ضغط السيسي شخصياً على أصدقائه في الإمارات من أجل شحن شفيق بالقوة إلى القاهرة، وما إن وقع رئيس الحكومة الأسبق في قبضة أجهزة النظام الأمنية، حتى ووجه بما أقنعه بالتراجع عن الترشح، وبصورة مذلة. ولكن عنان، كما يبدو، استعصى على التهديد والابتزاز.
فشل الانقلاب المصري في تقديم إنجاز مقنع، أو نموذج نجاح يلتف حوله المصريون
وهذا ما أدى إلى اختطافه من الشارع، وإيداعه السجن الحربي. فلماذا تعامل السيسي مع هذين المنافسين بهذه الصورة؟ الإجابة المنطقية الوحيدة أن كلاً منهما مثل تحدياً جدياً لاحتفاظ الضابط الانقلابي بمنصبه واستمرار تربعه على عرش مصر، وإلا ما كان من الضروري التصرف بهذه الوحشية مع قائدين عسكريين سابقين، ابنين بارزين للمؤسسة التي تفترض أنها صاحبة الحق الوحيد في حكم مصر! أما كيف أصبح شفيق وعنان منافسين جديين للجنرال ومصدر تهديد لاحتفاظه بالسلطة، فمسألة تتطلب تفصيلاً أكبر.
يجسد نظام السيسي الإنجاز الأهم لحركة الثورة المضادة في المجال العربي، ليس فقط لنجاحه في قطع مسيرة عملية الانتقال الديمقراطي وإطاحته الرئيس المنتخب وتقويض حلم التغيير، ولكن، وهذا هو الأهم، لأن هذا النجاح وقع في مصر، الدولة العربية الأكبر والأكثر تأثيراً. وكان طبيعياً أن ينعكس تقويض عملية التغيير في مصر على الجوار العربي برمته، حتى بدون أن تحقق الثورة المضادة إنجازاً مشابهاً في دول الثورة العربية الأخرى.
ولذأ، فسرعان ما سمعت أصداء الانقلاب المصري في كافة أرجاء العالم العربي، من ليبيا، تونس، المغرب، اليمن، سورية، إلى العراق. في مصر اكتسبت حركة الثورة العربية معناها، واكتشف العالم أبعادها ودلالاتها؛ وفي مصر قالت قوى الثورة المضادة كلمتها الفاصلة، وأثبت نظام حكم الأقليات استعصاء الاستبداد العربي على التغيير. ولكن مرور السنوات لم يعمل سوى على كشف عبثية مشروع الثورة المضادة، واستحالة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ليس على مستوى واحد، بل على كافة مستويات الحكم والدولة، فشل الانقلاب المصري في تقديم إنجاز مقنع، أو نموذج نجاح يلتف حوله المصريون.
تسلم الانقلابيون الحكم بقوة السلاح، وعززوا قبضتهم على مقاليد الدولة وسط بحر من الدماء. وربما في تشابه كبير مع انقلاب تشيلي في القرن الماضي، لم يقتصر القمع الوحشي على أيام وأسابيع الانقلاب الأولى، بل واستمر بلا هوادة، ولم يزل كذلك، بحيث بات المصريون، من كافة التوجهات والطبقات، يعيشون كابوساً مرعباً وهائلاً من الاختطاف، والاعتقال، والتعذيب، والتصفية الجسدية، والإعدامات شبه القانونية. ولكن الحكم بالقوة الباطشة لم يصنع أمناً.
مصر باتت عاجزة عن الدفاع عن مصالحها المائية الحيوية، وتفريطها في أجزاء بالغة الأهمية الاسترتيجية من أرضها
فبالرغم من تكريس جهود أجهزة الأمن، وإلى جانبها قوات الجيش، أحد أكبر الجيوش في إفريقيا والشرق الأوسط، لمواجهة الجماعات المسلحة، تنشط هذه الجماعات اليوم في سيناء ومناطق مصر الأخرى، وتوقع، في بعض الأحيان، خسائر فادحة ومهينة برجال الأمن والقوات المسلحة. وكما أخفق النظام في صناعة الأمن، كان إخفاقه أكبر في توطيد الاستقرار؛ بحيث لم تعد التوكيدات الرسمية على الأمن والاستقرار مقنعة، لا لرأس المال المصري ولا الأجنبي.
