رافق انتشار العولمة الرقمية والميديا الجديدة أواخر القرن الماضي؛ بروز ظواهر اجتماعية وثقافية جديدة لدى الأفراد والمجتمعات في مختلف مناطق العالم، وتمكنت الفئات الاجتماعية المختلفة من خلال الميديا الجديدة من كسر نطاق احتكار الفضاء العمومي من قبل وسائط الإعلام التقليدية، وأسست لها بالمقابل فضاءات افتراضية عبرت عن طموحاتها ورغباتها واحتياجاتها ومطالبها المختلفة وهوياتها الفردية والجمعية، كما أن المنطقة العربية استفادت كثيرا من تلك الحالة، خصوصا وأن وسائط الإعلام التقليدية كانت تحتكر الرسالة الإعلامية والثقافية، وتعيد إنتاجها ضمن وجهة نظر أحادية تعبر عن مصالح فئات سلطوية محددة.
استطاعت النخب والفئات المهمشة – ومنها النساء- في المنطقة العربية استغلال الثورة الرقمية وبناء فضاءات عمومية خاصة على شبكة الإنترنت، تلك الفضاءات جاءت لتعبرعن تفاعلاتها وحركتها الاجتماعية والسياسية، وكانت المرأة العربية جزءا من تلك الفئات التي وجدت لها في الفضاء الافتراضي موقعا لبناء هويتها وإثبات ذاتها والتعبير عن مكنوناتها وتحقيق تقدمها وسط مجتمعات تقليدية كانت تمارس الإكراهات الاجتماعية عليها باستمرار.
تميزت نشاطات المرأة الأردنية على الفضاء الافتراضي بعدة ميزات أبرزها؛ الاهتمام بكشف الذات وتشكيل الهوية وبناء شبكة تواصل مع الآخرين
تمكنت المرأة الأردنية من الانطلاق في الفضاء الافتراضي والبدء بتأسيس فضاءات افتراضية عمومية خاصة بالنساء، فقد حرمت المرأة في مجتمعاتنا التقليدية من تشكيل فضاءات واقعية كالمقاهي والصالونات الثقافية والاجتماعية والتي كان يحظى بها فئات الذكور وضمن نطاقات ضيقة وصيغ اجتماعية وترفيهية ووظيفية لا اكثر، فالمرأة الأردنية حققت قفزة استثنائية في تأسيس فضاءاتها العمومية الافتراضية وهو أشبه ما يكون بحرق المراحل، غير أن تلك الفضاءات لا زالت في بدايات تشكلها نظرا لقلة الخبرة التقنية والفكرية، وضحالة التجربة الجماعية والفردية، ونتيجة لإقصائها عن المجالات السياسية والاجتماعية، وعدم مشاركتها في الحوارات والنقاشات ذات الشأن العام، إلى جانب حداثة العهد بالميديا الجديدة.
من خلال رصد نماذج كثيرة لصفحات افتراضية ومدونات وقروبات على مواقع الشبكات الاجتماعية ومن خلال عينات قصدية، فإننا نلحظ تواجدا كثيفا للمرأة الأردنية على الفضاء الافتراضي ولكن هذا التواجد يتميز بالتناقض والتناحر،وغياب العقلانية في الطرح والتركيز على الذات والإشهار والانشغال بالقضايا الهامشية تحديدا، لكن هذه المرحلة تشي بتطور ما في تلك الفضاءات مرتبط بالظروف والعوامل المؤثرة في واقع المرأة الاجتماعي والثقافي والإنساني، ولا يمنعنا هذا الحكم من الإشارة إلى عدد من النساء المثقفات اللاتي شكلن حالة متقدمة لوعي المرأة الأردنية وإثبات ذاتها من خلال المشاركة في قضايا الشأن العام بمختلف جوانبه ومنها قضايا المرأة المختلفة والإشكاليات القانونية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تواجهها.
تميزت نشاطات المرأة الأردنية على الفضاء الافتراضي بعدة ميزات أبرزها؛ الاهتمام بكشف الذات وتشكيل الهوية وبناء شبكة تواصل مع الآخرين، طرح معاناتها ومشكلاتها والبوح بمكبوتاتها سواء من خلال أسماء صريحة أو مستعارة، الاهتمام بالقضايا المنزلية والترفيهية والاجتماعية بالدرجة الأولى، الرغبة في حرية التعبير وطرح الافكار للعموم، إبراز ذاتها للآخر، والكتابة كردة فعل على الاقصاء والتهميش في المجتمع.
