السؤال عادة يتراوح بين: كيف نشأ الكون؟ أو: كيف خلق الله الكون؟
أُعلن الاثنين الماضي في مركز هارفرد سمثونيان للفيزياء الفلكية بولاية ماساشوستس الأميركية، اكتشاف أصداء الإنفجار الكبير لحظة نشوء الكون، بعد التجرية التي أُجريت باستخدام تلسكوب متطور يُدعى “بايسب 2” في القطب الجنوبي. وهو أول دليل على الفرضية العلمية القائلة إن الكون بدأ يتوسع توسعًا هائلًا بعد جزء متناهي الصغر من الثانية على حدوث الانفجار الكبير.
علماء هارفارد الذين أعلنوا عن الاكتشاف
الاكتشاف العلمي الذي أعلن عنه العلماء الأمريكيون يعني الكثير في نظرة علماء الفيزياء للكون، مارك كامْيونْكوفسكي الباحث في الفيزياء النظرية في جامعة جون هوبكينس الأمريكية يشرح أهمية الاكتشاف قائلا :
“إنها الحلقة المفقودة في علم الكونيات، شيء كُنَّا نعتقد أنه موجود هنا دون أن نكون متأكدين. وبَحَثْنَا عنه بفارغ الصبر منذ أكثر من عشرين عاما. ولم يكن ذلك مجرد عَدْوٍ صغير أمام البيت بل كان “ماراثون” طويل للغاية. إن ما اكتشفناه دليل قاطع على تَضَخُّمِ الكوْن”.
من ناحية أخرى فإن هذا الاكتشاف صادم بشكل ما للعديد من العلماء المسلمين، الذي عمل كثير منهم لفترات طويلة على دحض نظرية الانفجار الكبير وما تعنيه.
لكن ما الذي يعنيه الانفجار الكبير؟ وما الذي يعنيه الاكتشاف؟
في علم الكونيات Cosmology الانفجار العظيم (Big Bang) نظرية مطروحة ترى أن الكون قد نشأ من حالة حارة شديدة الكثافة، تقريبا قبل حوالي 13.8 مليار سنة. نشأت نظرية الانفجار العظيم نتيجة لملاحظات عدد من العلماء بينهم الفريد هيل حول تباعد المجرات عن بعضها، كما أن الفضاء يتمدد وفق نموذج فريدمان للنسبية العامة Friedmann-Lemaître model. هذه الملاحظات تشير إلى أن الكون بكل ما فيه من مادة وطاقة انبثق من حالة بدائية ذات كثافة وحرارة عاليتين.
الانفجار حدث بسرعة ضخمة للغاية، قبل أن يتمدد الكون لاحقا ببطء، وفي اللحظات الأولى للانفجار، نتجت موجات (هي التي يحاول العلماء رصدها)، ثم بعد ذلك دخل الكون في ملايين السنين من الظلام، قبل أن تبدأ النجوم في التشكل والتباعد عن بعضها، إلى أن تتشكل المجرات ويبدو الكون كما نعرفه الآن، في عملية من الخلق المستمرة منذ قرابة 14 مليار سنة.
هذه الصورة التي صممتها الغارديان تشرح عملية تشكل الكون كما يفهمها العلماء
وفقًا لنظرية النسبية العامة التي وضعها عالم الفيزياء آلبرت أينشتاين، فإنّ شيئًا عنيفًا جدّا، كالانفجار العظيم والتوسع السريع للكون الذي تلاه، سيترك موجات و”طيّات” في الزمان والمكان، وقد سمّاها “موجات الجاذبية”. وهو مصطلح مجرّد يصعب فهمُ معناه. أحد الإيضاحات الممكنة لماهيّة موجات الجاذبية بالطريقة الأكثر ملاءمة هو من خلال موجات شاطئ البحر.
حين تصل موجات البحر إلى الشاطئ، فإنّها تمزج الرمال وتحرّكها. والموجات نفسها تعود للبحر وتختفي، تتلاشى مع الانخفاض، ولكنها تترك وراءها “طبعة” من الطيّات في الرمال. ومن خلال تلك الطيّات، يمكننا أن نتلقّى دليلا على وجود الموجات التي شكّلتها، وأن نتعلّم شيئًا عن تلك الموجات.
وتعمل موجات الجاذبية بشكل مشابه، ولكن لأنّ العالم ليس محاطًا بالرمال، وإنّما بجزيئات صغيرة، فإنّ مشاهدة تلك “الطيّات” التي تشكّلها موجات الجاذبية، وهي في الواقع نوع من الإشعاع، ستكون أكثر صعوبة وتعقيدًا، ولذلك فشلوا في تحقيق ذلك حتّى الآن.
