انتقل عالم البرامج التلفزيونية المخصصة للأطفال في السنوات الأخيرة نقلةً نوعية واضحة وصريحة حتى باتت تقلق الآباء وتخلق التساؤلات حول مدى فائدتها أو ضررها على الطفل وعقله ونموّه المتسارع في تلك المرحلة العمرية، فبعد أنْ كانت تلك البرامج محدودةً يمكن مراقبتها والتحكّم بأوقاتها قبل بضع سنين، اتّسع عددها وتنوّعت محتوياتها الآن.
وعلى الرغم من تنوّع وسائل الإعلام المتاحة وسهولة الوصول إليها، إلا أنّ التلفاز لا يزال اليوم الوسيلة الأكثر سيادةً عند معظم الأفراد والعائلات والأطفال، فلا يكاد ينقضي يومٌ دون متابعته أو حتى البحث عن برامجه وتحمليها على أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية.
مشاهدة التلفاز تجعل الطفلَ فاعلًا سلبيًّا غير نشِط، إذ إنه يستعيض بمشاهدته عن أنشطة أخرى كان من الممكن له أن يشارك فيها مثل اللعب مع الأطفال الآخرين
لعلّ الخطر الأكبر للتلفاز يكمن في مرحلة ما قبل المدرسة، والتي تتميز بأهميتها في تطوّر الطفل عقليًّا وبدنيًّا واجتماعيًّا، إذ تنصقل فيها معالم نموّه الإدراكي والاجتماعي، أي قدرته على تحديد وتشكيل سلوكياته الاجتماعية وقدرته على التواصل مع الآخرين من حوله، ويتحقّق ذلك من خلال تفاعله معهم، بما في ذلك أبويْه أو مقدمي الرعاية الأساسيّين له، إضافة لبقية أفراد العائلة أو الأطفال الآخرين.
إذ تحدث جلّ التغيرات الملحوظة في دماغ الطفل خلال الثلاث سنوت الأولى من حياته، نظرًا لأنّ الاتصالات والارتباطات بين الخلايا العصبية تحدث وتتشكّل خلال تلك المرحلة العمرية، وبالتالي تتشكّل قدراته المعرفية أو الإدراكية مثل الذاكرة واللغة والتفكير والقدرة على اتخاذ القرارات.
مشاهدة التلفاز تجعل الطفلَ فاعلًا سلبيًّا غير نشِط، إذ إنه يستعيض بمشاهدته عن أنشطة أخرى كان من الممكن له أن يشارك فيها مثل اللعب مع الأطفال الآخرين الذي يؤدي بدوره إلى تنمية تنشئته الاجتماعية وقدراته التفاعلية مع غيره، وتعزيز تصرفاته وسلوكيّاته أو ردود أفعاله الناتجة عن ذلك.
العديد من الدراسات في السنوات الأخيرة ربطت بين تأخر الكلام أو ضعف القدرات اللغوية عند الأطفال وبين عدد الساعات التي يقضيها أمام شاشة التلفاز
ويؤثر الافتقار لتلك القدرات الاجتماعية من ناحيةٍ أخرى على قدرة الطفل على تعلّم أساسيات اللغة، والتي يتم اكتسابها من خلال التفاعلات اللفظية مع أبويْه أو مع من حوله، ومجرّد سماع الكلمات أو المفردات من خلال التلفاز لا يفي بالغرض، فالطفل بحاجة للتفاعل الكلاميّ أو اللفظي حتى يستطيع اكتساب المهارات اللغوية وتطويرها بما يتناسب مع عمره، كأنْ يطرح الأسئلة ويتلقّى إجاباتٍ لها ويدخل في حوارات ونقاشات.
العديد من الدراسات في السنوات الأخيرة ربطت بين تأخر الكلام أو ضعف القدرات اللغوية عند الأطفال وبين عدد الساعات التي يقضيها أمام شاشة التلفاز. وقد أشارت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال مؤخرًا إلى أنّ الأطفال أصغر من عامين لا ينبغي لهم مشاهدة أي برنامجٍ تلفزيونيّ على الإطلاق.
