“الانتصار الأحادي”.. قشة الإنقاذ التي يبحث عنها نتنياهو

قالت هيئة البث الإسرائيلية، الجمعة 21 يونيو/حزيران الجاري، إن تل أبيب تستعد للإعلان قريبًا عن هزيمة كتائب عز الدين القسام في غزة، وأن الجيش قارب على انتهاء نشاطه العسكري في رفح وإن كان سيواصل بعض العمليات داخل القطاع لكن بطرق مختلفة، فيما يعرف بالمرحلة الثالثة من القتال، دون تقديم توضيحات أخرى بالخصوص.

التصريح أحدث جدلًا كبيرًا داخل الوسط الإسرائيلي والعربي على حد سواء، لما يحمله من تناقض كبير مع تطورات الميدان اليومية والتي تشي باستمرار المواجهات وتكبيد المقاومة الكثير من الخسائر الفادحة في صفوف جيش الاحتلال الذي يجد معاناة كبيرة في حسم المعركة على كل الخطوط، في الشمال والوسط والجنوب.

الإعلان يشير في مضمونه إلى محاولة حكومة نتنياهو إيهام الشارع الإسرائيلي بتحقيق الانتصار على المقاومة الفلسطينية، والقضاء على مرتكزاتها في القطاع، كخطوة تمهيدية نحو إنهاء الحرب بشكلها التقليدي وهو المطلب الذي طالما نادى به كثير من الإسرائيليين، ليبقى السؤال: هل بالفعل انتصر جيش الاحتلال على المقاومة وحقق أهدافه ليُنهي الحرب بهذه الطريقة؟ ثم ماذا يريد نتنياهو بإعلانه عن هذا الانتصار الأحادي؟

“إسرائيل” لم تنتصر.. هذا ما يقوله الإسرائيليون وإعلام الحلفاء

تتعارض أوهام النصر التي يزعمها الجيش وحكومة نتنياهو مع صوت الداخل السياسي والعسكري والشعبي الإسرائيلي والذي يعترف بأن الكيان فشل في تحقيق أي من أهداف الحرب الثلاث (القضاء على حماس – تحرير الأسرى المحتجزين لدى المقاومة – ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي).

في مايو/أيار الماضي اعترف رئيس مجلس الأمن القومي في “إسرائيل”، تساحي هنغبي، بالإخفاق في تحقيق كل أهداف الحرب، في الوقت الذي أكد فيه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري، بأنه “لا توجد إمكانية حقيقية” لتدمير حماس، لافتًا إلى أن “مسألة تدمير المنظمة الفلسطينية أو جعلها تختفي مجرد ذر للرماد في عيون الجمهور”.

من جانبها قالت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية إن الجيش الإسرائيلي يتراجع عن الهدف الرئيسي المعلن للحرب على قطاع غزة والمتمثل في القضاء على حركة حماس بحسب الأنباء الواردة من الداخل الإسرائيلي، لافتة إلى أنه بغض النظر عن الموقف الإسرائيلي فإن الحركة الفلسطينية قد لا يقضى عليها بشكل كامل، فلديها آلاف المقاتلين وشبكة ممتدة من الأنفاق تحت المدن الرئيسية، وكل المعطيات توضح أنها “لن تعلن استسلامها قريبًا”.

أما أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، روبرت أ. بيب، فأكد في مقال له نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، أن حماس لم تُهزم كما تروج السردية الإسرائيلية، وأنه وبعد 9 أشهر من العمليات القتالية الجوية والبرية الإسرائيلية في غزة فإن الكيان الإسرائيلي لم يتمكن من القضاء على معاقل ومرتكزات الحركة، بل إنه ليس حتى قريبًا من هزيمتها في تلك الجولة.

وأوضح بيب أن “إسرائيل” منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي شنت حربًا شعواء ضد القطاع، مستعينة بحوالي 40 ألف جندي، ومدعومة بغطاء لوجستي وعسكري مستمر من الحليف الأمريكي، وهجرت 80% من سكان القطاع قسرًا، فضلًا عن قتلها لأكثر من 37 ألف إنسان معظمهم مدنيون، بجانب إسقاطها ما لا يقل عن 70 ألف طن من القنابل على القطاع، (وهو ما يتجاوز الوزن الإجمالي للقنابل التي تم إسقاطها على لندن ودريسدن وهامبورغ طوال الحرب العالمية الثانية)، علاوة على تدمير ثلثي المباني في غزة، وممارسة حرب تجويع من الطراز الأول، ومع ذلك لم تتمكن من القضاء على حماس.

