ارتبطت الأغاني التراثية الشعبية ارتباطًا وثيقًا بالجانب الثقافي للدول العربية، فهذه المجموعة من الفنون تعبر عن قصص قديمة وحكايات تاريخية وأساطير تعرفنا على عادات وتقاليد شعوب معينة، وتنقل هذه المعارف من جيل إلى آخر عن طريق الرواية الشفهية، وقد يضيف كل جيل بصمته الخاصة عليها، أو يحذف بعضًا منها لتتوافق مع واقعه ومجريات الأحداث التي عاصرها، وتكون نتاج تجربة مجتمعية كاملة.
تعرفنا هذه الأغنيات أبرز المنعطفات التاريخية والسياسية التي مر بها كل شعب على حدة، وتنقل لنا طبيعته وطابعه الاجتماعي، وتذكرنا أيضًا بالأحداث التي وقعت قبل سنوات طويلة، ولم نعاصرها ولكنها راسخة في أذهان أجدادنا حتى الآن، ومنها:
أغنية “جفرا ويا هالربع” الفلسطينية
يعد اسم “جفرا” من أبرز وأكثر الألقاب المستخدمة في الأدب والفن الفلسطيني، فهو رمز للحب والفراق والشتات، إذ تتحدث هذه الأغنية عن فتاة فلسطينية اسمها “جفرا” ولدت في قرية الكويكات المهجرة والواقعة في قضاء عكا، وقع شاعر هذه الأغنية، أحمد عبد العزيز الحسن، في حبها، ويبدأ التعقيد عندما تقدم الشاعر الحسن إلى خطبة ابنة عمه، رفيقة نايف الحسن، التي لقبها بجفرا في قصيدته المغناة، وكانت وحيدة أهلها، سمراء رشيقة، وافقت على طلبه.
وبالفعل تم تزويجه له برضى الأهل، ولكن في ليلة الزواج وبحكم العادات القديمة لتلك الفترة، قام الحسن بضرب جفرا في ليلة الزواج بغرض تخويفها وضمان طاعتها له، لكن جفرا لم تقبل بهذا الوضع، وهربت باكية إلى بيت أهلها الذين رفضوا إرجاعها له بعد محاولات عديدة من طلب العفو، وأصروا على طلاق ابنتهم منه وتزويجها بالمقابل لابن خالتها.
كتب الحسن كلمات الأغنية عندما كان يراقب أهالي القرية يمرون أمام بيت حبيبته لأنه يطل على الطريق المؤدية لعين الماء، فكان يقول فيها الحسن شعرًا كلما رآها وهي حاملة جرة المياه وفي طريقها للسقاية، فيقول:
جفرا يا هالربع نزلت على العين جرتها فضة وذهب وحملتها للزين
جفرا يا هالربع ريتك تقبرينــي وتدعسي على قبري يطلع ميرامية أو “بير مية”
تعود أحداث هذه القصة إلى عام 1939، وعلى إثرها كتب الشاعر الحسن عددًا كبيرًا من الأبيات باسم جفرا، حتى لقب نفسه بـ”راعي الجفرا”، وأصبحت هذه الأغنية قالب من قوالب الغناء الفلسطيني في الأربعينيات، كما أنها وثقت فترة ما بعد النكبة عندما استمرت قصة عشق الشاعر لجفرا بعد أن هاجر إلى مخيمات لبنان.
أغنية حيد عن الجيشي يا غبيشي
إحدى الأغاني الفلسطينية الشعبية التي ظهرت في بداية الأربعينيات ونهاية الانتداب البريطاني، كتبها الأديب حسين اللوباني، وتحكي عن فترة المطاريد الفلسطينيين قبل مجيء الاحتلال الإسرائيلي، وتسرد كلماتها قصة غبيشي الشاب الشجاع الذي أحب فتاة تدعى حسناء وتقدم لخطبتها لكن عائلتها رفضت لأنه ينتمي إلى قبيلة متواضعة الصيت والمكانة، وهذا بالعكس من عائلتها التي تتمتع بمستوى رفيع وتعرف بالجاه والنسب، ورغم هذه التعقيدات لم يحبط وعاد لطلب يدها مرة أخرى، لكن دون فائدة.