فالأطفال قبل مرحلة الكلام عند مشاهدتهم لبرامج التلفاز المتنوعة يركّزون جلّ تركيزهم على الصور والاستمتاع بإيقاعها، نظرًا لأنهم لا يفهمون الكلمات، فيحاولون الاستفادة من حركة الصور السريعة التي يتعذر على دماغهم غير المكتمل نموّه استيعابها وتخزينها، بحكم سرعتها الفائقة. وهذا ما يجعل الأطفال يفرطون في التقرب من الشاشة حتى يستوعبوا حركات ما يشاهدونه على الشاشة، إضافةً للرقصات والنغمات والأصوات، ما يضعف قدرتهم على تحصيل مخرونٍ لغويّ جيد، عوضًا عن تشتت انباهمم، الأمران اللذان يلعبان دورًا أيضًا في تعزيز انعزالهم عن محيطهم الاجتماعيّ.
لا يمكن أنْ نهمل الدور الواضح والصريح لبرامج التلفزيون في تنمية المهارات المعرفيّة المختلفة عند الطفل، خاصة اللغوية منها وتعزيز نموه الفكريّ والإدراكيّ
وعلى الرغم من هذه التوصية إلا أنّ الكثير من الآباء يحاولون دومًا البحث عن البرامج التلفزيونية الهادفة التي تتلاءم وتناسب عمر أطفالهم ومراحل نموّهم المختلفة، حيث أنّ التلفاز يعمل في كثير من الأوقات كجليسٍ للطفل في حال انشغال أبويْه وعدم تمكّنهم من قضاء الوقت معه
وبالتالي فهذا لا يعني أنْ نهمل الدور الواضح والصريح لبرامج التلفزيون في تنمية المهارات المعرفيّة المختلفة عند الطفل، خاصة اللغوية منها وتعزيز نموه الفكريّ والإدراكيّ، لكنْ يجب أنْ نتفق أنّ الأمر يقف على كيفية تنظيم استخدامه وفي حال عرف الوالديْن المواءمة بينه وبين الأنشطة الأخرى، دون أنْ يقف حاجزًا أمام تطوير دماغه أو عائقًا في وجه نشاطاته الاجتماعية والتعلّمية الأخرى.
كما ولا يمكن إهمال الدور الذي تلعبه تلك البرامج في تنمية خيال الطفل وصقل قدرته في تأليف القصص والسيناريوهات واستكشاف وجوه بديلة للحقائق والواقع، لا سيّما في حال استطاع من خلالها اكتساب حصيلة لغوية جيّدة من الكلمات والتعبيرات والجمل، مما يمهد الطريق أمام قدرته على التوصل إلى حلول جديدة للمشاكل التي يواجهها في حياته ويفتح آفاقه لطرقٍ مبتكرة للتعامل مع التحديات الاجتماعية والأكاديمة لاحقًا.
ولذلك، فلا يمكن التعميم كليًّا في موضوع التنشئة والتربية، فكلّ أبوين لهما أسلوبهما الخاص، وإنْ كان قرارهما بمنع التلفاز أو التخفيف من مدة مشاهدته، فلا بدّ وأنْ يتمّ استبداله بأنشطةٍ أفضل وأكثر إفادة، مثل القراءة أو الرياضة أو اللعب الجماعيّ أو غيرها الكثير، فواحدة من ألعاب الخيال التي يمكن أن تلعبها مع طفلك أو قراءة قصةٍ ما له قد تغنيه عن ساعاتٍ متواصلة من مشاهدة أحد البرامج. وكلّما استطعتَ زرع التغييرات الإيجابية في بيئته في السنوات الأولى، ستسطيع التحكّم أكثر في سلوكياته وتصرفاته لاحقًا.