وتشير التطورات الميدانية إلى بقاء الحركة على أقدامها ثابتة، قادرة على الصمود والمواجهة رغم الفوارق العسكرية الكبيرة بينها وبين جيش الاحتلال، إذ إنها ما زالت تسيطر فعليًا على مساحات واسعة من القطاع وتكبد القوات الإسرائيلية خسائر فادحة في المناطق التي قالت “إسرائيل” إنها سيطرت عليها في الشمال والوسط والجنوب.

هذا بجانب أن الحركة تتمتع بدعم هائل من سكان غزة الذين يمثلون حاضنتها الشعبية ويؤمنون بها كفكرة ومنهج، وبحسب أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو فإن “المصدر الأكثر أهمية لقوة حماس وغيرها من الجهات المسلحة غير الحكومية التي يُشار إليها عادة باسم الجماعات “الإرهابية” أو “المتمرّدة” هو القدرة على التجنيد، وخاصة قدرتها على جذب أجيال جديدة من المقاتلين والناشطين الذين ينفّذون عملياتها”.

وختم الأكاديمي الأمريكي مقاله بالقول “إن حماس لم تُهزم ولا هي على وشك الهزيمة، وقضيتها أصبحت أكثر شعبية وجاذبية مما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، وفي غياب خطة قد يقبلها الفلسطينيون لمستقبل غزة والشعب الفلسطيني، فإن الحمساويين سوف يستمرّون في البقاء، وسيعودون بأعداد أكبر. ولكن لا يبدو أن القادة الإسرائيليين أصبحوا أكثر استعدادًا لتصوّر مثل هذه الخطة السياسية القابلة للتطبيق مقارنة بما كانوا عليه قبل السابع من أكتوبر، ولا تلوح في الأفق نهاية تُذكر للمأساة المستمرة في غزة. وسوف تستمر الحرب، وسيموت المزيد من الفلسطينيين، وسوف يتزايد التهديد لإسرائيل”.

إذًا.. ماذا يريد نتنياهو بإعلان الانتصار الأحادي؟

إن كان هذا رأي النخبة العسكرية والسياسية في “إسرائيل”، وتقديرات إعلام الحليف الأمريكي، فما هي دوافع نتنياهو إذًا للإعلان عن هذا الانتصار الأحادي الوهمي في الوقت الذي يتكبد فيه جيشه خسائر فادحة إثر عمليات نوعية تشير إلى ثبات المقاومة، لعل آخرها كمين مخيم الشابورة الذي يعكس ثقل القسام ميدانيًا؟

أولًا: الهروب من وحل غزة. بات واضحًا لدى نتنياهو وجنرالاته أن الحرب في غزة فقدت بوصلتها بشكل كبير، فأصبحت معركة بلا رؤية في ظل الفشل في تحقيق أهدافها المعلنة واستنفاد الكابينت لكل مبرراته في الاستمرار خاصة بعد اجتياح رفح بريًا دون تحقيق أي إنجاز ملموس.

ومع وصول المعركة إلى طريق مسدود، وانتقال المقاومة للعمليات النوعية على شاكلة الكمائن والفخاخ، وتيقن قادة الاحتلال باستحالة تحقيق النصر عسكريًا، لم يجد نتنياهو بدًا من الهروب من غزة بعدما صارت فخًا من الصعب الخروج منه إذا استمر الوضع أكثر من ذلك، لكن المعضلة كانت في طريقة الخروج من هذا الفخ، بما يحفظ لـ”إسرائيل” ماء الوجه، فكان التلويح بانتصار وهمي من جانب واحد هو الطريقة المثلى بحسب الرؤية الإسرائيلية، حتى لو لم تكن بذات الأهداف الموضوعة، مقتصرة على إيهام القضاء على معظم قدرات حماس وضمان ألا تشكل تهديدًا خلال السنوات المقبلة على أقل تقدير.