تنشط الهويات الافتراضية بأسماء مستعارة في سياقات اجتماعية وثقافية معينة، فيما تظهر الهويات وتنكشف في السياق والثقافات التي تمنح المرأة جانبا من الحرية كمجتمعات العاصمة عمان وبعض المدن الكبرى
تحاول المرأة وعبر تأسيس صفحتها الشخصية خصوصا على موقع الفيس بوك أن تعيد بناء هوية افتراضية تمكنها من تجاوز الذات الواقعية الواقعة تحت الإكراهات الأسرية والمجتمعية، وعادة ما تلجأ إلى التدوين بأسماء مستعارة خشية الرقابة الاجتماعية، وبذلك تتمكن من التعبير عن ذاتها بكل حرية وتتشكل لها هوية جديدة تستكشف من خلالها ذاتها وإمكاناتها وتستعيد ثقتها بنفسها رغم ما تحمله الهوية الرقمية من مخاطر سيكولوجية على المرأة، فهي تعمق الفجوة بين الواقع الحقيقي والافتراضي، وتستمر عملية استكشاف وبناء الهوية ضمن سيرورة ممتدة ومن خلال التواصل مع الآخر، ونستطيع القول بأن الكشف عن الذات وإعادة تشكيل الهوية بصيغة هوية رقمية هو الملمح الأبرز في تعاطي المرأة مع الفضاء الافتراضي خصوصا في المجتمعات المغلقة.
ولعل العمل على بناء واستكشاف الهوية لدى المرأة حقق إبداعات نسوية نابعة عن اكتشاف الذات والقدرات والإمكانات، غير أن تلك الإبداعات لم تغادر الاطار الفردي للمرأة، ورغم استخدام المرأة للأسماء المستعارة خلال تعبيرها عن ذاتها وواقعها فلا زالت تتعرض للوصم والإقصاء والسخرية في مجتمع ينظر إلى المرأة بشيء من السلبية والنقص.
وتنشط الهويات الافتراضية بأسماء مستعارة في سياقات اجتماعية وثقافية معينة، فيما تظهر الهويات وتنكشف في السياق والثقافات التي تمنح المرأة جانبا من الحرية كمجتمعات العاصمة عمان وبعض المدن الكبرى، وكلتا الحالتين أدت إلى تشكل هويات متمايزة وبدرجات متفاوتة عبرت عن ذلك التمايز.
إن حديثنا عن تأسيس فضاء عمومي للنساء الأردنيات يحمل على عاتقه طرح القضايا الهامة المتعلقة بالمرأة وتحدياتها مثل؛ الإقصاء والتهميش، والعنف، والنظرة الدونية
وعندنا حديثنا عن تأسيس فضاء عمومي نسوي يقوم على الحوار والتواصل والتفاهم والتشارك في القضايا العامة خصوصا في الأردن لا نجد ما يؤشر إلى تأسيس مثل هذا النموذج ولعل الأسباب كثيرة نذكر منها؛ محدودية التجربة النسوية كجماعة مشتركة ضاغطة في المجتمع واختلاف الأنماط النسوية في المدن والأرياف واختلاف السياقات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ولعل المدن الكبرى في الأردن وخصوصا العاصمة عمان تتواجد فيها مثل تلك الفضاءات ذات السقف من الحرية الاجتماعية ضمن سياق الفئات الوسطى تحديدا، لكن الإشكال يبقى بأن تلك الفضاءات مغلقة على نفسها ومعزولة ولا تشكل حالة عامة تؤسس لشبكات تفاعلية تحمل على إصرها النهوض بقضايا المرأة وتمكينها.
إن حديثنا عن تأسيس فضاء عمومي للنساء الأردنيات يحمل على عاتقه طرح القضايا الهامة المتعلقة بالمرأة وتحدياتها مثل؛ الإقصاء والتهميش، والعنف، والنظرة الدونية، وضعف التمكين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والحد من حركتها الاجتماعية وحرياتها عموما، والسلطة الذكورية، والاستغلال والتمييز وغيرها من القضايا الملحة؛ يتطلب رؤية جديدة لإعادة تأسيس وتوجيه فضاءات عمومية في إطار عقلاني تفاعلي من خلال شبكات نسوية تفاعلية تقوم الديمقراطية الرقمية ومن خلالها يتم الخروج من الانغلاق والفردية نحو التواصلية وتحقيق طموحات المرأة وتحقيق حرياتها العامة وإثبات وجودها في المجتمع.