ولم تكن هذه محاولته الأخيرة، فلقد قرر غبيشي الزواج من حسناء دون موافقة أهلها، فهرب معها للعيش على قمة الجبل وبعيد عن القرية، وبسبب هذا الفعلة المرفوضة اجتماعيًا، غضب والدها وأقاربها فاستنجدوا بالقائد الإنجليزي جون غلوب الذي كان قائد على إمارة شرق الأردن في عهد الانتداب البريطاني وأقسم على إحضار رأس غبيشي، فاصحطب معه كتيبة من الجنود والحناطير والأسلحة وانتشروا في كل مكان للبحث عن غبيشي وحسناء.
اتفق غبيشي وحسناء على السهر والمناوبة لحماية أنفسهم من أي خطر متوقع من قبيلة حسناء، وعندما سمعت حسناء أصوات ضجيج الحناطير والعساكر، نادت غبيشي واستعجلته للهرب منهم خوفًا عليه، لكنه رفض أن يتركها ويتوعد ويستعد لقتال الجنود، وهي ترده عليه بمقاطع غزل تمدح بها شجاعته وبسالته، لكن لسوء الحظ، أصيب غبيشي إصابة بالغة تسببت في موته لاحقًا، حتى صار اسما غبيشي وحسناء وأغنيتهما رمزًا للحب في الفلكلور الفلسطيني، والأغنية عبارة عن مقاطع قصيرة بين المحبوبين، وهي من أكثر الأغاني التي تغني في الأعراس الفلسطينية كإشارة للحب الذي جمع بين غبيشي وحسناء.
حسناء: نزلْ العسكرْ ووقف القايِدْ وبصوتو الغدَّارْ قتلَكْ رايِدْ .. يا الله يا ستَّارْ كلّ سايدْ وغبيشي المغوارْ لا يذلُّو
غبيشي: قوطرُوا صوبي يبغوا قتلي مشيوا دروب إل ما بغتلي .. سمعت محبوبي يزغرتلي أعطيتهم نوبِهْ قلوب خلُّو
حسناء: لوِ إنَّكْ جبان ما حَبِّيتَكْ تقهَر العدوانْ يُعمُرْ بيتَكْ .. باكِرْ في البلدانْ يفقعْ صيتَكْ تسمَع العُربانْ وتجلُّو
أغنية يا بختة الجزائرية
جسدت أغاني المغرب العربي الكثير من الذكريات الملاصقة لماضي هذه البلدان، ومنها أغنية بختة التي ورائها قصة حدثت بالفعل للشاعر وملحن الأغنية الجزائري الشيخ عبد القادر الخالدي، ومؤخرًا غنى الشاب خالد منها 3 أبيات من أصل 196؛ في محاولة لإحياء التراث المغاربي في قالب موسيقي محافظ حيوي.
سرد الشاب خالد قصتها في إحدى المقابلات التليفزيونية، فقال: “كان الخالدي يعشق فتاة اسمها بختة، في زمن كان من الصعب جدًا أن ترى المحبوب أو تقابله، فعندما كانت بختة تفتح نافذة غرفتها، يطل النور وتظهر عينيها الواسعتين، وفي يوم حدث بينهما خلاف فسافرت بختة إلى الخارج تاركة محبوبها في وهران، واعتراهما الحزن واليأس خاصة أنهما لم يتواصلا أبدًا، وجلس ينتظر كل منهما أن يبدأ أحدهما بالسؤال، فقررت بختة أن تزوره فجأة بعد ستة شهور من الفراق، فعرفها أحد سكان وهران حين وصلت، وذهب ليبشر الخالدي بمجيئها، فقال رأيتها جالسة مثل قائد الجيش، رقبتها طويلة، ووجهها صاف، مهيبة الطلعة”، وهذا ما وصفه الشاعر بالفعل في قصيدته عندما كتب:
من تشواقي فيها .. فرحت كاللي صبت سعاية
سرقتني محنتها .. زيلفطت قلبي و حجاية
نجبرها في الكليش .. راكبة كي أمير الجيش
رقبتها بالطرنيش .. راصية والوجه مرآيا
صدرت هذه القصيدة في الأربعينيات، بجانب أربع قصائد أخرى يعبر فيها الخالدي عن حزنه وحسرته وشوقه لبختة، حيث تردد اسم بختة في أكثر من أغنية كإشارة إلى فراق المحبوبة والشوق.