ثانيًا: قشة الإنقاذ لنتنياهو. عبر الإعلان عن إنهاء العمليات في قطاع غزة، مع البقاء في بعض المحاور مثل نتساريم وفيلادلفيا، يحقق رئيس الحكومة المأزوم الثنائية الصعبة: إرضاء اليمين المتطرف الذي يمثل عصب حكومته، وعدم إغضاب الحليف الأمريكي صاحب الفضل الأول والأخير عليه منذ بداية تلك الحرب.

نتنياهو بتلك الخطوة يلبي مطالب وزيري المالية والأمن القومي المتطرفين، سموتيرتيش وابن غفير، بشأن البقاء العسكري في غزة من خلال التمركز عند بعض المحاور الرئيسية، وإحكام الحصار المفروض على القطاع عبر السيطرة على المعابر، وفي الوقت ذاته يستجيب لضغوط إدارة بايدن حول وقف العلميات العسكرية في القطاع والانسحاب من المناطق المكتظة بالسكان والسماح بإدخال المساعدات.

كما يحاول رئيس الحكومة وجنرالاته تسويق هذا الانتصار المزعوم شعبيًا، لاستعادة جماهيريته المتراجعة، وتخفيف حدة الضغط والانتقادات التي يتعرض لها بسبب الفشل في تحقيق أهداف الحرب، بما يمنحه بعض الثقة في ظل الأزمات الداخلية التي تعرض لها مؤخرًا وعلى رأسها الانسحابات المتتالية من حكومة الحرب، وتشقق جدران الجبهة الداخلية، الأمر الذي يقود في النهاية إلى تأجيل حسم مستقبله السياسي المرهون بنتائج الحرب وإسدال ستائرها.

ماذا عن المفاوضات؟

لا شك أن مثل هذه الخطوة سيكون لها صداها على عملية المفاوضات وجهود الوساطة المبذولة من أجل التوصل إلى اتفاق تهدئة يقود لاحقًا إلى إنهاء الحرب بشكل رسمي، بما يتضمن الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال من مناطق القطاع كافة.

هناك فريق يرى أن الإعلان عن انتصار أحادي من جانب الاحتلال، يتبعه انسحاب من معظم مناطق القطاع، قد يساعد عملية المفاوضات الحالية، كونه يلبي أحد مطالب المقاومة بشأن الانسحاب الكامل من غزة، لكن تتبقى مسألة التمركز عند بعض المحاور مثل نتساريم وفيلادلفيا عقبة في طريق الاتفاق، لكنها العقبة التي يمكن النقاش بشأنها والتوصل إلى تفاهمات ترضي الطرفين.

ويستند أنصار هذا الرأي إلى الضغط الشعبي الداخلي على نتنياهو وحكومته لإبرام صفقة عاجلة لتبادل الأسرى وإنقاذ ما تبقى منهم على قيد الحياة بعدما تسبب القصف الإسرائيلي في مقتل العشرات منهم، لا سيما بعد فشل جيش الاحتلال في تحقيق هدف تحرير المحتجزين رغم مزاعم الانتصار الوهمي الذي يحاول رئيس الحكومة تسويقه.

وعلى الجانب الآخر هناك من يعتقد أن تلك الخطوة ستغلق باب التفاوض بين الطرفين بشكل نهائي، حيث يلجأ كلاهما إلى استراتيجية “العمليات النوعية”، فعلى الجانب الإسرائيلي سيكون التركيز على استهداف قادة المقاومة ونقاط تمركزها في القطاع بناء على عمليات استخباراتية دقيقة، وفي الجهة المقابلة ستلجأ حماس وبقية الفصائل إلى تكتيك الكمائن والفخاخ في مناطق التمركز الإسرائيلي حتى وإن كانت قليلة، وفي تلك الوضعية يكون الحديث عن مفاوضات ثنائية رفاهية غير واقعية.

وبعيدًا عن مزاعم الاحتلال بشأن تبرير خطوة الانسحاب من غزة، والإعلان عن الانتصار الأحادي الموهوم، من أجل التجييش لمعركة في الشمال مع حزب الله، وهي المعركة المستبعدة بشكلها التقليدي في ظل كلفتها العالية، يبقى أداء المقاومة خلال الأيام القادمة هو الفيصل في توضيح الجزء الغامض من الصورة، وبعثرة أوراق الاحتلال بما يجبره على إعادة تقييم المشهد برمته.