وقد تمكّن العلماء من النجاح بواسطة تلسكوب مجهّز بأمواج إشعاعية فائق الحساسية، والذي قام العلماء ببنائه بشكل خاصّ من أجل هذه المهمّة. قاموا بتثبيت التلسكوب بايسب 2 في القطب الجنوبي، وبدأوا بالبحث عن “الطيّات في الرمال”. بعد تسع سنوات، نجحوا في اكتشاف “أنماط مختلطة” على خلفية الموجات الكهرومغناطيسية الدقيقة (مايكرو) للكون ، وقد تشكّلت هذه الأنماط، حسب قولهم، بواسطة موجات الجاذبية تلك، والتي بدأت بالتحرّك قبل 14 مليار عام، مع توسّع الكون مباشرةً بعد الانفجار الكوني العظيم.
صور للتلسكوب بايسب 2 في القطب الجنوبي
وعلى الرغم من عدم إثبات هذا الافتراض بشكل عملي، فإنّ ذلك لم يمنع العلماء من الإيمان به منذ أكثر من 30 عامًا. ويمثّل اكتشاف موجات الجاذبية في الواقع تأكيدًا للعنصر الأخير الذي لم يكن قد تم التحقّق منه في نظرية أينشتاين. وبذلك، فهو يسدّ فجوة كبيرة في فهم كيفية تشكّل الكون.
ونقلت صحيفة الغارديان عن الدكتور أيد داو، وهو عالم فلكي في جامعة شفيلد البريطانية قوله “إن موجات الجاذبية التي انبعثت لحظة الإنفجار الكبير يمكن أن تبين لنا كيف نشأ الكون… ستكون لدينا معلومات أساسية عن الكون في طفولته، معلومات يستحيل الحصول عليها من أي مصدر آخر” خلاف تلك الموجات.
نظرية الانفجار العظيم والتي غالبا ما ستتأكد في السنوات القليلة المقبلة عبر الأبحاث التي ستُبنى على الاكتشاف الأخير لعلماء هارفارد فتحت الباب بالفعل لتساؤلات عن الأكوان الأخرى، وهل ما نعيش فيه هو الكون الوحيد؟ الكثيرون يقولون أن الكون الذي نعيش فيه هو واحد من أكوان عدة نتجت عن الانفجار الكبير.
من المهم القول أن كل تلك النتائج والأبحاث تتناول اللحظات الأولى بعد الانفجار العظيم، لكن الانفجار نفسه، والأسباب التي أدت لانفجار المادة الأصلية شديدة الكثافة والحرارة غير معروفة ولا يُعتقد أن تتم معرفتها قريبا.
الكثير من علماء المسلمين (ومن غير المسلمين أيضا ممن يؤمنون بوجود الخالق) يتعاملون بتفسير حرفي مع النصوص، ففي السردية الإسلامية التي تؤكد أن الله خلق السماء والأرض وما بينهما “في ستة أيام ثم استوى على العرش”، أو السردية التوراتية التي تتحدث عن ثماني أوامر خلق الله بها الكون في ستة أيام ثم “استراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل”، يؤكد النصوصيون أن الكون قد ُخلق بأمر الله المباشر “كن”، رافضين تماما أي تفسيرات أخرى ومن ضمنها الانفجار العظيم.
لكن علماء آخرين يقولون إن الانفجار العظيم، كنظرية، والاكتشاف الجديد الذي يؤكد تلك النظرية، لديهما ما يدعمه من القرآن عبر الاستدلال بآيات يرى العلماء أنها تعني تمدد الكون أو انفصال السماء عن الأرض، والأمر كذلك بالنسبة لعلماء التوراة الذي صرح أحدهم لصحيفة إسرائيلية أن الاكتشاف الأخير يؤكد الرواية التوراتية عن الخلق.
جدير بالذكر أن العديد من رجال الدين المسلمين -المعتبرين- يرفضون حقائق علمية بحجة افتراضهم تعارضها مع النصوص القطعية. فيرفض الشيخ ابن باز، رحمه الله، الإيمان بحقيقة دوران الأرض حول الشمس، ويقرأ بعض دارسي العقيدة السلفية متن “نونية القحطاني” للإمام القحطاني الأندلسي الذي يُكذب المهندسين والمنجمين الذين يقولون بكروية الأرض، كما يرفض عدد من شيوخ السلفية حتى الآن التصديق أنه باستطاعة الإنسان السفر إلى الفضاء أو الصعود للقمر، مستدلين بنصوص من القرآن الكريم.
عودة مرة أخرى إلى العلماء أصحاب الاكتشاف، يمكنكم مشاهدة هذا الفيديو الذي انتشر بشكل ضخم على الإنترنت لأحد العلماء الذين أسسوا لنظرية الانفجار الكبير وقت علمه بثبوت صحة نظريته عمليا