أغنية يا رايح وين مسافر
نالت هذه الأغنية شهرة كبيرة وذاع صيتها في جميع الدول العربية، بعد ما غناها المطرب الشعبي دحمان الحراشي الذي حاول في معظم أغانيه أن يعالج قضايا اجتماعية مختلفة، وأبرزها أغنية “يا رايح وين مسافر” الموجهة إلى صديق له كان مصرًا على الهجرة، ظنًا منه أن بلاد الغربة أفضل من بلده، وذلك في نفس الفترة التي شهدت حملة كبيرة من هجرة أبناء الجزائر إلى فرنسا.
أعاد إحياءها المطرب رشيد طه في نمط موسيقي جديد عام 1993، وتدعو كلماتها إلى العودة إلى الوطن الأم وعدم الانبهار بالدول الأخرى، على اعتبار أن الحياة في الغربة مرة ومليئة بالصعوبات النفسية والمادية، ومن اغترب عاد إلى بلده نادمًا، على أساس أن هذه التجربة ليست الحل للحصول على حياة كريمة، وهذا بالتحديد ما توضحه كلماتها التالية:
يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي .. شحال ندموا العباد الغافلين قبلك وقبلي
شحال شفت البلدان العامرين والبر الخالي .. شحال ضيعت وقات وشحال تصيد ما زال تخلي
اشتهرت هذه الأغنية بشكل أوسع بقالبها الأخير، ولاقت رواجًا كبيرًا بين الأجيال الحاليّة التي ما زلت تتفشى بينها الرغبة بالسفر إلى الخارج والهجرة، لكن كلماتها وألحانها أصبحت جزءًا من ثقافة المغرب العربي.
أغنية يردلي يردلي العراقية
تقول كلمات هذه الأغنية: “يردلي يردلي سمرة قتلتيني، خافي من رب السما وحدي لا تخليني، أبوك يا أسمر حلو ماجا على ديني، أنت على دينكِ وأنا على ديني، صومي خمسينكِ وأصوم ثلاثيني” ومن هذه الكلمات يمكن فهم القصة المثيرة للاهتمام التي تحكي عن شاب أحب فتاة على غير دينه ودعاها إلى نسيان هذا الاختلاف بينهما والاتفاق على ما بينهم من حب.
تعتبر هذه الأغنية مرآة للواقع الذي يعاصره المجتمع العراقي وتدعو إلى الانفتاح على الآخر وتقبله بجميع اختلافاته الدينية والطائفية، إلى الجانب بأنها تراث غنائي مشترك يمتد من ماردين إلى الموصل، وهي واحدة من الأغنيات الفلكلورية القليلة المشتركة بينهما.
لا يعرف من لحنها أو كتب كلماتها، لكن من المتعارف عليه أن هذه الأغنية وثقت العلاقة التاريخية بين مدينتي الموصل وماردين عندما دخلت الموصل في فضاء الحكم العثماني بعد مدينة حلب، وذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
أغنية يا حريمة
وراء هذه الأغنية حصيلة من قصص الحب المختلفة مع ثلاث نساء، التي كتبها الشاعر ناظم السماوي الذي فقد حبيبته الأولى عندما تزوجت بآخر وكان مصير هذه العلاقة الفشل بعد أن “كلفته عاطفيًا كثيرًا” على حد قوله، هذا والتقى بها بعد خمسين عامًا مصادفة بعد أن استوقفته وسألته عن هويته لتخبره بأنها صاحبة أغنية يا حريمة.
ومصادفة فلقد خسر الملحن محمد جواد زوجته بعد فترة قليلة من الزواج وفرقهما الموت، إذ قال الملحن عن لحن هذه الأغنية: “لحن يا حريمة لم يأخذ مني أكثر من ساعتين لأقدمه للفنان حسين نعمة بهذه الروعة الكبيرة”، فلقد كانت أوجاعه تسبقه في سلّم الموسيقى لتقدم للذائقة الفنية ذلك الطبق الذهبي”، أما مطربها الشاب الجنوبي فهو أبو علياء الذي جاء إلى بغداد بعدما لم تنجح قصة زواجه أيضًا، واشتهرت هذه الأغنية منذ السبعينيات وتعتبر من أفضل الأغاني العراقية التراثية الشعبية.
استطاعت هذه الأغاني بجمال كلماتها وألحانها وحكاياتها أن تتخطى الحواجز المحلية وتندمج مع المشاهد الفنية العامة في الوطن العربي بعد أن نالت شهرة واسعة في رواية أحداث من صلب الواقع الاجتماعي والثقافي، وحولت الكثير من شخصياتها إلى رموز أدبية وفنية داخل قوالب سياسية ووطنية.