وكانت النتيجة تراجع عجلة الاستثمار والإنتاج، تأزماً اقتصادياً مديداً، ومعضلة لا حل لها في المالية العامة. يكذب النظام على شعبه بادعاء الزيادة الملموسة في احتياطات مصر من النقد الأجنبي، بدون أن يشير إلى حجم الدين الخارجي، الذي تجاوز الثمانين مليار دولار، الدين الذي لم تعرفه مصر ولا حتى في أسوأ لحظات أزمة نظام مبارك الاقتصادية/ المالية، أو إلى التوسل للسعودية والإمارات والكويت لتأجيل موعد سداد ودائعها المالية في الخزانة المصرية.
إلى جانب ذلك كله، تراجع موقع مصر وثقلها في الإقليم، وتقزم دورها. والمشكلة في هذا لا تتعلق بذيلية مصر المهينة للدولة العبرية، ولا بغياب تأثيرها في أي من قضايا الإقليم، وحسب، ولكن أيضاً في عجزها عن الدفاع عن مصالحها المائية الحيوية، وتفريطها في أجزاء بالغة الأهمية الاسترتيجية من أرضها.
هذه الصورة لنظام انقلاب 3 تموز/يوليو هي التي زودت شفيق وعنان بمسوغات خطوتهما الانتخابية، وأسست لتحديهما حكم السيسي. ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك. فقد تقدم شفيق والسيسي بعد أن شهدا انفضاض كافة القوى والشخصيات التي مهدت الطريق للانقلاب، وأيدته، عن قائد الانقلاب ونظامه. وكان طبيعياً أن يفتح كلاهما قنوات اتصال بهذه القوى والشخصيات، بما في ذلك، على الأرجح، الإخوان المسلمون.
إن اتخذ السيسي مثل هذه الخطوة، فسيرتكب الإخوان خطأ فاحشاً، خطيئة كبرى، إن استجابوا لمبادرته
بتجلي عجز نظام السيسي عن اكتساب الشرعية الضروية، وتجريده إلا من القوة العارية، طرح شفيق وعنان ترشحهما باعتباره الأمل الوحيد المتبقي في استعادة الدولة المصرية شرعيتها واستعادة المصريين بعضاً من التفاؤل بالمستقبل. هذا كله لا يعني بالضرورة أن البديل الذي طرحه شفيق وعنان كان حقيقياً، أو أن وعودهما بتعزيز الحريات والديمقراطية تحمل مصداقية أكبر من مصداقية السيسي. ما يعنيه، أن السيسي يدرك أنه أضعف بكثير من أن يخوض معركة المنافسة، وأن انتصاره الانتخابي سيتطلب تزييفاً مفضوحاً لصناديق الاقتراع.
الآن، ومهما كانت الطريقة التي تخلص بها السيسي من منافسيه، بات من المؤكد عودته إلى الرئاسة بنسبة لا تقل عن تلك التي فاز بها في 2014، بدون اكتراث كبير بحجم المقترعين أو ما سيضعونه في صناديق الاقتراع. بعد الانتخابات، سينتظر السيسي الفرصة المناسبة لتعديل الدستور، بهدف الحصول على سلطات تؤهله لتقرير مصير وزير الدفاع، والتخلص من المادة التي تحدد ولاية رئيس الجمهورية بفترتين رئاسيتين، بما سيسمح له الحكم مدى الحياة. يدرك السيسي أن خروجه من القصر الرئاسي، في انتخابات حرة، أو عبر أي وسيلة أخرى، سيأخذه إلى حبل المشنقة. لتعديل الدستور، ستكون حاجة للتهدئة السياسية؛ وهو ما يستدعي تفاهماً ما مع الإخوان، بشروط النظام.
إن اتخذ السيسي مثل هذه الخطوة، فسيرتكب الإخوان خطأ فاحشاً، خطيئة كبرى، إن استجابوا لمبادرته. هذا رئيس فاشل، غارق في دماء المصريين، وانقلابي يفتقد الشرعية؛ وعلى الإخوان، وكافة القوى السياسية الأخرى، تجنب إنقاذه من مصيره المحتوم.